في السياسة.. لا تكن صادقًا وكُن حكيمًا

سهيل كيوان | فلسطين

من المفارقات أن شعار “لا تكن صادقًا في الشارع بل كن حكيمًا” ينطبق على السائقين كما ينطبق على رجال السياسة في كثير من الحالات، فما الفائدة بأن تكون صادقًا ولك حق الأولوية ثم ترتطم وجها لوجه بشاحنة!.. وهذا ينطبق على الحرب الحالية في أوكرانيا.

واضح أن القوات الروسية تكبّدت خسائر كبيرة أكثر من المتوقع، ولكن ليس بالأعداد التي تتحدث عنها القيادة الأوكرانية التي تزعم أن عدد القتلى الروس وصل إلى ألف قتيل في كل يوم، وذلك للتأثير على الرأي العام الروسي ودفعه للتظاهر ورفض الحرب.

هذا العدد من القتلى الروس الذي يعلنون عنه، لا يتناسب مع عدد الآليات التي يقولون هم أنفسهم إنهم دمّروها، فالهوة شاسعة.

لكن حتى لو كانت هذه الأرقام من القتلى الروس صحيحة، فإنها لا تعني أن الشعب الروسي سيثور على بوتين ليوقف الحرب، هذا إذا علم أصلا بهذه الأرقام وصدّقها، فأعداد الضحايا تبقى سرّية، ليس فقط في روسيا، بل في معظم دول العالم التي تخوض حربًا بما في ذلك أميركا، أو أنها لن تظهر خلال الحرب، بل بعد نهايتها.

الأخبار تصل إلى روسيا مختلفة تمامًا عما يبثه الغرب، ومثال ذلك أنه في الوقت الذي تقول القيادة الأوكرانية إن الروس قصفوا المفاعل النووي في زبروجيا ما أدى إلى اشتعال حريق خطير فيه، فإن الروس يدّعون أن جنودًا أوكرانيين هم الذين قصفوا المفاعل، بهدف الإضرار بالروس الذين كانوا على مشارف احتلاله.

في كل الحالات، إذا كان قصف المفاعل النووي الأكبر في أوروبا مقصودًا من قبل الروس، فهي رسالة قوية من بوتين وقادته العسكريين إلى قيادة حلف الناتو والغرب، بأن بوتين جادٌ جدًا، ولن يتراجع عن هدفه، وأنه مستعد للاحتمالات الأسوأ بما في ذلك النووي، لأن الانسحاب من أوكرانيا، وتركها لتنضم إلى حلف الناتو مع حرّية في التسلّح النووي، لا يقل سوءًا عن خيار اتساع رقعة الحرب بالنسبة لبوتين.

طلب الرئيس الأوكراني زيلنسكي بفرض حظر للطيران فوق مناطق من أوكرانيا ليس سوى وهمٍ، لأنه بهذا يطلب من الناتو إعلان الحرب على روسيا، لأن أوّل صدام بين طائرتين أو بين طائرة روسية وصاروخ أطلسي، يعني بداية الحرب مباشرة بين روسيا وحلف الناتو، وهذه لا يمكن لغرب أو شرق التنبؤ إلى أين ممكن لها أن تصل، ولهذا لن يبدأوا بها.

سيدرك رئيس أوكرانيا ومن حوله قريبا جدا بأن الغرب وأميركا لن يحاربوا نيابة عن شعبهم، وأنهم باسم الحرية والديمقراطية التي يدّعونها، يستعملونهم هم وموارد بلدهم وشعبهم لاستنزاف روسيا الصاعدة اقتصاديًا بسرعة كبيرة في العقدين الأخيرين، وما يترتب على هذا الصعود من إسقاطات على توازن القوى الدولي، وتقاسم المصالح، خصوصًا على ضوء علاقة المصالح المشتركة بين روسيا والعملاق الصيني الصاعد باتجاه الصدارة.

الخطابات التي يخرج بها مسؤولون غربيون عن بطولات الأوكرانيين ووعدهم بمزيد من السلاح النّوعي لن تغيّر شيئا من النتيجة، ولن تحقق هزيمة لروسيا مهما بلغت الخسائر.

صحيح أن المقاومة ستكّلف الروس عددًا كبيرًا جدا من الضحايا، وربما أكبر من المتوقع بكثير، وهو ما صرح به بايدن رئيس أميركا قبل بدء الحرب، فقد كان يدرك نوعية الأسلحة التي تلقاها الأوكرانيون، ورغم ذلك فهو ليس نصرًا، بل هي تضحيات كبيرة سيقدمها الأوكرانيون من دون أن يحصلوا على الاستقلالية الكاملة في مجال التسلّح والانضمام إلى حلف الناتو، ولن يستعيدوا المنطقتين المنفصلتين في جنوب شرق أوكرانيا، ولا السيطرة على حوض البحر الأسود.معظم الناس في روسيا يرون الحرب من زاوية مختلفة عما يراها الأوروبيون أو مناطق أخرى من العالم، فمعظمهم يحملون المسؤولية للرئيس الأوكراني بأنه لعبة بيد الغرب، كذلك فهم يرون في بوتين منقذا ومخلّصا اقتصاديًا فقد ارتفع مستوى الحياة ومتوسط دخل الفرد بصورة كبيرة في العقدين الأخيرين، فبعد أن كان راتب العامل 80 دولارا في 1995 تضاعف أكثر من عشر مرات، وصار، كذلك فقد نشأت طبقة متوسطة تشمل حوالي 50 مليون من الروس، ويرون في بوتين مخلِّصا وقائدا.

الخيار الآن بيد الرئيس الأوكراني، وعليه أن يكون “حكيمًا وليس صادقًا” وتحمّل مسؤولية إنقاذ بلده، بأن يعمل على تحقيق وقفٍ لإطلاق النار بأسرع ما يمكن وأن يتمتّع بمرونة قصوى أمام المطالب الروسية، حرصًا على بلده وعلى أرواح أبناء شعبه، فما الذي سيربحه الشعب الأوكراني من مقتل مئة ألف روسي، ما دام أن النتيجة لن تكون مختلفة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى