من أجل عالم آمن المطلوب: وقف الحرب وتفكيك الناتو وحياد أوكرانيا!
عصام مخول | فلسطين
في السادس من آب 2016، نظّم معهد اميل توما في حيفا ندوة تحت عنوان: “هل تدفع الولايات المتحدة العالم نحو حرب نووية عالمية جديدة ؟ ” وكان لي شرف المشاركة في هذه الندوة، إلى جانب رفيقي العريق الفيزيائي بروفيسور كالمان ألتمان المحاضر السابق في التخنيون، والذي رحل عنا في أواخر نوفمبر الماضي .
لم يكن السؤال المطروح للنقاش في الندوة في هذا الوقت المبكر من التطورات سؤالا ساذجا أو محايدا. فعلى بعد خمس سنوات قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الحالية كانت المقدمات لحرب عالمية جديدة تدفع باتجاهها الولايات المتحدة آخذة بالاكتمال، انطلاقاً من أن الدولة العظمى في عالم القطب الواحد باتت تعتبر ان التهديد بحرب نووية والحشد لها هو أداة مشروعة في علاقاتها مع الأطراف الدولية الأخرى التي تعتبرها أطرافا مرشحة لمنافستها اقتصاديا او عسكريا او سياسيا، أو لمجرد انها تبني مشاريع وتحالفات مستقلة لا تندرج في إطار الأهداف الاستراتيجية الأمريكية الكبرى ومشاريع الهيمنة الامريكية النافذة عالميا.
وفي اطار انتقال الولايات المتحدة من استراتيجية الردع النووي المتبادل التي سادت في فترة الحرب الباردة الى استراتيجية التهديد بالحرب النووية في عالم القطب الواحد الذي تلا تفكك الاتحاد السوفييتي ، يكتب إلبريدج كولبي كبير باحثي البنتاغون وأبرز مؤلفي دراسة وزارة الدفاع الامريكية الصادرة في كانون الثاني 2018 حول”استراتيجية الدفاع القومي الامريكية”:
” لقد تجاوز العالم حقبة “الحرب على الإرهاب” التي انطلقت في العام 2001 ، وانتقل الى حقبة جديدة يميزها احتدام المنافسة بين القوى الكبرى . وقد وضع كولبي عنوانا للفصل الذي كتبه : “إذا كنت تريد السلام فما عليك الا أن تعد العدّة لحرب نووية” . واعتمادا على المنطق الاستراتيجي ذاته فقد طالب نائب الرئيس الأمريكي في إدارة ترامب مايك بينس الصين “بوقف جهودها وطموحاتها للتربع على قمم التطور في اقتصاد القرن ال-21 ، بما في ذلك في مجالات تطوير الانسان الآلي ، والبيوتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي “.. وأردف مهددا: “على الصين أن تعلم أننا نقوم بتحديث ترسانتنا النووية .. نحن نستثمر في قواتنا المسلحة كما لم نستثمر من قبل “.
وبالعقلية العدوانية ذاتها أخذت الإدارات الامريكية تفصح عن نواياها ، وتعجّل مخططاتها على الأرض في شرق اوروبا لحشر دولة نووية كبرى بحجم روسيا في الزاوية، لإذلالها وابتزازها وإخضاعها النهائي لمشاريع الهيمنة الامبريالية الكونية ، وتمدد حلف الناتو شرقا وتطويق روسيا بالقواعد النووية للحلف الأطلسي ، وبدلا من القيام بتفكيك حلف الناتو مع تفكيك حلف وارسو وانتهاء الحرب الباردة ، أخذت الولايات المتحدة والناتو بالتضييق على روسيا وشيطنتها والدفع نحو حسم الصراع معها الى الابد وتطويقها بضم المزيد من دول أوروبا الشرقية الى حلف الناتو .
لم تكن هذه نزوة عابرة لرئاسة أمريكية بعينها ، بل شكلت الخط الاستراتيجي الموجه للإمبريالية الامريكية وبصفتها هذه ، على مدار العقود الثلاثة المنقضية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي ونشوة التفوق التي أسكرت الدوائر الأكثر إمبريالية في الولايات المتحدة ، فعملت بشراسة على تثبيت عالم القطب الواحد من خلال ضمان تفردها بقيادة العالم وصوغه على مقاس طموحاتها للهيمنة الكونية النهائية والتحكم بمصائر الدول والشعوب وتفكيكها وإعادة تشكيلها، على مقاس موقع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة لا تسمح بنشوء قوة اقتصادية او سياسية او عسكرية بموازاتها والى جانبها وتقود الحملات العسكرية لتدمير الدول وتفتيت الشعوب وتهديد كل من يرفض السير في تلمها الاعوج.
لم تشعر الولايات المتحدة بالحاجة الى إخفاء نواياها الحقيقية ، في العام 2005 نشر مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الامريكية – البنتاغون دراسة معمقة بطلب من البيت الأبيض حدد فيها ستة أهداف استراتيجية كبرى على الولايات المتحدة اعتمادها في العالم الناشئ عن تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 ، وبعد هجمات نيويورك في سبتمبر 2001 وما تلاها من خروج الولايات المتحدة الى غزوتيها على أفغانستان وعلى العراق بالتتالي في إطار “الحرب على الإرهاب” . وبرز من بين هذه الأهداف الكبرى هدفان خطيران لم تتورع الإدارات الامريكية ومراكزها الاستراتيجية عن المجاهرة بهما ، حتى باتا رأس الزاوية في الاستراتيجية الامريكية ، ورأس الحربة في أي تدهور في العلاقات الدولية وفي تهديد الأمن العالمي وهما : “تطويق روسيا ” و”تطويق الصين” العملاقين النويين ، إضافة الى: الدفاع عن أمن إسرائيل – وتدمير الإرهاب الإسلامي – والتحكّم بمراكز احتياطي الطاقة – والتحكم بطرق النقل والتجارة العالمية كما صاغتها الدراسة.
هذه هي الخلفية الحقيقية للحرب التي نشهدها اليوم في أوكرانيا ، ليست حربا على أوكرانيا وانما حرب على النظام العالمي المشوه الذي ساد عبر ثلاثة عقود وحرب على تبريد الرؤوس الأمريكية والأطلسية الحامية في شرق أوروبا التي تنكرت لمصالح الامن القومي الوجودية لروسيا في هذه الحالة وتمسكت بنهج عربدة الدولة العظمى.
ماكنة التضليل عبر “شخصنة النقاش” و”شيطنة العدو”!
إن أية محاولة لقراءة التطورات في العلاقات الدولية، وفهم طابع الحرب في أوكرانيا خارج إطار هذه الاستراتيجية الأمريكية المعلنة وبمعزل عنها، ستكون في أحسن الأحوال قراءة سطحية وعاجزة، لكنها غالبا ما ستكون قراءة متواطئة عن سبق إصرار ومتورطة في عملية التضليل الإعلامية الكبرى لتزييف الوعي وتشويه الواقع وتضييع الطاسة في كل ما يتعلق بهذه الحرب وتداعياتها، باعتبار أن هذا التضليل الذي نشهده ليس ظاهرة ثانوية مرافقة لهذه الحرب، بل هو أداة من صلب أدواتها وسلاح فاعل فيها ، لا يقل وزناً عن الأدوات القتالية خدمةً للأهداف العدوانية الكبرى للولايات المتحدة وحلف الناتو اللذين يشكلان طرفا مركزيا في هذه الحرب ومحرضا أساسيا عليها لا حَكَماً أخلاقياً تجاهها.
ويدير الغرب بقيادة الولايات المتحدة حربا إعلامية على الوعي والرواية في مركزها شخصنة الحرب وشيطنة الرئيس الروسي ووصمه ب”النازي” وإلصاق لقب “أدولف هتلر” به ، فيما يبدو وكأنه وصف تلقائي “غير مخطط له” نابع عن حمأة الغضب وردة فعل عفوية علىا ويلات الحرب وآلامها .. غير أن نبشا بسيطا في الأرشيفات والذاكرة يشي بأن استعارة مصطلحات من تاريخ ألمانيا النازية لوصم روسيا وقيادتها ، بهدف شيطنتها ، ما هو الا جزء من حملة معدة مسبقا تخطط لها أجهزة مخابراتية منذ سنوات ، سبقت الحرب بكثير بل كانت توطئة أيديولوجية لتبريرها والدفع الى تأجيجها ، وهو منهج بات عاملا بنيويا مبيتا في حروب أمريكا ، من شيطنة صدام حسين الى شيطنة النظام السوري الى شيطنة ياسر عرفات الى شيطنة معمر القذافي الى شيطنة شافيز وحسن نصرالله بهدف التستر على الأبعاد الاستراتيجية الحقيقية للحروب الامبريالية العدوانية والتستر على سياقها الاوسع . ويكفي أن نستعيد الى الذاكرة الجمعية ، أنه في شباط 2014 تمّ إسقاط الحكومة الأوكرانية الشرعية المنتخبة عبر “ثورة برتقالية ملونة” خططت لها ومولتها الولايات المتحدة بإشراف فيكتوريا نولاند ، نائبة وزير الخارجية الامريكية لشؤون أوروبا وآسيا والناطقة باسم مرشحة الرئاسة الامريكية في حينه هيلاري كلينتون . وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس أوباما يتعامل مع أوكرانيا وجورجيا باعتبارهما عضوان بشكل فعلي في حلف الناتو ، اعتبرت هيلاري كلينتون الرئيس الروسي فلاديمير بوتن منذ ذلك الوقت المبكر (وليس بسبب فظائع الحرب) “مجرد أدولف هتلر أخر” ليتضح أن هذه البذاءة السياسية هي أبعد من مجرد سورة غضب. فاللجوء الى التشبيهات المستقاة من تاريخ النازية لوصف الحالة الروسية تقف من ورائه أجهزة استخباراتية، تريد أن تشوه التاريخ وتضرب الوعي الراسخ في أذهان ضحايا النازية في أوروبا بشأن الدور الحاسم للجيش الأحمر السوفييتي في قصم ظهر الوحش النازي وتقليم أظفاره وإنزال الهزيمة به ولو بثمن أكثر من عشرين مليون ضحية دفعتها شعوب الاتحاد السوفييتي .
