الراحمون يرحمهم الله

رحاب يوسف | كاتبة تربوية وقاصة فلسطينية – طولكرم

لن تنال رحمة الله حتى ترحم عباد الله فهم عياله، والعجيب أننا نطلب من الله المسامحة والعفو، ولا نعفو، ولا نسامح، إذا أخطأ معنا أحدهم نعاقبه، بينما عندما نذنب ونعصي ونخطئ نطلب العفو من الله، والجزاء من جنس العمل، ارحم عباد الله خاصة المعذبين المساكين الجائعين والمحرومين، من الناس من يحتاج إلى كلمة مواساة، أو كِسرة خبز، أو قطعة قماش تستره، فينبغي أن ندخل الرحمة إلى قلوبنا، والعطاء هو عطاء الله وكلنا عبيده، الواحد الأحد المتفرد بالكمال والجلال، هو الله جلّ عن الند والنظير.
كان في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم – شابٌ يسمونه حمّارا لتحمّله وجَلَده، وكان هذا الشاب محباً للرسول – صلى الله عليه وسلم – وكان يتمنى أن يهدي الرسول هدية، فكان يذهب إلى السوق، فإذا رأى عكّة سمن أوعسل أوقطعة رداء تمناها للرسول، لكنه لا يملك الثمن، فكان يماكس صاحب السلعة، ويتفق معه؛ ليخفّض ثمنها، فيأخذها إلى الرسول طارقا بابه – عليه الصلاة والسلام – ويقول له: يا رسول الله، خذ هذه هدية، ثم يقول: ادفع يا رسول، فيبتسم الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويقول له: تهديني هديةً وتريدني أن أدفع ثمنها، لكن بقي أن تعلم أنّ هذا الشاب كان مبتلىً بشرب الخمر، فكان يُؤتَى به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مراراً ليُجلد، وفي يومٍ لعنه أحدهم قائلا: “لعنة الله عليه ما أكثر ما يُؤتى به ويُجلد”، فغضب الرسول – صلى الله عليه وسلم – والتفت إلى القائل فقال له: “لا تلعنه، والله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله”، قال الله سبحانه وتعالى “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك” (آل عمران 159)، “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء 107)، والناس خليط من الطائع والعاصي، والقريب والبعيد، والكافر والمحتال، فالرسول رحمةٌ لهم جميعا.
لقد سمّى الله – سبحانه وتعالى – نفسه بخير الأسماء، ووصف ذاته بأكمل الصفات، ومن صفاته الكاملة الرحمة، قال تعالى: “ورحمتي وسعت كل شيء”، وقال عز وجل: “وربك الغفور ذو الرحمة”(الكهف 58)، ورحمة الله – – سبحانه وتعالى – تأتي على أوجه متعددة وصور مختلفة لا يمكن حصرها، منها: أن بعث لنا سيد البشرية محمد – صلى الله عليه وسلم – قال تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”(الأنبياء 107)، وأنه سبحانه وتعالى أنزل لنا شريعة كاملة، بكل نظمها، ومبادئها، و قيمها، وأخلاقها، صالحة لكل زمان ومكان، شريعة ميسّرة لا معسّرة”يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”(البقرة 185)
ومن مظاهر رحمته بنا – جل جلاله – قبول التوبة، ومغفرة ذنوبنا “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”)الزمر:53)
ومن فضل الله وكرمه وإحسانه أنه توكل برزقنا جميعا تحت مظلته، فلا الأبناء وكلوا إلى آبائهم ولا الآباء وكلوا إلى أبنائهم، وسخّر لنا سبحانه كل ما في السماوات والأرض لتنتظم الحياة والمعيشة، فرحمة الله لا يستغني عنها الفقير ولا الغني.
لتعلم أن أحوج الناس إلى رحمتك هي نفسُك، ارحمها بإنقاذها من الهلاك والنار، وكل ما يؤذيها، بطاعة الله والتقرب منه، ارحمها فلا تحملها ما لا طاقة لها به، ثم برّك لوالديك بالإشفاق عليهما، والإحسان إليهما، إن أبويك – أيها الابن – يحتاجان إليك عند المشيب والكِبَر، وضعف القوة وقلّة النشاط والعجز عن الحركة، وإذا خارت قواهما، وصار البياض في شعرهما، والتهبت بالأحاسيس مشاعرهما؛ فهما أحوج ما يكونان إلى عطفك ورحمتك وحلمك، قال سبحانه: “إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا”)الإسراء:23)
وبعد موتهما يصبحان غرباء سفر، ورهناء ذنوب، ينتظران منك دعوة صادقة من ابن صالح يتصدق عنهما، ويحج لهما ويقضي دينهما.
ومن أهم مظاهر الرحمة: رحمة الآباء بالأبناء؛ فيرحم الوالدان الأبناءَ رحمةً مشتملة على الخير كله، تتمثّل في الإنفاق عليهم، والإحسان إليهم، وتربيتهم وتوجيههم، والعقد على أيديهم، والعطف عليهم، ومعاملتهم بالحسنى، وتبصيرهم بطرق الصلاح والهداية، وتحذيرهم سُبُلَ الرَّدَى والفساد والغواية؛ فتلك – والله – هي الرحمة الحقيقية، والتربية النافعة، وليست الرحمة بمجرد إعطائهم مَلذّاتهم، وتمكينهم من شهواتهم؛ بل إن هذه رحمة ضعفٍ وخوَر، ارحم صغارك، واحضنهم، ففي علم النفس يقولون: “إن الصغير يحتاج إلى ثماني ضمات يوميا، قبّلهم، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يقبّل الحسين ويجلسه على فخذه.
ويرحم الزوج زوجتَه؛ فيحسن إليها، ويشفق عليها، ويحسن عشرتها؛ فلا يظلمها ولا يؤذيها؛ بل يأمرها بالمعروف، ويحثّها على الخير، ويوجهها للحق؛ بلا جَفَاء ولا غِلْظة، ولا قُبْح قول، ولا سوء معاملة، ولكن بحكمة ورفقٍ، وأمرٍ بخير، وتحذيرٍ من شر ،فالزوجة التي أخذتها من بيت أهلها تركت أهلها، فكن أنت أهلها، قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”(الروم : 21)
بعض الأزواج يضرب، ويهين، ويشتم أهلها، فلا تدري ربما نزع الله الرحمة من قلبه، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – “خيركم خيركم لأهله “فلك الشرف أن تسمع كلام زوجتك، ترد على هاتفها، تشاورها، وإن سخر البعض منك، ووصفك بأنك “محكوم لأمرها”، كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحمل عائشة لتنظر إلى أهل الحبشة وهم يتراقصون، وكان يعرف متى ترضى عنه وتغضب منه، يقولون له : كيف تعرف يا رسول الله؟ قال: عندما تقول: “لا ورب محمد”أعرف أنها راضية، أي تحلف برب محمد، وعندما تقول: “لا ورب إبراهيم”أعرف أنها غضبى، ارحم زوجتك، فالراحمون يرحمهم الله.
والزوجة التي ترحم زوجها زوجةٌ صالحة، فلا تحمّله ما لا يطيق؛ بل تساعده وتقف إلى جانبه، وتسعى في خدمته وطاعته وإرضائه، والزوج أيضا ينتظر رحمة زوجته، وقد تحل محلّ أمه وأبنائه، فلا عيب إن ساعدت الزوجةُ الزوجَ إن كان فقيراً، فقد أثّر العملُ بفاطمة سيدة العالمين، والرحى أكلت يدها، ولو شاءت أتت بالخدم، لكنها تريد مساعدة زوجها، ولم تقل: أنا سيدة العالمين، لا تكلفيه فوق طاقته، وارأفي بحاله، لاتكثري من الطلبات، وراعي مشاعره، كانت أسماء بنت أبي بكر عائدةً إلى البيت، وعلى ظهرها دلاءٌ ودقيقٌ، فأناخ لها الرسول ناقته فاعتذرت؛ لأن زوجها – الزبير بن العوام – كثير الغيرة، مع أن الزبير بن العوام لامها بسبب رفضها الركوب، لكن مراعاتها لمشاعر زوجها جعلها ترفض، ارحميه إنما هو جنتك ونارك، قد يكون سبباً في دخولك الجنان أو دخولك النار.
إنّ الرحمة واجبةٌ مع الجميع، حتى مع العصاة، وأهل الذنوب، نأخذ بأيديهم، ونرشدهم بالحكمة، والموعظة الحسنة، وندعو لهم، فلا تدري ربما هم مبتلون بالمعاصي، والتي عافانا الله منها والحمد لله، وربما هم أقرب منا إلى الله، والله – سبحانه وتعالى – بعثنا لبعضنا البعض مبشرين لا منفرين، فاللهم ارحمنا برحمتك.
كم نمر على أناس ابتلاهم الله بالجهل، هؤلاء بحاجة إلى أن نعاملهم برحمة، فلا تنهرهم، ولا تزجرهم، ولا تقهرهم، ولا تتعالَ عليهم، كن معلّما لهم بلين ورحمة دون غلظة، لا تسخر منهم ولا تعنفهم، فالجهل يجعل البعض يتصرف تصرفاً خارجاً؛ لأنهم عاشوا في الجهل، هؤلاء تجدهم بسطاء، يرفعون أصواتهم في المساجد في الشوارع في المدارس، خذهم جانبا وعلمهم برحمة.
ذات مرةٍ جاءت والدة إحدى الطالبات إلى المدرسة التي كنت أعمل فيها تريد ضربي بعد أن زُجّ باسمي في مشكلة لا ناقة لي فيها ولا بعير، كانت قد صوّرت إحدى الزميلات جدالها في غرفة المديرة وأسلوبها المتدني في النقاش المليء بالألفاظ التي توحي بجهلها المطبق، طلبت منها إطفاء الفيديو ولم أكمله، بل وشعرتُ معها، وحملتُ سبب جهلها نحن المتعلمين.
كن رحيماً مع المعسرين إن وسّع عليك الله بالعطاء، ومع المستدينن الذين ضاقت الدنيا عليهم “وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ “اصبر برحمة وكرم منك، وكأنك كل يوم تتصدق بألف عن كل يوم تصبر عليه، وضمنت مكانك في ظل العرش يوم القيامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى