توحش الليبرالية الأمريكية.. سيمور هيرش في مذكرات استقصاءاته
سعيد مضيه | فلسطين
زيوف ديمقراطية الليبرالية
تنطوي مذكرات سيمور هيرش، “مذكرات صحفي استقصائي”، على كم هائل من البينات، حيث بزغ المحافظون الجدد ينشرون فاشية الليبرالية الجديدة. تعقب هيرش كل ما تخفيه دعاية الليبرالية، ليكتشف التضاد بين جوهرها- الليبرالية ( نظام التفاهة حسب وصف الدكتور ألان دونو) وواجهتها البراقة. ترجم كتاب المذكرات الدكتور محمد جياد الأزرقي وصدر بالعربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون، أيار / مايو 2019 في478 صفحة. أهدى المترجم الكتاب “للذين ينحازون للوجع الوطني والإنساني”.( كتب المترجم أسماء بالعربية مستبدلا حرف غ مثلا بحرف كاف تعلوها فتحةكما في كينغ، و”تش” في ريتشارد ثلاث نقط تحت ح ، نو بدل نيو في كل اسم يرد بالمذكرات). وخلال تقصيه أزاح هيرش النقاب عن شروخ وثقوب في نظام الليبرالية تعشش فيها الديدان والصراصير، والميكروبات المولدة لمختلف الأوبئة والعلل. مجتمع الليبرالية عليل .
في طيات الكتاب يعبر هيرش عن رجل لا تنطلي عليه الزيوف، عاشق للحقيقة يتعاطف مع المقهورين ، ضحايا التزييف والتلفيقات. يسرد أكداس الأكاذيب التي فض غشاوتها، وفي حلقات قادمة سوف نأتي على صنوف المعاناة التي يتكبدها كي يمسك بالحقيقة وبالعدالة. ذلك ان شعاره “لا أصدق أن امي تحبني حتى احصل على البينات المادية”. مذكرات صحفي استقصائي تضمن بدوات هيرش يتقصى العلل التي تسببت فيها الدبلوماسية الأميركية محليا وخارجيا.
كيف توجه هيرش إلى مهنة التقصي؟
في بداية عمله الصحفي سمع هيرش في مركز للشرطة أحدهم يتباهى بقتل رجل أسود، رصاصات بالظهر! طلب نسخة من تقرير المحقق في الحادثة، ووجده مغايرا لما سمعه باذنيه، وطبيعي ان ينفي الشرطي ما قاله، لو تابع القضية ؛ كتب في مذكراته: ” ملأني الحزن لضعفي وضعف مهنتي، التي قيدت نفسها بالرقابة الذاتية بحجة المرونة. لقد كرهت هذين المفهومين منذ تلك اللحظة، واخترت الطريق المغاير لذلك تماما “. اختار هيرش التقصي لكشف ما تخفيه السياسات الرسمية، مع الحرص على التوثيق .
الصدفة فتحت ذهن هيرش أولا على الحالة المزرية لسكان البلاد الأصليين -علة العنصرية بالمجتمع الأميركي. أورد المترجم في مقدمته نقلا عن المؤلف، “كانت ولاية داكوتا الجنوبية الموطن الأصلي لحوالي تسع قبائل من سكان أمريكا الأصليين…يذكر هيرش أنه يوجد عدد محدود من سكان البلاد الأصليين ممن يعملون في عاصمة الولاية، وليس هناك اهتمام يذكر للمجلس التشريعي للنظر في ظروفهم، ويا لها من محنة في أواخر العام 1962، كانت الأوضاع في مناطق تجميعهم القسري سيئة للغاية (يبدو أن إسرائيل نسخت التجربة لتجميع عرب النقب داخل إسرائيل!) بلغت البطالة في حالات نسبة 90 بالمائة، اشتداد الفقر وارتفاع حالات الانتحار وكذلك ارتفاع نسب الإصابة بمختلف الأمراض، منها الإفراط في شرب الكحول. كانت المسألة تبدو له ممارسة للعنصرية، وان ضحايا هذا التمييز خلافا لواقع الحال في شيكاغو ، بعيدين عن الأنظار” [10] . هناك حقائق يطمسها الإعلام الرسمي ، او إعلام التيار الرئيس. إن محنة صحفي التقصي ، جوليان أسانغ، شاهد على اضطهاد سلطات كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لصحافة التقصي.” اوباما بدأ يضيق الخناق على من يسرب معلومات سرية أكثر من اي رئيس سابق”[468]. وقبل إدارة أوباما كانت إدارة بوش الابن، تعاقب من يسربون الأسرار. “برز تشيني كقائد لنخبة من الليبراليين الجدد ابتداءً من 11 سبتمبر( أيلول 2001 )، عمل كل ما بوسعه لتقويض رقابة الكونغرس على الحكومة” [438]”. يضيف هيرش: ” علمت بالمزيد من المعلومات من مصادري الداخلية حول مدى سيطرته على البيت الأبيض. ولكن للمرة الثانية كانت قدرتي محدودة للكتابة عما اعرفه لخوفي على سلامة مصادري، وهو عبءٌ أثقل كاهلي” [438].
وأسلوب آخر لتمنيع حصانة “بيت الأسرار”. بعث مراسل مجلة تايم ، هاريسون سولزبري، من فييتنام رسائل صحفية “عن مشاهداته لأدلة على قصف أميركي واسع لهانوي استهدف بشكل واضح المدنيين. كان رد البنتاغون مباشرا وقاطعا بالإنكارالتام لأي قصف داخل حدود مدينة هانوي، وانطلقت إشاعات كررتها العديد من الصحف مفادها ان سولزبري ومجلة تايم يقومان بدور العمالة للعدو.[114] هنا نستذكر الدكتور ألان دونو وكتابه “نظام التفاهة” يسوق التفاهة في استجابة وسائل إعلام وأكاديميات العلوم لتجنيدها في خدمة الطبقة المحاكمة ، تزور الحقائق وتشيطن من يسرد الحقيقة. وما زالت التفاهة تتوارد في تصريحات راهنة.. واتهم هيرش أيضا بأن عمله الصحفي “ليس إلا محاولة متعاطفة مع الجهات الشيوعية، ويجب مقاطعة ما يكتب وعدم نشرهأ و دعوته للمشاركة”.[206] لكن الحقيقة تسطع كالشمس. “كنت في طريقي لحضور مؤتمر صحفي ‘لمسئولين أميركيين’ ، في العادة شخص او اثنان من رفيعي المستوى ذكرا فيه جهلهما بما تحدث عنه سولزبري، وان الضرر الذي أصاب المنشئات المدنية ناجم عن سقوط الصواريخ المضادة للطائرات التي تطلقها دفاعات فييتنام الشمالية لاستهداف القاصفات الأميركية, وهذه بالطبع كذبة يسهل ‘هضمها’”[114]. ثم يقول: “تناولت العشاء مع أدميرال رفيع المستوى ويشغل منصبا حساسا في البنتاغون، أدركت تضارب مشاعره تجاه الحرب وعبرت له عن مخاوفي من قلة الأمانة لدى القيادة في البنتاغون. كان واضحا انه اتفق معي بالرأي ، لكنه لم يرد عليه… لقد مل هو نفسه من الأكاذيب. أخبرني (في لقاء آخر معه)انه توجد صور التقطت بعد قيام إحدى الغارات يسمونها في البنتاغون بي دي أيه، لتقييم الأضرارالتي أحدثتها الغارة، وتظهر الخراب الذي لحق بالمواقع المدنية التي كشفها سولزبري في تقاريره…”[115] .
لفت هيرش اهتمام العديد من الضباط وكبار المسئولين، بجرأته وصدقه، لفت اهتمام العديد من الضباط وكبار المسئولين الأميركيين، نظرا لجرأته وصدقه ومحافظته على مصادر معلوماته، وراحوا يزودونه بالأخبار. ومع هذا كانت تقاريره الصحفية تدحض بوقاحة ، وأحيانا يخفيها هيرش مخافة ان يكشف مصادر معلوماته، ويعرضهم للعقوبات القاسية. الإدارة الأميركية وسائر أجهزة الدولة بيت أسرار مسيّج بإلإرهاب. ومع هذا تجد الدعاية الأميركية الجسارة الوقحة باتهام مجتمعات غيرها انها ” مغلقة”.
تسلم هيرش وظيفة مراسل بوكالة الأسوشييتدبرس لتغطية قضايا الحقوق المدنية في شيكاغو، وتعاطف منذ البداية مع المقهورين ضحايا التمييز العرقي ، مأ تجلى في جميع كتاباته، أتاحت له مهمته فرص لاتصال واللقاء بالقس مارتن لوثر كينغ.” كان كينغ عبقريا في معرفة نوايا الصحفيين واستطاع ان يميزني وغيري ممن اظهروا الولاء للقضية…كان يذكر دائما ان الجماهير هي المحرك الأساسي لحركة الحقوق المدنية… في ليلة متوترة الأجواء في شيكاغو ، تحدث ووقع بصره علي فقال : ‘كم هو صعب ؟’ ولوى بإصبعه نحوي، وقصد أن أنتظره لأنه يريد أن يفضي الي بالمزيد…وبعد حوالي عشر دقائق انتحى بي جانبا واعطاني المزيد من المعلومات. ومن بعض تلك الاقتباسات اللاذعة، خيبة امله بإدارة جونسون لجعل شعلة القضية تتقد ليوم آخر ” [99].
كشف هيرش عن مذبحة ماي لاي بفييتنام بعد جهود بذلها للالتقاء ببطل الجريمة، الملازم وليام كالي. كان الصمت يلف الدوائر الأميركية ،الرسمية والإعلامية، التي بدت غير مبالية بما جرى أو سارعت لنشر الأكاذيب لتغطية الحدث المرعب. صدمت القصة الكثيرين وجعلتهم يفكرون بطريقة لا عقلانية. “اتصل بي قبل ساعات من بزوغ الفجر بيتر برسترَب، ليقول لي انني ابن عاهرة كاذب، لا يمكن ان يقتل عسكري واحد 109 مدنيا ؛ اعتقدت انه مخمور لكن لم استطع بعدها العودة الى النوم…كان رقم هاتفي موجودا في دليل التلفونات ، وترتب على ذلك انني تلقيت خلال الأشهر التالية سيلا من المكالمات والشتائم والتهديدات الرخيصة من أشخاص غاضبين.”[205]
بعد مذبحة ماي لاي برزت فضيحة مختبرات الأسلحة الكيماوية، وتصدى هيرش لإماطة اللثام عنها. في وسط شهر ينايرمن عام 1967كتبت صحفية موهوبةظن اسمها إلنرلانكر، مقالة من جزاين حول مخاطر برنامج البنتاغون لتطوير بحوث الأسلحة الكيماوية والجرثومية، الذي زيدت ميزانيته 300 بالمائة خلال الفترة 1961-1964.”عهد للجيش بهذا البرنامج وكان مسئولا خلال إدارة جون كندي عن الاستعمال المتزايد للمواد الكيماوية التي تقتل الزرع وتجرد الأشجار والنباتات من أوراقها في فييتنام الجنوبية”.[126] علم هيرش من تحرياته الدؤوبة ممن عملوا في البرامح أن “البرنامج تجاوز بعيدا اهدافه المرسومة لتأمين الدفاع ضد الهجمات السوفييتية”[126] ولأسفه الشديد ذهبت تحريات هيرش أدراج الرياح؛ “في منتصف شهر إبريل تحولت سلسلة مقالاتي حول السلاح الكيماوي الى قصة واحدة اقتصرت على ما يقارب الف كلمة، دون التشاور معي، نشرت بعد منتصف ليلة الأحد، وهو أسوا وقت ’لدفن‘ أية أخبار صحفية”[129]. انتقل الى صحيفة أخرى ” نشرت مقالة في مجلة نيو ريببلك وضعت لها عنوانا مثيرا ‘قطرة واحدة كافية للقتل’ ضمنتها قائمة بأسماء52 جامعة ومركز بحوث حصلت على عقودعسكرية ارتبطت بحرب فييتنام… حركت مقالتي المشاعر ، فانطلقت مظاهرات الطلاب داخل الأحرام الجامعية للتنديد بذلك التعاون”[130]. انتقل هيرش لتقصي استخدام مواد كيماوية لإحداث العواصف لعرقة تحركات العدو وعدم كشف الطائرات المغيرة… كما بدأ يتابع التقارير عن قيام وكالة المخابرات المركزية الأميركية بتأسيس شبكات لتهريب المخدرات في جنوب شرقي آسيا، وتابع أيضا الغارات الجوية لتدمير السدود في فييتنام الشمالية وانطلاق تلك الغارات من مطارات سرية في لاوس.”[27]
ثلاث قضايا شغلت وكالة المخابرات الأميركية حملت بصمات كيسنغر، وينكر معرفته بها، “الرجل يتنفس كذبا ” [292] القضايا هي “القصف السري لكمبوديا، ونشاطات فريق البيت الأبيض من السباكين ( السطو على مكتب الحزب الديمقراطي وعرفت بفضيحة ووترغيت) وعمليات وكالة المخابرات المركزية ضد الرئيس الليندي بتشيلي ” [293]. فضحت قضية قصف كمبوديا من الجو ، في حين سجلت كذبا غارات على فييتنام . افتضح أمر تزييف سجلات الطيران بواسطة رائد في سلاح الجو تقاعد حديثا واسمه هال نايت، وهو ديمقراطي مناهض للحرب.” [293] في مقابلة مع نايت أخبرني ” كانت بعض الطائرات تحمل رؤوسا نووية وتقوم بدوريات متتابعة على حدود روسيا والصين . كان طيارو بي52 على أهبة الاستعداد بانتظار أن يتلقوا امرا مباشرا من الرئيس لإطلاق جحيم من القنابل النووية على روسيا وبدأ الحرب العالمية الثالثة” [294]. من عادة هيرش أن يبلغ المسئول عن القضية التي يود نشرها . ” اتصلت بالوزير ومستشار (الأمن القومي)، هنري كيسنغر …وذكرت له ما أعرف مما تذكره هال نايت .. غير أن ما حصلت عليه منه لم يكن أكثر من سلسلة من الأكاذيب.” [294].
في الفصل الأخير تتبع هيرش تعاون المخابرات الأميركية مع حركات الإرهاب في الشرق الأوسط.”أصبحت مهمتي في حماية مصادري أكثر تعقيدا بتزايد سلطة تشيني . وكالعادة كنت أعرف أشياء لم أقدر على الكتابة عنها في حينها ، خشية انكشاف مصادري من قبل العاملين في داخل الحكومة.أعرف على سبيل المثال ان قرارا قد اتخذ أواخر عام 2001 بدافع من الجمهوريين من المحافظين الجدد داخل الحكومة وخارجها بسحب العديد من القوات الخاصة العاملة في أفغانستان ، والتي مهمتها تصيد ابن لادن . السبب هو الاستعداد لبناء القوات العسكرية من اجل غزو شامل للعراق… نشر هيرش خلاال 15 شهرا القادمة، وحتى بدأت أميركا حرب الخليج الثانية (مارس 2003) المقالات الواحدة تلو الأخرى حول تشويه المعلومات المخابراتية والتلاعب بها والاكاذيب الرسمية عن أسلحة الدمار الشامل. ” [437]. كيسنغر استبدل بديك تشيني يسيطر على البيت الأبيض. على المدى القريب ، فإن كافة ما أخبرت به وما اعتقدته هو صورة قاتمة لإدارة بوش –تشيني ، واقتنعت ، كما حدث في فضيحة ووترغيت أن القادم سيكون أسوأ.”[439] .تحول انتصار أميركا في العراق الى احتلال شامل ومقاومة تنمو وتتسع يوميا .كان رد أميركا هو الضرب بعنف أشد وزيادة عمليات الاغتيال السياسي والسجن والتعذيب….والذين يموتون نتيجة التعذيب لا يتم دفنهم ، بل تتم إذابة جثامينهم باستعمال المحاليل الكيماوية”.[440] اثنان من الحزب الديمقراطي في لجنة الاعتمادات التابعة لمجلس الشعب (يبدو ان المقصود مجلس النواب) ديفيد أوبي رئيس اللجنة وجون مرثا ، سبق ان خدم ضابطا في البحرية وله علاقات طيبة مع البنتاغون. ” فوجئت من مرثا انه يعرف (عن تشيني) أكثر مما أعرف، وكان حذرا للغاية. .. أخبرني أوبي أنه التقى بتشيني وأبلغه انه “يخالف الدستور حين لا يحصل على تفويض من الكونغرس حول كيفية الحصول على التمويل وصرفه. كان جوابه ان لدى الرئيس بوش كافة الصلاحيات لتنفيذ ما يراه ضروريا خلال وقت الحرب . كانت خلاصة الرسالة التي خرج بها أوبي كما أخبرني‘ إذا كنت لا تحب ما نقوم بعمله فبإمكانك تقديم الشكوى ضدنا في محكمة فيدرالية’ “[440]
“بعد مرور أشهر قليلة على غزو العراق استلمت خلال مقابلة خارج البلاد مع جنرال كان مسئولا عن عمليات التجسس الأجنبية لبلاده، نسخة من خطة الجمهوريين من المحافظين الجدد حول سيطرة أميركا على الشرق الأوسط. الجنرال المذكور حليف قوي لأميركا ؛ لكنه كان مستاءً من السياسة العدوانية لإدارة بوش – تشيني… الوثيقة (التي تسلمها من الجنرال)توضح ان الحرب ستعيد تشكيل خارطة الشرق الوسط… ستمكن أميركا من فرض سيطرتها على المنطقة… النصر على العراق سيقود الى إعطاء إنذار نهائي لدمشق “التابعة” لإرادة إيران وحزب الله وياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية وكافة الجماعات المعادية لإسرائيل‘ انهم سيقاتلون من اجل حياتهم. السيطرة الأميركية قادمة لا محالة ، وهي تعني إبادتهم جميعا’. اتفقت والجنرال الأجنبي ان المحافظين الجدد يشكلون تهديدا للحضارة الإنساانية”.[441] “عرفت فيما بعد طلبا من قيادة الجيش الأميركي المتواجدة في مدين شتوتغارت في ألمانيا .. أن تبدأ وضع الخطط لغزو سوريا . رفض جنرال شاب القيام بتلك المهمة/ وهو الأمر الذي استحسنهأصدقائي العاملين داخل المؤسسة العسكرية ، رغم أن الرجل قد خاطر بمركزه”[442].
ضابط طيار عراقي اكتسب ثقة فريق المفتشين الدوليين نظرا لنزاهته . بعد سقوط بغداد اتصل يطلب العون من الفريق، ومن بينهم سكوت ريتر ، الرائد في البحرية ، وكان قد “خلق ضجة عامة إثر هجمات 11 سبامبر بإصراره على أن العراق لا يملك أسلحة نووية[444]. قدمني سكوت للطيار اتفقنا بواسطة الانترنت على اللقاء في دمشق حين يكون بمقدوره السفر بالسيارة. “كانت لدى الطيار أخبار محزنة عن أهوال الاحتلال الأميركي، بما فيها الغارات التي قام بها الجنود الأميركيون على البيوت وقيامهم بسرقة الأموال والمصوغات الثمينة”[445]…. أخبرني عن عرفاء يقومون بحملات تفتيش منزلية وإلقاء القبض على المواطنين وطلب الأموال مقابل إطلاق سراحهم. كما كان الضباط الكبار يتلقون الرشاوى مقابل الحصول على العقود المحلية والأجنبية . في شهادة لأحد المترجمين العراقيين” ان الجنود كانوا يسيئون معاملة السجناء ويبتزون بشكل مستمر الأموال من المواطنين عن طريق التهديد باتهام الأميركيين لهم أنهم يتعاونون مع العدو” [445]. في شهادة المترجم، ” تم الاتفاق مع بعض السجناء بإطلاق سراحهم مقابل انضمامهم الى المقاومة، لكي يكونوا جواسيس … ” كما أنني تمكنت من الحصول على شيء أهم ، وهو تقرير داخلي عن تحقيقات جنائية عما جرى في سجن أبو غريب أعده ضابط برتبة لواء اسمه انتونيو تاكيا”. كانت محطة سي بي إس تنشر بعض الصور ضمن برنامج 60 دقيقةعن التعذيب ، إلا أنها كانت تمارس رقابة ذاتية ، تتعمد عدم إغضاب المراقبة . وهذا تصرف الانتهازيين من الإعلاميين كي لا يفقدوا ثقة الجمهور يقدمون على النشر بتصرف. محطة سي بي إس عرضت مرتين في الأسبوع برنامج 60 دقيقة . ” … أقنعت رَمِنك (رئيس التحرير )بعدم حاجة مجلة نيويوركر أن تعتمد شيئا من برنامج 60 دقيقة ، وأن نشرنا لتقرير تاكوبا سيوفر ملايين الدولارات من تكاليف الدعاية للمجلة”[446 ]. ، “اتصلت بمنتجة البرنامج واخبرتها ان بحوزتي صورا لم يعرضوها وتقريرا ، وإذا متنعت المحطة (سي بي إس)عن نشر الصور في الأسبوع القادم فلن يكون امامي خيار إلا أن أكتب في مجلتنا ان المحطة تمارس الرقابة الذاتية على ما تعرضه. .. اضطر دان راذر مقدم البرنامج للقول “ان سي بي أس مضطرة لعرض الصور لأن وسائل إعلام أخرى تنوي فعل ذلك… ما كان من الصعب أن أخمن أنه امر بأن يأتـي بمثل هذا العذر الأبله لعرض قصة بمثل هذا الأهمية” [447] . ذكر سيمور في هامش (صفحة447و48) مرت سنتان حين التقيت بالجنرال تاكوبا. أخبرني أن رامسفيلد(وزير الحرب الأميركي) كان على قناعة ان تاكوبا قد زودني بنسخة من تقريره. قال أنه طُلِب منه مقابلة الوزير بعد نشر التقرير، وقوبل بالسخرية والاحتقار‘ ها قد حضر الجنرال المشهور تاكوبا …صاحب التقرير المعروف’، قال رامسفيلد اما م عدد من كبار الجنرالات” …. التقينا مرارا، ” ما زلت مأخوذا بأمانته وصدقه وصراحته . أخبرني بألم انه كان مرة بعد ( فضيحة أبو غريب ) في سيارة ليموزين مع الجنرال جون ابي زيد الذي أنيطت به قيادة الحرب المتخبطة في العراق. رفع أبو زيد زجاج السيارة الذي يفصل ما بينهما وبين السائق ، وحذر تاكوبا أنه ذهب بعيدا وعميقا في تحقيقه. ‘ أنت وتقريرك ستخضعان للتحقيق’، أضاف تاكوبا ‘ وهذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها وانا أخدم في الجيش مدة 32 عاما أنني ‘ أعمل مع عصابة مافيا’. قال تاكوبا انه أجبر على التقاعد دون الحصول على ترقية ترقية “.[448]
أما حقيقة أمر حصول سيمورعلى الوثائق فكانت كالتالي: في مقابلة إذاعية طلبت ممن يسمعني ويعرف شيئا عما جرى في أبو غريب عليه الاتصال بي، وأعطيت رقم هاتف مكتبي…”تلقيت مكالمة من إحدى النساء، والدة إحدى المجندات اللواتي ساهمن في فضائح ابو غريب، ذهبت مباشرة للالتقاء بها… استردت جهاز كمبيوتر كانت قد أهدته لا بنتها قبل ذهابها للعراق بغية تسهيل الاتصالات بينهما. تركت البنت الجهاز في بيت امها حين انتقلت الى سكنها الجديد. قررت الأم بعد أن قرأت فضيحة ووتر غيت ان …تنظف الجهاز فطالعها ملف بعنوان العراق. فتحته فلاحت امامها المئات من الصور الفوتوغرافية لسجناء عرايا وتحت التعذيب. وقف في إحداها سجين مذعور اما زنزانته عاريا وقد غطى بيديه أعضاءه الجنسية، وعلى مسافة قدم منه وقف كلبان بلجيكيان مستعدان لنهشه وقد أمسك بهما جندي مكلف بمهمة التعذيب… وافقت الأم على إعطائي الصور كي أنشرها بمجلة نيويوركر بعد الحصول على عدم معارضة ابنتها المضطربة. [448] .
توحش الإمبريالية أو عار أميركا
“… ثم سُمِع صوت طفل يبكي، وراقب جنود كالي طفلا كان في الثالثة او الرابعة، حمتْه امه بجسدها وغطته حتى لا تصيبه الإطلاقات . زحف الطفل الباكي المغطى بالدماء وخرج من الخندق، فتلاقت عيناه بعيني ميدلّو، وبدأ يركض في حقل الرز. طلب كالي من ميدلو ان يرديه؛ لكن ميدلو الذي اغرورقت عيناه بالدموع حين رأى الطفل وجها لوجه، رفض الأمر. ركض كالي خلف الطفل واطلق النار عليه من مسدسه، فتفجر رأسه وخر صريعا في اوحال الحقل”…
“جنون اصيب بها الجنود وضباطهم وهم يجدون متعة في تمزيق أجساد الأطفال الغضة بحراب بنادقهم الحادة جدا، واستعمال القنابل شديدة الانفجار ، التي تبعثر أشلاءهم المتطايرة في الهواء.”
اختزل جنديان من المفرزة التي قادها الضابط وليم كالي واقترفت جريمة ماي لاي بالفييتنام. نسل جرائم المستوطنين الأوروبيين بالقارة الجديدة . الأرض البكر والثراء الموعود حوّل “المتطهرين” القادمين من إنجلترا الى وحوش كاسرة. هكذا تغير الحرب طباع البشر. وهذا ما استله، من خلف القرون، الدكتور محمد جياد الأزرقي، مترجم مذكرات سيمور هيرش الى العربية، حفر في أعماق المجتمع الأميركي الراهن ، عن جذر التوحش في السياسات الأميركية: “حين وصل كريستوفر كولومبوس عام 1492 كان عددهم [ السكان الأصليون]ما بين 40 و90 مليونا، وحين جاء الإسبان وجدوا 50 قبيلة هندية في الغرب بما فيها شعب بيبلو وكومانتشي وبيمان ويمان، وكانت لهم لغاتهم المتنوعة. جلب الأوروبيون معهم الأمراض كالجدري والحصبة والطاعون والكوليرا والتيفوئيد والدفتيريا والسعال الديكي والملاريا وبقية الأوبئة التي كانت تحصد أرواح السكان الأًصليين. فمثلا كانت السلطات البريطانية توزع عليهم الأغطية الحاملة للأمراض عمدا بهدف نشر الأمراض بينهم.[11] .هؤلاء هم “المتحضرون” يخصون للعرق الأبيض حق الحرية والسيادة.بهذا التاريخ غير المشرف ترفع الإدارة الأميركية جهيرتها دفاعا عن الحرية ، ولكن في اكرانيا!