إن هناك من يأخذ علينا حقنا في تناول الحرب في أوكرانيا من باب سياقها الاستراتيجي الواسع ، بعيدا عن الأحداث العينية والتفاصيل التي تمعن وسائل الاعلام الغربي والإسرائيلي كجزء منها ، في هندستها والترويج السخيف لها وتلقينها . نحن نعي جيدا أن روسيا بوتين هي ليست الاتحاد السوفيتي ، وأن حنيننا الى العودة الى نظام اشتراكي ثوري لا يمر أبدا عبر الرئيس فلاديمير بوتن والطبقة التي يمثل مصالحها ، ونحن نعي أنه لم يمثل تاريخيا النضال من اجل الحفاظ على الدولة الاشتراكية وإنما مثّل عملية الانتقال ببلاده الى الرأسمالية في فترة الرئيس يلتسين. ولكن الحقيقة التي يهربون منها ، هي أن المشكلة الجوهرية في المعادلة التاريخية الناشئة في أوكراينا هي ليست نابعة عن نهج الرئيس بوتين وسياساته ، وانما تكمن في النظام العالمي المتوحش الذي تقوده وتنفرد به الولايات المتحدة منذ ثلاثين عاما ، وهناك من يريد بالأساس تهريب هذا النقاش .
إن التهمة الجوهرية التي يوجهها البيت الأبيض ومعه أتباعه من دول الناتو وأصدقائهم الى روسيا والى الرئيس بوتين ، تتمحور في أن هدف روسيا من حربها على أوكرانيا هو تغيير النظام السياسي العالمي السائد والتمرد عليه . والحقيقة أنني اتفق مع هذا الادعاء الذي ربما يكون الادعاء الوحيد الصحيح فيما تطرحه الولايات المتحدة وحلفاؤها بهذا الشأن، مع فارق أساسي واحد هو أن هذا المبرر جدير بالمخاطرة من أجله ، باعتبار أن الثمن الذي ستدفعه البشرية لقاء المخاطر الوجودية الناتجة عن استمرار نظام العربدة الامريكية الدولية السائد اليوم من دون رادع ، من شأنه أن يكون باهظاً أكثر وأشدّ وطأة على مستقبل عالمنا من ثمن المجابهة لتغييره ولفرض نظام أكثر توازنا في عالم متعدد الأقطاب ما دام التصدي لتغييره ممكنا .
وأعتقد أن عملية تغيير النظام العالمي السائد قد بدأت ، وهي تجري الان أمام أعيننا ولا عودة عنها ، باعتبار أن أوكرانيا ليست موضوع هذه الحرب التي نشهدها وانما هي الساحة التي تجري المجابهة عليها، بين نظام عالمي انتهت صلاحيته ونظام عالمي ناشئ اكثر توازنا لا بد أن يكتمل . إن السؤال الأكثر صلة اليوم ليس إذا ما كان النظام العالمي السائد اليوم قابلا للاستمرار والحياة ، وانما ما هو الثمن التي ستضطر البشرية الى دفعه من أجل وضع حد لهذا النظام المشوّه واستبداله بنظام عالمي أكثر عدالة وأكثر أمناً وأكثر توازنا .. إن المرحلة القادمة لضمان مستقبل سلمي آمن للبشرية تتطلب وقف الحرب في أوكرانيا ، وتفكيك حلف الناتو الذي بات مؤسسة عدوانية بائدة وخارج السياق ، وحياد أوكرانيا .