مرضى التعصب
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
في قصة للشاعر والفقيه جلال الدين الرومي مفادها أن أربعة من السائحين من أقاليم مختلفة ولغات متعددة؛فارسية وتركية وعربية ورومية، وقد حاولوا الاتفاق على شراء طعام واحد، وتكلم كل منهم بلغته متوهماً أن الآخرين قد عرفوا ما يريد؛ فقال الأول بفارسيته للبائع: نريد أن نشتري “أنكور”، وإذا بالتركي يقول: لا.. نريد “أزوم”، ثم قال العربي: بل نريد “عنباً”، وانتبه الرومي ليقول للبائع: لا.. نريد أن نشتري “استافيل”، وتنازعوا جميعاً مختلفين. فمر رجل من العارفين باللغات وقال للبائع أعطهم “عنباً”، لتشتد دهشتهم جميعاً؛ فقد كان نزاعهم بلا مبرر، حيث عرفوا أنهم يريدون في النهاية الشيء نفسه، وأن تعدد اللغات أدى إلى الاختلاف والتخاصم.
كثيراً ما نرى اختلافات الناس التي لا مبرر لها والتي ترجع إلى تفسيرات شخصية لمواقف تعرضوا لها، وقد تكون هذه من مواقف الحياة العادية، إلا أن التفسير الخاطئ لها يوقع في نزاعات مؤلمة، ويبدو أن علاقتنا بالآخر تعكسفي الغالب قناعاتنا الداخلية ومشاعرنا وأفكارنا، والعلاقات الاجتماعية الناجحة تبنى على ما نحمله في أعماقنا من صحة نفسية سوية، والعلاقات المضطربة تعكس خللاً داخلياً وافتقاراً لمعاني الوفاق والاحتواء وتقبل الآخر.
والمدهش أحياناً أن نرى البعض وقد ظن أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولا يدري أن رأيه يعبر عن وجهة نظره لمواقف الحياة، والتي قد تكون مختلفة تماماً عن الآخر، والعجيب أن أمثال هؤلاءلا يتمتعون بالقدرة على التنازل، ولا يقبلون حلولاً وسطاً لأي موقف يتعرضون له، فإما قواعدهم وإما فلا تفاهم على الإطلاق، فليعلم هؤلاء أنه لا حقائق مطلقة في كثير من المواقف التي تعبر حياتنا.
والمتأمل لمشكلاتنا الاجتماعية يراها تعود إلى خلافات وخصومات مردها فهمنا للألفاظ، إضافة إلى ضيق الأفق وعدم اتساع الإدراك، وإن حواراً يقوم على التحامل وعدم الفهم يقود إلى صراع ونزاع وتعصب وتسرع في إصدار الأحكام، حيث لا أرضية مشتركة للتفاهم الصحيح. والعجيب أن بعض الناس يرتاحون لعقولهم الموصدة، إنهم مرضى التعصب الذي يسكنهم، يرتاح إليهم ويرتاحون له، وكأنه صفة وراثية أصيلة في جبلتهم.
ويبدو أن الطريقة المناسبة للتحاور مع هؤلاء هي الانسحاب، حيث لا مجال لاختراق جدران التعصب السميكة التي تحيط أفكارهم وقناعاتهم، فلا متسع للعقل والمنطق، إنهم يستنزفون طاقاتنا الذهنية، ويكتسحون براح صدورنا دون طائل ولا أمل في إقناع أو رجوع أو حلول ممكنة.
وهؤلاء يستحقون الشفقة فهم مصدر شقاء لأنفسهم ولغيرهم، وشفاؤهم ينبع من داخلهم، يعتمد على عقولهم وقلوبهم، ورغبتهم الحقيقية في تقويم نفوسهم وتطوير ذواتهم.