اقرأ وشاهد المفكر صادق جواد في حوار فلسفي مع عبد الرزاق الربيعي و وسام العاني
صادق جواد سليمان يقول:
لست مع حوار الأديان بل مع حوار الحضارات
يحدث الخلل عندما تحدث الفجوة بين الرشد والتمكين
الأحكام – وإن نص عليها القرآن – لكنها ظرفية، والمبادئ هي التي لا تتغير
المؤسّسات نحن من يشكّلها لذا هي لا تلام لأنها نتاج لنا
النفس الإنسانية في هذا العصر أصابها شيء من التلوث غير الأخلاقي، ولذلك نحن نشتكي من الفساد
الترشيد أساسي ويجب أن يقترن بالعلم وإذا حصلت الفجوة بينهما فإننا نعرض أنفسنا للمخاطر
لا أرى الحرية مبدأً لأنها ليست مطلقة فالمبادئ لا تكون مقيدة. الحرية في كل الأمور تُوازَن بالمسؤولية
لا تستطيع دولة أن تكيف حقوق الإنسان كما تريد لأنها ستؤاخذ فالمرجعية أصبحت واحدة
الأحكام قد تكون ظرفية، والإسلام لم يفرق في القيمة الإنسانية بين الرجل والمرأة
نحن في جانب المتلقي لما يفرزه العالم من فكر ومن معلومات
لست مرغماً أن تقول كل ما تضمر ولست مطالباً بذلك ولكنك مطالب أن تصدق بكل ما تقول وهذا الفرق بين الإثنين
جائحة كورونا أفرزت وعياً بحقيقة الإنسان وقدرته على التحكم بطبيعة الأمور على الكوكب أمام فيروس ضئيل
قال المفكّر العماني صادق جواد سليمان” إذا أرادت الأديان أن تتحاور، فعليها أن تتحاور حضارياً وليس دينياً. محمد خاتمي مثلاً عندما جاء للأمم المتحدة وتكلم عن حوار الحضارات لم يتحدث عن حوار أديان، بل أن نخرج من قوالبنا ونتلمس المشتركات الإنسانية بيننا ثم نتحاور حول أفضل صيغ لتحقيق ذلك”.. جاء ذلك عندما حلّ ضيفاً على برنامج “كتاب مفتوح” الثقافي الذي يعدّه ويقدّمه الشاعران عبد الرزاق الربيعي ووسام العاني برعاية مركز حدائق الفكر للثقافة والخدمات في سلطنة عمان، وذلك يوم مساء الخميس 18/03/2021، في أمسية افتراضية بُثت على جميع منصات التواصل الاجتماعي، حيث قدم المفكر، الذي رفد الساحة الفكرية بالعديد من المقالات والحوارات المهمة، طروحاته وأفكاره حول عدد من القضايا الفكرية المعاصرة والتحديات التي تواجه إنسان هذا العصر وجودياً وثقافياً، وأضاف”أنا لست مع حوار الأديان بل أنا مع حوار الحضارات بحيث يتمحور خطابها حول الشأن الإنساني فقط بدون الدخول في مقارنات حول خصوصيات الأديان من معتقدات وأحكام لأنها مترسخة ولا جدوى من بحثها إلا من باب ضمان سلامة التابعين للأديان في مواطن الأديان الأخرى”.
وأشار جواد”في أواخر عصر النهضة الأوروبية ظهرت على المسرح الفكري الغربي الفلسفة التجريبية التي نظرت أن كل المعرفة تتحصّل في الذهن البشري عن طريق واردات الحواس والخبرة المكتسبة بالملاحظة والتجريب، بمعنى أنه لا يوجد في الذهن البشري، قديما وحديثا، إلا ما دخله من هذين المدخلين. بالنتيجة، حسب هذه الفلسفة، كل المتكون في وعي الإنسان عبر العصور، من مبان دينية ماورائية، وأخرى علمية عملية، وأخرى فكرية فلسفية، هي حصرا واردات الحواس والخبرة. الفلسفة التجريبية هذه تتتبع الجزئيات للتوصل إلى حكم كلي بمنهج الاستقراء، فلسفة أوسع، “العقلانية”، نظرت أنه إلى جانب واردات الحواس والخبرة، هنالك في مكنون العقل مكنة تستولد المعرفة بشكل مستقل، بالأخص حول كليات الوجود، أي الكون وسننه، وظاهرة الحياة، وظهور الإنسان، وخبرته الحياتية، ومآله بعد الموت. لفلسفة العقلانية هذه تنطلق من حكم كلي مسبق تسقطه على الجزئيات بمنهج الاستدلال، فلسفة أكثر سعة، “المثالية”، نظرت أن الحقيقة المطلقة كامنة في عالم يتعدى عالم الظواهر، لذا هي لا تُستبان إلا بعد عبور الظواهر إلى عالم ماورائي. الفلسفة المثالية هذه تتماهى نوعا ما مع واردات الأديان، لكنها تبقى فلسفة إنسانية المحور والمحتوى، غير معنية بالتنظيرات اللاهوتية أو المباني الأخروية المعهودة في أدبيات الأديان.
في الشرق، نجد الفلسفة الهندية قائلة بمثل ذلك، أي بكمون الحقيقة المطلقة في عالم ماورائي. أما الصين، فإنها لم تظهر ديانات ذات نزوع ماورائي، إنما أفرزت مدرستين في الفلسفة تقاسمتا الساحة الفكرية فيها، وهما “الكنفوشية” و “الداوية”. كلتا المدرستين لم تحفل بالتنظيرات اللاهوتية والمباني الأخروية.
ختاما، في حاضرنا الراهن أرى توجها أوليا في الفكر الفلسفي المعاصر نحو:
(أ) مزيد من استكشاف قابليات الإنسان للتعرف على طبيعة الوجود وسننه.
(ب) مزيد من البحث عن سبل ارتقاء الإنسان في إنسانيته بالنماء المعرفي والتهذيب الخلقي. هذا التوجه يهادن الأديان نوعا ما، مستوعبا وارداتها ضمن المحصل المعرفي الإنساني ككل. هذا التوجه أراه أشرح نظرا إلى الأديان مما سبق منذ بزوغ العصر الإنسانوي الحديث”.
تفاوت في التفكير
وحول تعريف مفهوم الفكر والفرق بينه وبين مفهوم الثقافة، تحدث الأستاذ صادق جواد قائلاً:
“الفكر في الواقع ممارسة عقلية وذهنية لدى الإنسان، ومستوى التفكير يتفاوت من إنسان لآخر لكن لا يخلو من إنسان يتفكر. والمخ كما نعلم يعمل لمدة أربع وعشرين ساعة حتى في المنام. أما الثقافة فحسب فهمي لهذا المصطلح أنه ذو معنيين الأول يتعلق بالمعرفة فحينما نقول إن فلان مثقف فهذا يعني أنه يمتلك نصيباً من معارف عصره، والمعنى الثاني وهو الأعم أن لكل أمة أو شعب أو مجتمع ثقافة بغض النظر عن مستواها وبالتالي لا يخلو مجتمع أو شعب من ثقافة خاصة به. والثقافة فيما يبدو لي هي الأصل في أي تجمع إنساني في أي مكان ومنه تتدرج الأمور إلى تنظيم وتقنين وإلى إفراز أفكار وغير ذلك”
ثورة معرفيّة
وعن مفهوم التنوير، وملامحه المتوقعة في خضم ما يعيشه العالم من صراعات، تحدث قائلاً:
“عصر التنوير سبقته الثورة المعرفية التي كانت معنية بفهم طبيعة الوجود وسننه، ثم انبثقت علوم مستجدة في رصيد الإنسان من تلك الفترة ما قبل التنوير. التنوير عُني بالتعقل أو المنطق العقلي، فإلى جانب المعرفة كمعلومة هناك حاجة إلى تفسير المعلومة وربطها مع المعلومات الأخرى، وبالتالي هناك حاجة إلى مسألة أخرى هي اعتماد ملكة التعقل عند الإنسان في تفسير هذه المعلومات وإفراز فهم متماسك من الفلسفة من جانب ومن المعرفة العلمية المتبلورة من جانب آخر. ما حصل عند إيمانويل كانط أنه بعد أن نظر في نظرية التعقل أو المنطق العقلي وجد أن هذا لا يوفر للإنسان فهماً وافياً لطبيعة الأمور، فكتب أنك هناك حد للمنطق العقلي وأن من وراء ذلك عالم آخر يحتاج إلى ولوجه لكي تتكامل الملكات العقلية عند الإنسان في فهم نفسه وفهم الطبيعة. وكتابه (نقد العقل المحض) هو ليس نقداً، بل هو التحليل النقدي لملكة التعقل لأنها ليست معصومة من الخطأ، وهناك موارد داخل الإنسان يستشعرها هنا وهناك ومن خلالها يتوصل إلى فهم من دون أن يمر لا بالمعرفة العلمية ولا بالتعقل المنطقي. الواقع اليوم أننا تجاوزنا ذاك الحد فالمعرفة العلمية اليوم غاصت بنا إلى أعماق غير مسبوقة، وكلما أشاهد حوارات العلماء الطبيعيين وغير الطبيعيين، وهذا من حسن حظنا أننا أصبحنا بفضل التقدم العلمي نستطيع الجلوس إلى طاولة واحدة مع العلماء المتفوقين، أجد أنهم لا يزالون يتلمسون آفاقاً جديدة فكلما تزداد المعرفة العلمية عند الإنسان تستدعي منه أن يرتقي في فكره لفهم تلك المعلومات واستخلاص خلاصات وافية كاملة منها”.
تحدّيات التنوير
وحول تحديات التنوير في عالمنا العربي رغم وجود كم معرفي هائل، تحدث الأستاذ صادق جواد قائلاً:
“من طبيعة الأمور استبدال أيّ قديم بجديد وهي ليست عملية سهلة ولا متأتية بشيء من اليسر الفكري. وكما نعلم فإن النهضة في أوروبا أتت بعد ألف سنة من الجمود والتي سميت بالقرون الوسطى وفي هذه القرون، كما يقول أحد العلماء الذين نظروا في هذه الفترة، كأن قلنسوة أو طاسة وضعت على جماجم الناس بحيث لا يتاح للعقول أن تخرج مما هي دأبت عليه لفترة طويلة. وتلك المجتمعات عانت من العثار في الانتقال من منظومة فكرية معلوماتية إلى منظومة فكرية معلوماتية مستجدة. بالنسبة لنا فنحن في جانب المتلقي لما يفرزه العالم من فكر ومن معلومات، وما يمكن أن ندعيه نحن في خصوصيتنا طبعاً هي الثقافة والموروث المعروف لدى الجميع. المحاولات كثرت منذ مطلع القرن الماضي على إيجاد مسار يحتضن القديم والجديد معاً وهي محاولات معروفة لدينا جميعاً، إنما المسألة التي نتوقف عندها، أن حراك العالم مستمر، مثلا ما كان ينظر إليه المحاولون في بداية القرن العشرين قياساً إلى ما يتوفر لنا الآن هو ضئيل جداً. اليوم، في الوقت الذي تحاول أن تجد صيغاً توفيقية بين هذا وذاك تداهمك معلومات ومعارف جديدة تكاد تنسف كثيراً مما استقر عندك على مدى قرون. في الجانب الآخر، العالم المعرفي انتبه إلى أن هناك في الصيغ الأولى لفكر الإنسان، وهي في غالبها دينية، إضاءات كبيرة ولطيفة جداً، باستثناء الإضاءات التي في حضارتنا أو الحضارات الأخرى التي تخلفت كالهندوسية وغيرها أيضاً، لا ينبغي تجاوزها بعزلها جانباً، بل استيعابها في المحصل المعرفي الإنساني المتطور. إذا تمكن هذا الفهم فيبدو لي أن فهمنا، عالمياً، وبحكم التواصل الموجود في العالم سيتكامل أكثر فأكثر محتضناً القديم والجديد بصيغ غير متخاصمة بل متقابسة إلى حد ما، وأعتقد أن هذه المهمة هي مهمة عالمية لا تنحصر عندنا ولا في الغرب، ولكن علينا أن نساير أو نكون جزءاً أو طرفاً مسهماً في هذا الجهد”.
نشاز حضاري
وعن تراجع التنوير في مجتمعاتنا في ظل ظهور تنظيمات متشددة ومتطرفة، تحدث قائلاً:
“هذا الظهور هو نشاز يحدث في كل حضارة متحركة، لكن هناك نظرية أنه من الصعب تاريخياً أن تمسح أي شيء استقر في ذهن الإنسان من خرافة أو أسطورة أو غيرهما. ومحاولة طمس هذه الأفكار، بينما الكتب لا تزال تحوي الكثير مما يحفز هذه التصورات، يبدو لي طريقة غير مناسبة، فالطريقة الصحيحة هي مغالبة الأفكار بالأفكار، فأنت لا تدعو السلفيين، أو الذين انحبسوا في الأطر القديمة بالتفكير، أن يتخلوا عما عندهم، كل ما تستطيعه هو الثقة والاعتماد أن الإنسان أودعت فيه قابليات عظمى لاستبيان الأمور على صحتها ولو لم يكن ذلك لما كنا تعيش عالماً كالذي نعيشه مع كل ما حصل من مآسٍ في العالم. كثير من حواراتنا تأخذ طابع المناقشة وهي تكاد تكون بطابع التخاصم بين الأفكار بينما المنهج الصحيح هو طابع المناظرة بمعنى وضع أفكار إلى جانب أفكار من دون التخاصم معها فالأفكار عندما تتخاصم تشتد، فأنا لست معنياً بأن أقول إن ما لديك غير صائب بل أضع أمامك ما أراه أنا صائباً مؤمناً أن عقل الإنسان فطر على أن يحافظ على نفسه فالعقل من الناحية العضوية مفطور على حفظ الذات وحفظ الذات لا يكون إلا بالأفكار السليمة. ومهما كان الجهد متعثراً هنا وهناك إنما بنظري ينبغي أن يستمر هذا الجهد عن طريق مناظرة غير متخاصمة وإنما تترك المجال للناس عامة أن يميزوا بأنفسهم الخطأ من الصواب”.
متبنيات فكريّة
وحول إمكانية وواقعية الإجماع على متبنيات فكرية موحدة لمواجهة الأدلجة، تحدث قائلاً:
“الأدلجة تعطي قوة للفكرة بغض النظر عن صوابها أو خطئها. لما تؤدلجها تأخذ زخماً قوياً من الداخل وبالتالي تطل عليك بقوة أشد. الفكر بمفهومه الجذري هو فكر حر لا يتقيد بأي شيء إنما ينطلق مما يرى في حينه. ترى مثلاً أن الإنسان وحتى المجتمعات تتطور في فكرها. أذكر أن غاندي كان كثيراً ما يكتب ما عنده في الصحف وبشكل يومي وكان يلاحظ عليه أنه يناقض نفسه أحياناً حيث يكون عند فكرة ثم ينتقل منها إلى فكرة أخرى كأنها زئبقية فكرية، لكن رده كان (أنني إذا بقيت عند فكرة واحدة فكأنني تجمدت وأنا إنسان متحرك في فكري ولذلك إذا أردت أن تفهم ما عندي فخذ آخر ما عبرت عنه). بهذا المعنى يمكن أن نقول إن المجتمعات أيضاً، وإن كان بشيء من التباطؤ، تمشي لأن العالم الآن عالم واحد، العلم اليوم موحد في العالم فأينما بعثت ابنك أو ابنتك إلى الجامعة في أي موقع من العالم تجد أن الطالب يدرس نفس الفيزياء ونفس الكيمياء ونفس الفلك ونفس العلوم فليست هناك مرجعيات في العلم متناقضة مع بعضها. الإشكالية في الجانب الآخر جانب الأديان أنها ذات مرجعيات مختلفة أيديولوجياً وفكرياً وسلوكياً إلخ. الآن أيضاً هناك محاولة لأن يكون للفكر مرجعيات عالمية في غير العلوم الطبيعية، فإذا نظرت إلى حقوق الإنسان مثلاً تجد الوثيقة المشهودة وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. حقوق الإنسان الآن تعدت المناطقية وتعدت الدول، لها مرجعية عالمية فلا تستطيع دولة أن تكيف حقوق الإنسان كما تريد لأنها ستؤاخذ على ذلك فالمرجعية أصبحت واحدة. وفي العلم أيضاً المرجعية واحدة فكل الأمور العلمية لا تأتي لدولة واحدة، بل للعالم ككل فالطب مثلاً يتطور للإنسانية ككل والنظم الاقتصادية تتماسك الآن بطريقة غير مسبوقة. قبل يوم لاحظت في أحد المجالس ما جاء من الأدبيات القرآنية وهي مسألة الأمانة التي جاءت في القرآن بشكل عميق جداً كما ورد في الآية (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) وعندما فكرت في هذه الآية قلت يا الله نحن طالما كنا نفكر بالأمانة على مستوى شخصي بينما كل المعاملات في العالم تجري عن طريق الأمانة العامة أي الأمانة المؤسسية. هنا أقصد أن العالم أصبح يتلمس طرقاً جامعة وليست مفرقة، وجامعة بهذا المعنى وليس بالمعنى الذي فهمت به العولمة في بداياتها على أنها تستلب الشعوب خصوصياتها الثقافية. الآن نحن لا ننظر إلى العولمة بنفس الطريقة وإنما دعنا نفكر بنفس المعايير ودعنا نحتكم لنفس المعارف ونفس الأسس الأخلاقية في حياتنا وإلى غير ذلك. هذه رؤيتي المستقبلية ولكنها نشطة إلى حد ما وسارية فنحن لسنا الجيل الوحيد ربما أجيال كثيرة ستأتي بعدنا والله يعلم أين سيكون الإنسان في هذا العالم”.
تواصل فكري
بعدها قدم الباحث بدر العبري مداخلة وشهادة بحق الأستاذ صادق جواد جاء فيها:
“صادق جواد أول ما عرفته في ساحة الشّعب ونحن في نهاية العقد الأول لهذه الذّكرى الاستثنائيّة في الوعي العماني، وبُعيْدها حضرتُ مناسبتين معه مستمعاً، وفي عام 2017م كانت محاضرته في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء حول: كيف تضمن سلامة فكرك، وحينا سألت سؤالا في نهاية الأمسية، ومر الزّمان حتى فبراير 2020م، زرته في بيته في روي لأسجل أول حلقة معه من عشر حلقات لمشروع كتابي، فأول ما شاهدني: قال أنت الّذي سألتني في الجمعيّة العمانيّة، قلت: نعم.
عموما بعد عام من التّواصل مع هذا المفكر، وجدته حالة استثنائيّة، ووجدت العديد من أجوبة التّساؤلات الّتي بحثت عنها بعيدا، ووصلت حتى أمريكا حيث سافرت لأجلها؛ إلا أنني وجدت أكثر الأجوبة عند شخص لا يبعد عني سكناً نصف ساعة!!!
وجدت هذا الرّجل الّذي عاش الهند بتناقضاتها، والغرب بصراعه وتياراته، وبلاد فارس والعراق والخليج والوطن العربي بآماله وتطلعاته، وجدته يعيش في عالم الإنسان بمعنى الماهيّة وليس بمعنى الهويات الضّيقة، فقد تخلّص من العالم الضّيق، فيرى الإنسان كإنسان.
هذا الرّجل لم أره في فكره مع البعد الإنساني إلا في حالتين: تنظيم الفكرة ووضوحها مع الصّدق فيها، في البداية كانت إجاباته دبلوماسيّة معي، ولعل هيئتي الدّينيّة جعلته ينظر إليّ من هذه الزّاوية، إلا أنّه وبعد عشرات اللّقاءات في عام واحد، مع صراحته أخيرا إلا أنّه لم يخرج عن الصّدق في الفكرة، ووجدت صادق جواد معي هو نفسه مع غيري، لا يتلّون في أفكاره، مع مراعاته لظرف السّائل ومكنته.
سألته متى بدأت تنظر من زاوية مختلفة؟ قال لي: “رأيت نموذجا مختلفا من المعرفة، وهو نموذج الطّبيب توماس، والّذي أتى إلى مطرح وأنشأ مستشفى الرّحمة، فهو شخص بسيط جدّا، إلا أنّه يقوم بعمل عظيم جدّا، بيد أنّ منهجه يختلف عن المنهج الّذي نشأنا عليه، حيث نشأت في وسط عالم محتشم يتصوّر أنّه يملك مقاليد الحكمة والمعرفة، وفي الوقت نفسه أرى هذا الشّخص البسيط من عالم آخر غير عالمنا، فحدث لدي تساؤل في نفسي وأنا صغير في السّن لا يتجاوز الثّانية عشرة من عمري: أين توجد المعرفة الحقيقيّة؟ ظلّ هذا التّساؤل يصاحبني حتى حُسِم، ولمّا حُسِمَ كان لصالح العلم، وليس لصالح العقائد أو الفقه”.
وبعد تسجيل عشر حلقات يمكنني أن ألخص المدار الّذي يدور عليه صادق جواد في المعرفة:
أولا: أن تنظر إلى العالم من الخارج، وأن تنطلق من الماهيّة فالهويّة، وأن نحاول الرّقي من البشريّة إلى الإنسانيّة كلّما اقتربنا من الماهيّة.
ثانيا: لا تخاصم الماضي وتراثه، ولا الأديان وطقوسها، ولكن عليك أن تعيش مع الاجتهاد الإنساني في عصرك، وأن تساهم في تطويره ورقيه، لا أن تكون نسخة من الماضي.
ثالثا: أن تتعامل مع العالم من خلال المبادئ الأربعة: العدل والكرامة الإنسانيّة والمساواة والشّورى، فهي مرتبطة بالماهيّة، وليست مضافة من الخارج كالقيم، ولا متعلّقة بالوجدان كالأخلاق، وهي الأساس لبناء الدّول، وتنمية الثّقافات، ورقي الحضارات.
رابعا: الاعتناء بثلاثة أمور أساسيّة قبل الاعتناء بالأمور الكليّة والسّياسيّة، ابتداء أن يصون نفسه أي صحة بدنه، ثمّ أن يوسّع من معارفه، مع الاستعانة من أفكار الآخرين وبحوثهم، والثّالث الاستقامة.
ولقد خلّص صادق جواد رسالته في الحياة بقوله: “أرجو أيضا أن يكون لكلّ منّا دورا في تفعيل هذا التّوجه القائم على تأصل ثابت إنسانيّا، وتفرّع متسام ثقافيّا، لأجل تحقق حداثيّ حضاريّ، قوميّ إنسانيّ، وطنيّ عالميّ، في ترادف واتساق… هكذا إلى أن تحين الآجال، فيرتحل كلّ منّا برضا واطمئنان، مغتبطاً أنّه ساهم، ولو بأقل القليل، في جعل تجربة العيش على هذا الكوكب، مع تعقيداتها، أيسر وأطيب وأثرى للآتية من الأجيال”.
بعدها علق الأستاذ صادق جواد قائلاً:
“أذكر هنا أن شخصاً أطرى الإمام علي فنظر إليه وقال (أنا فوق ما تظن ودون ما أرى نفسي) بمعنى أن نظرة الإنسان إلى نفسه شيء آخر، ولكني أوجه الشكر لبدر لأنه في الواقع أبدى خلاصة لكل ما استقبله خلال لقاءاتنا الماضية”
الأمن الفكري
ثم مضى الأستاذ صادق جواد بالحديث ليتكلم هذه المرة عن مصطلح (الأمن الفكري) حيث قال:
“يجب أن نميز في البداية شيئين، فالفكر لا يقيد لكنه عندما يعبر عنه يلقى ما يصده أو يقيده. الإنسان حر فيما يفكر لكنه ليس حراً وفق الأنماط القانونية الموجودة في كل الدول. التعبير عن الفكر، بوجه عام، شيء أساسي ويعتبر حقاً من حقوق الإنسان غير أن عليه قيود من حيث أن لا يؤدي ما يقوله الإنسان إلى شيء من الضرر كالتحريض أو الإثارة فالقوانين تؤاخذ على ذلك. ومن ذلك أيضاً الادعاء بالكذب على الآخر. حرية التعبير ليست مطلقة ولكنها مباحة في عمومها والأصل فيها الإباحة إلا ما تعارض منها مع المصلحة العامة. مفهوم الحرية كثيراً ما يردد على أنه مبدأ من المبادئ بينما أنا لا أرى الحرية مبدأً لأنها ليست مطلقة فالمبادئ لا تكون مقيدة. الحرية في كل الأمور توازن بالمسؤولية، بلى في الأصل يكون الإنسان حراً بلا قيود تقيده من باب التعسير عليه ولكن لا يكون مطلقاً بحيث يقول كل ما يخطر له فمسؤولية الكلمة ليست هينة وهي من الأمور التي، سبحان الله، انتبهوا لها الناس منذ القدم، ومما يذكر مثلاً أن مسؤولية الكلمة في القرءان الكريم جاءت بوضوح وببساطة حيث وردت في القرءان مقارنة بين الكلمة الطيبة والخبيثة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) ومصداقيتها نراها في حياتنا، فما قاله أفلاطون وسقراط والأولون نجد أننا حتى اليوم نلجأ لهم لكي نتبين جوانب الحكمة مما قالوا، ولعل ما قالوا لازال يؤثر إيجابياً في حياة الناس فهي تماماً كالشجرة التي أصلها ثابت وتفرعها لا حد له. ثم وصفت أيضاً في تكملة الآية (تؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) وبالتالي الكلمة التي قيلت من باب الحكمة في الواقع لا تزال تؤتي أكلها فالتلاميذ يدرسونها والناس يقرؤونها. ولما يأتي القرآن إلى الكلمة الخبيثة ترى الوصف الدقيق (وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) بمعنى أنها تتلون وهذا ما نراه في عالم السياسة وفي العالم إجمالاً. ويمضي القرآن في توضيح مسؤولية الكلمة (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) فكما يؤاخذ الإنسان على فعله يمكن أن يؤاخذ أيضاً على ما يقول إذا كان يؤدي إلى شيء سلبي، وطبعاً هناك مسألة نسبية في هذا المجال. وأنا أقول إنك لست مرغماً أن تقول كل ما تضمر ولست مطالباً بذلك ولكنك مطالب أن تصدق بكل ما تقول وهذا الفرق بين الإثنين”.
الجمود الفكري
وفي تعليق على ما طرحته الدكتورة منى المعولي في مداخلتها من أن مشكلة الجمود في الفكر العربي تتحمل مسؤوليته المؤسسة التربوية لأنها تعتمد على التلقين، قال الأستاذ صادق جواد:
” المؤسّسات نحن من يشكّلها لذا هي لا تلام لأنها نتاج لنا. إذا كانت المؤسسات لا تفي بدورها كما ينبغي فعلى الأمة أو على الشعب أن يغيرها. ومن جانب سياسي، إذا قلنا أن الشعب هو مصدر السلطات وأنه المرجعية الأخيرة في تكوين مجتمعه ومؤسساته وكل ما فيه فهو الذي يلام إذا قصر، لكن إذا جزأنا المسؤولية سيسهل حينذاك تحديد المسؤولية، فكما إن الإنسان الفرد مسؤول عن تصرفاته كذلك المجتمع مسؤول عن كل تصرفاته. الإصلاح ليس كما يفهم أو يردد بأنه عملية إصلاح عطب أو عطل بل الإصلاح حالة مستدامة فلا وجود لحد يمكن أن نسميه حالة اكتمال للأمر. كما أن للإصلاح شرط آخر وهو ما تستطيعه وليس ما تهواه فقط، فما تستطيعه كإصلاح فذاك هو تكليفك. هناك أيضاً الحكومات واجتهاداتها والمجتمعات المدنية ودورها في ترشيد الأمور عامة في المجتمع. وأنا أقول من الصعب أن تأخذ مجتمعاً ما كنموذج لك بل ابنِ نموذجك بنفسك، نعم هنالك مبادئ تتشاركها المجتمعات واستقرت على فهمها أنها أمور مشتركة ومؤيدة من الجميع، لكن كيف تشكل أمورك في الداخل كمجتمع وطني فهذا يعود لك. وننتبه أن القرآن عندما جاء بمفهوم الإصلاح قال (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) وهذا يتصل طبعاً بالآية الأخرى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) فأنت مطالب بقدر استطاعتك أن تحدث إصلاحاً في أمورك وذاك واجب وتكليف وما لا تستطيعه تطمح إليه وتضعه في مستقبلك. من الأمور التي لاحظتها في الدستور الهندي عندما كتبه الهنود عام 1950 أنهم راجعوا دساتير العالم رغم أنهم حضارة عريقة ولها رصيد كبير، ولكنهم لما أرادوا أن يخلقوا بلدهم من جديد قالوا لا بد من دستور، ولما وضعوه بثلاث سنوات بعد الاستقلال راجعوا كل الدساتير في العالم ورأوا ما عند الناس من أفكار حول تنظيم المجتمع الوطني. خلاصة القول أنهم لما جاءوا إلى الحقوق الأساسية وجدوا أن هناك أموراً مرغوبة ولكن غير ممكنة وأموراً أخرى مرغوبة وممكنة فوضعوا الحقوق الممكنة وأسموها بالحقوق الأساسية فهي قابلة للتطبيق ومرغوبة أيضاً، وإلى جانب ذلك وضوعوا ما أسموه بالمبادئ المرشِّدة يعني أموراً لا نستطيع أن ننجزها اليوم لكن تبقى في طموحنا لكي ننجزها من جيل إلى جيل. فالدول التي تكون واعية على نفسها بالفعل يمكن أن تقول أن هذا وضعنا وهذا الذي نستطيعه ونعمله وهذا الذي نطمح إليه من أجل أن تنمو الشعوب والأجيال على تلك الطموحات، ولكي يكون لديها الحافز لتحقيقها مستقبلاً على هذا الدول أن تودع طموحاتها في دساتيرها”.
المسألة النسويّة
وحول مفهوم القضية النسوية ودورها في ارتقاء الفكر تحدث الأستاذ صادق جواد قائلاً:
“أنا حاورت في المسألة النسوية في النادي الثقافي وكان همي في وقتها أن أجد ما هو وضع المرأة في الإسلام تأصيلاً وليس أحكاماً والمرجع هنا هو القرآن باعتباره يصل كل المبادئ التي نعيشها. وكان همي أن أرى حقيقة المساواة في الإسلام بين الرجل والمرأة. فالذي كان يحكم بعدم وجود المساواة كان يقول بأن الأحكام مغايرة، فإذاً كيف تكون المساواة؟ أنا قررت أن أترك الأحكام جانباً لأنها قد تكون ظرفية، فرصدت ثلاث أشياء في الإسلام تؤكد أن الإسلام لم يفرق في القيمة الإنسانية بين الرجل والمرأة، في البداية أنظر إلى آيات الخلق (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) وبالتالي كيف يكون نصف أعلى من النصف الآخر وهو شيء واحد إنما تفرع إلى اثنين متكافئين؟ ثم نأتي إلى المعيار الآخر وهو الأجر، حيث لا يوجد فرق بالأجر على العمل نفسه الذي يمكن أن يقوم به الرجل أو المرأة فهما متساويان في الجزاء (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً). وانتبهت أيضاً إلى أن القرآن يذهب إلى أبعد من هذا حتى في مسألة الولاية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يعني يمكن للمرأة أن تتولى الشأن العام بما فيهم الرجال كما يمكن للرجل أيضاً فهو تبادل في الولاية ولا يقتصر على الرجل إطلاقاً. لذا عندما انتبهت إلى هذه العناصر الثلاث في الإسلام قلت أن الأصل في الإسلام هو المساواة بين الرجل والمرأة. والأحكام التي نرى أنها متغايرة، هي لدور كل منهما وليس في القيمة الإنسانية وهكذا هي نظريتي إلى اليوم وأفهم أن هناك آراء تنطلق من تغاير الأدوار لكن تغاير الأدوار لا يعني تفاوت الحقوق. كما أن هناك من يقول أن للأحكام صحة وثبات المبادئ وهناك من يقول بعكس ذلك باعتبار أن المبادئ لا تتغير ولكن الأحكام تتكيف لخدمة المبادئ. فالأحكام وإن نص عليها القرآن لكنها ظرفية، المبادئ هي التي لا تتغير. لو سألك أحد كيف تنظم مجتمعك من خلال دينك فهل تستطيع أن تشخص المبادئ؟ وهنا أقول أن هناك أربعة مبادئ لا تتغير، وهي ليست إسلامية وحسب بل عالمية، وهي العدل والمساواة بين الناس وكرامة الإنسان والشورى. هذه المبادئ الأربعة مؤصلة في القرآن وهي إنسانية عالمية وكل حقوق الإنسان تجد أنها مستمدة من واحد أو أكثر من هذه المبادئ الأربعة. التأكيد على العلم لم يأتِ بشكل هامشي فالقرآن كتاب ذكر العلم والعلماء بشكل لم تذكره الكتب والصحف الدينية الأخرى، ومع ذلك كنا نعلّم في الكتاتيب والمساجد وليس وفق منهجية كما نعلّم اليوم، وهذا يعني أننا غيّرنا المناهج وغيّرنا التنظيم ولكن ليس عبثاً وإنما لخدمة المبدأ خدمة أوفر ونحن مطالبون بذلك، فإذا كنت معنياً بالعدل فستبحث باستمرار عن الوسائل التي تكون أكثر وفاءً لهذا المبدأ وهكذا بالنسبة للعلم أيضاً. أما فيما يخص تحقق المساواة واقعاً فأنا أقول إن هذا عائد للعادات والتقاليد التي لم تذكر أبداً ذكراً حميداً، وبينت أكثر من مرة أن الذي جاء في القرآن للاحتفاظ بما هو صالح في المجتمع جاء بمصطلح العرف (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)، والعرف عكس العادة والتقليد فهما صعبا التغيير بينما العرف يتحرك مع اجتهاد الإنسان والأعراف هي ما تصالحنا على أنها مفيدة لنا بالفعل. أحياناً تلتقي العادات والتقاليد مع الجوانب الإيجابية وأحياناً لا تلتقي، مثال على ذلك التوسع في الترحيب والتعارف مع أي شخص غريب قبل الدخول معه في أي حوار كما يحدث في المجتمع العماني”.
استلاب الهوية
وعن دور وسائل التواصل الاجتماعي في الارتقاء بالفكر خصوصاً أنها حولت العالم إلى قرية صغيرة وارتباط هذا بمصطلح العولمة، تحدث الأستاذ صادق جواد قائلاً:
“كان لدينا مأخذين على العولمة سرعان ما انتبهنا إليهما، الأول فيما يتعلق باستلاب الهوية بالكامل بمعنى يطورك على صورة الآخر، والثاني أنها لم تكن تستوعب البعد الإنساني حيث يوجد خلل بين التمكين بالعلم والترشد بالحكمة، والآن أكثر ما يجنح له الناس عامة أن العولمة هي الإنسانوية التي هي علمانية بمعنى اعتمادها على المعرفة الإنسانية لكنها إلى جانب ذلك تتضمن الجانب الإنساني وبالتالي أنا أرتاح إلى الإنسانوية بهذا المعنى وأنها في الوقت الذي تحاول أن توعي الإنسان على طبيعة الوجود الذي يعيشه فهي أيضاً تحفزه على أن يتصرف إنسانياً. وفي اللغة العربية عند استعمال كلمتي البشر والإنسان وجدنا بالفعل هناك مراحل تطور فيها الإنسان كان أقرب إلى البشرية وهي أقرب إلى التوازي مع الحيوان، لكن سلم الارتقاء لم يكن من البشرية بل هو الارتقاء إلى الإنسانية التي لا حد لها. تجد أيضاً إن الإنسانية من الأنس بمعنى نوع من المخلوقات تأنس ببعضها والأصل فيها أن تأنس وتتعارف وهي تنمو بهذه الطريقة، لكنها إذا انزلقت من هذا المعراج تجد أنها تتراجع إلى الجانب البشري. وما نسميه بالمادية، فأنا لا أقر بمفهوم المادية، وبدأت أفهم أن المادية هي التي تختزن كل أسرار الكون، والمادة ليست بمعنى كثافة الأشياء بل هي طاقة فكما نعلم أن كل مادة تختزن طاقة، وبالتالي ليس صحيحاً أن نقول (المادية) ولكن نستطيع أن نقول أنه لا نعود إلى البشرية ونتساوى مع الحيوانات التي لا تعيش بالعدالة والمساواة بل (همها علفها) كما قال الإمام علي وتفترس بعضها وتقضي كل وقتها فيما يحفظ لها حياتها. الإنسان بدأ بالفعل يكتشف محيطه أكثر ويكتشف طريقه أكثر لكن الذي يجعلني أشعر بالحذر هو ما أجده من اختلال بين مُكنة الإنسان ورشده، فمن ناحية التمكين هو مُمَكّنٌ جداً الآن لكن الرشد شيء آخر ويحدث الخلل عندما تحدث الفجوة بين الرشد والتمكين وبالتالي يصبح الأشطر هو أكثر أذى ممن دونه في الشطارة. تربية الجيل ليست فقط برفده بالمعلومة بطبيعة الوجود ولكن أن تبدأ من الصفوف الأولى في المدرسة بتوعيته بدوره كإنسان، وأنا دائماً أركز على أن الاستقامة في حياة الإنسان من الأمور المهمة فإذا تهاون فيها خسر إنسانيته”.
انتهاء الفلسفة
وعن سؤال الناقد والأكاديمي العراقي الأستاذ الدكتور سعد التميمي حول انتهاء عهد الفلسفة في ظل التطور العلمي الهائل، وكذلك عن طبيعة العلاقة بين الفلسفة والدين، أجاب الأستاذ صادق جواد:
“العلم مُمَكِّنٌ وليس بمُرشِّد، وإذا أردت أن تستفيد من العلم عليك أن ترشد استعمال الإنسان للعلم، وفي الأدبيات الإسلامية ما جاء في مأثور الدعاء (وأعوذ بك من علم لا ينفع). الشاطرون في العلوم يمكن أن يبنوا جسوراً ويمكن أن يبنوا قنابل. إذاً الترشيد جزء أساسي يجب أن يقترن بالعلم وإذا حصلت الفجوة بينهما فإننا نعرض أنفسنا للمخاطر. أما فيما يخص الدين والفلسفة فهما منهجان يختلفان فيما يبدو لي بجذرية المعرفة، فالدين مرجعيته ليست الاجتهاد الديني كما نفهمه بل مرجعيته شبه ما ورائية، أما الفلسفة فتدين للعلم ولا تستطيع أن تنفصل عنه، كان الناس سابقاً يتفلسفون بدون أن تكون لهم قاعدة معرفية فكان يحصل شيء من الشطط في الأفكار الفلسفية، لكن اليوم لا قوام للفلسفة بدون أن يكون لها سند من المعرفة العلمية. تاريخياً نجد أن المنهجين رشدا الحراك الإنساني كل من منظوره، ولا نستطيع أن نستلب الأديان فيما لها من تنظيم أمور المجتمعات على مر السنين رغم ما حشر فيها من أمور ليست صحيحة تماماً. الفلسفة في الإسلام كان لها بدايات ولكن الذي حصل أن الفلاسفة المسلمين آثروا أن يبقوا في الإطار الديني وبالتالي لم تكن عندنا أنظمة فلسفية قائمة بذاتها، وأغلب الأفكار كانت لاهوتية بمعنى أنها كانت علمية دينية. وهكذا كان أيضاً في العالم الغربي فكل ما حدث في العصور الوسطى كان محوره الدين. الآن على رغم من وصولنا إلى هذا العصر بمسارين هما الدين والفلسفة لكن بوسع المعارف التي حظينا بها وبعمق النظر الذي تكون عند الإنسان في الطبيعة لعله بإمكانه الآن أن يوجد رافداً واحداً من دون أن يستثني منه شيئاً، وهذه نظريتي أن ما جاء في حراك الإنسان كان له سببيات محددة تجعله يفكر بهذه الطريقة دون غيرها. قد يكون هذا العصر هو التقاء الأنهر في شط واحد. إذا تمكنا كمجتمع عالمي من تكوين برامج تأصيلية تساعد في ترشيد تمكين الإنسان وتقويم خلقه نكون قد ائتمنا إنساناً متمكناً علمياً وموثوقاً في أمانته. في القرآن، وأنا كثيراً ما التفت للإضاءات في القرآن، تجد في قصة موسى عندما تنصح البنت أباها باستخدامه قائلة (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) لم تنظر فقط إلى اقتداره بل نظرت أيضاً إلى أمانته. في نظري النفس الإنسانية في هذا العصر أصابها شيء من التلوث غير الأخلاقي، ولذلك نحن نشتكي من الفساد مثلاً”.
زحف فكري
وعن حوار الأديان، وخصوصاً زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة للعراق، تحدث الأستاذ صادق جواد قائلاً:
“نلاحظ أن البابا والسيد السيستاني لم يصدرا بياناً مشتركاً بعد لقائهما الأخير، والاثنان قماش واحد بلونين، وكلاهما تربيا منذ الصغر في أطر محددة لهم، وإذا قسنا قياساً معرفياً فلا أظن أن أي واحد منهما، على المسطرة المعرفية، يمتلك فهماً حول هذا العالم وطبيعة هذا الوجود وطبيعة الإنسان حتى ولو بالمستوى الذي عند طالب متخرج من الجامعة بعد أربع سنوات. هؤلاء يأتون من نفق ضيق، والشيء الذي يحفزهما على التحاور بينهما، في نظري، هما أمران، الأول أثمنه وأقدره وهو حرص كل واحد منهما أن يضمن تعامل مجتمع المقابل مع تابعيه بالحسنى، بمعنى إن كان هناك مسيحيون في العالم الإسلامي فسيعاملون بالحسنى وكذلك في الجانب الآخر إن كان هناك مسلمون في العالم المسيحي فسيعاملون أيضاً بالحسنى، لكن هناك أمر آخر والذي لا أرى فيه تلك الجدارة وهو أن الاثنين في خندق واحد أمام زحف الفكر الإنسانوي في العالم. هم بطبيعة الحال يرون في انتقال المرجعية المعرفية منهم إلى مرجعية إنسانوية شيئاً غير مريح وسيكون اهتمامهم في صد ومعارضة هكذا تيار إلى حد ما. والشيء الآخر في حوار الأديان، وهذه قوالب تصلبت على مدى فترة طويلة، عندما يأتي أحدهم من خلال ما عنده ليحاور الآخر فالنتيجة في نظري هي تباعد وليس تقارب”
آثار الجائحة
وعن آثار الجائحة ودورها في التقارب بين الشعوب، تحدث الأستاذ صادق جواد قائلاً:
“جاءت الجائحة بوعي لم يكن تماماً في حراكنا قبل الجائحة، وهذا على مستوى الوطن الواحد وبين الأوطان ككل. الذي حصل أن هذا الفيروس الذي هو مركب كيمياوي وليس كائناً حياً يحاول أن يستقر في الجسم البايولوجي وينتقل إلى الأجسام الأخرى إذا وجد الفرصة لذلك، فهو يبحث عن شيء لنفسه وليس معنياً بالإضرار بالإنسان، ولكن هكذا طبيعته. وحسب فهم الإنسان الحالي أن الطبيعة في كل الأحوال لا يمكن أن تُعصى فهي تمشي معك كيفما عملت ولكنها تعطيك عواقب ما تعمل. الجائحة أفرزت وعياً بحقيقة الإنسان وقدرته على التحكم بطبيعة الأمور على الكوكب أمام فيروس ضئيل. في البداية الجائحة، سبحان الله، وجدت آية في القرآن استوقفتني (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ….) رسم صورة ميسرة لمجتمع لا ينقصه شيء، ثم فجأة تنقلب الصورة (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أنظر كلمة حصيداً والتي تعني الأرض المحصودة من بعد ثمر فلم يعد عليها من شيء. هذا الانقلاب من حال إلى حال معاكس جداً، في لحظات أوجد انتباهاً منا أننا مجرد جنس حياتي واحد نحتاج إلى ما يحفظ نوعنا وبالتالي هرعنا إلى إيجاد اللقاحات. العبرة في هذا كله أن الإنسان في آخر النهار هو كيان بيولوجي ضعيف في تركيبته وعندما يكون صحيحاً يحسب أن لا شيء يطاله لكن عندما يواجه الفيروس الذي يبدي له ضعفه ينتبه على أن لا يبالغ في مُكنته بالسيطرة على الأمور بل يمشي في الأمور بهداوة وتواضع كما قال القرآن (وَعبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً). في إدراكي أن للأرض استحقاقات على الإنسان فكما يأخذ هو منها، هي أيضاً لها استحقاقات عليه، فتمشي على الأرض بوداعة وإبعاد أي خاطر من خواطر الغرور أو التعالي الذي يسحب من إنسانية الإنسان. المعادلة أن القيمة الإنسانية متساوية بين الناس جميعاً ولكنها لا تتأثر بالقيم المكتسبة، فلو وقف عالم وجاهل أمام القضاء فإن العدل لن ينظر إلى علم هذا أو جهل ذاك. فالتثبت في ماهية الإنسان هي أقدم على التثبت من أي شيء آخر، أنت إنسان مسلم لكن إذا ما تثبت في إنسانيتك فلا تستطيع أن توفي حتى بما يطالبك به دينك وهكذا فالتثبت بالإنسانية هو الأصل بالأمور. إن تهذبت الهويات بالتثبت بالماهية فسوف تترشد وإلا فسوف تساور الإنسان تلك الأفكار السامة التي تقلل من قيمته وإنسانيته”.
وفي نهاية اللقاء أعرب الأستاذ صادق جواد عن سعادته بهذا اللقاء معرباً عن أمله في أن يحافظ الإنسان على صحته ويتجنب ما يضر به وأن يعمل على توسيع مداركه بقدر ما يتاح له حول طبيعة هذا الوجود الذي يتشاركه مع الآخرين، وأن يبقى على استقامة في أمره، وأكد أنه لا يوجد إنسان خلوق وهو شقي ولا يوجد إنسان غير خلوق وهو سعيد فالسعادة والصلاح متلازمان في حياة الإنسان.