يكتب هيرش: ” علمت ، وانا أعد تحقيقي الصحفي عن مذبحة ماي لاي ـ أواحر 1969بأن قتل المدنيين (الفييتناميين) الغاشم قد بدأ في وقت مبكر ، بالضبط خلال أيام من وصول قوات مشاة البحرية الأميركية لشواطئ دانانغ ، مارس 1965. آنذاك حدثت مذابح جماعية لم يخبر عنها في حينه. “إن نشر قصة من موقع الحدث عن قتل المدنيين غير المبررأواسط عام 1965 نظر إليه وكانه إشارة لعدم الإخلاص للبلد، وتجاهلته بشكل مباشر العديد من الصحف الكبرى”[218].
قصة خفية دارت حول المحافظة على طياري البحرية في حرب فييتنام . كانت الولايات المتحدة تنفق قرابة المليون دولار لتدريب كل طيار يجيد الهبوط والإقلاع على ظهر حاملات الطائرات. [108]وحين بدا معدل خسارة الطيارين بإسقاط طائراتهم يتزايد لوحظ ان الطيارين يطلبون إحالتهم على التقاعد بشكل متزايد وغير متناظر مع سرعة إعداد من ينوب عنهم.[109]
كان آرثر سيلفيستر، السكرتير الإعلامي لوزارة الدفاع، قد أمر كافة الضباط الكبار والمسئولين المدنيين في البنتاغون أن يشعروه بأية زيارة يقوم بها أي من المراسلين . يعني هذا من الناحية العملية ، انه لو ذهبْتُ الى جنرال معين يوم الثلاثاء وحصلت منه على معلومات وكتبت عنها في اليوم التالي، فإن مكتب سيلفرستون سيكون على علم بذلك، سواء ذكرت اسم الجنرال ام لم أذكره، وسيعرف مصدر معلوماتي لكتابة تقريري… بات عليّ أن أزور عددا من الجنرالات والأدميرالات لعدة أيام بأعذار واهية لغرض التعتيم على مصدر معلوماتي[113].
جهدت الصحف لتبرير جرائم الحرب الأميركية.”جرت مناقشة حامية في البرلمان البريطاني حول جرائم كالي، التي توسعت مجلة تايمز بنشرها والتعليق عليها. في الحقيقة أن تايمز كانت المنبر الإعلامي الوحيد الذي أرسل مراسلا الى قرية ماي لاي والقرى المجاورة، التي كانت قبل الحرب منطقة حقلية زاهية بتجمعاتها الفلاحية على ساحل بحر الصين الجنوبي. يبدو أنه نقل بالطائرة الى منطقة لتجميع الناجين من المذبحة، وكتب تقريرا مطولا نشر يوم الحميس 13 نوفمبر / تشرين ثاني، أتى فيه على شهادات الناجين الذين اكدوا مقتل 567 ضحية من الشيوخ والنساء والأطفال على يد القوات الأميركية. برزت شكوك واسعة حول قصتي اثارتها بعض الصحف ، بما فيها واشنطون بوست، التي اتت على المصاعب الجمة التي يواجهها الجنود الأميركيون، وهم يخوضون حرب عصابات ضد عدو “يتظاهر بأنه يضم فلاحين خلال النهار ومقاتلين في الأوقات الأخرى”. [207].
” نيل شيهان ترك وكالة أسوشييتدبرس ليعمل بصحيفة تايمز اللندنيةعام 1964.عيّن لأشهر قليلة مراسلا في البنتاغون.، توطدت العلاقة فيما بيننا…لم أكن أتصور مبلغ ذهوله ، باعتباره مراسلا حربيا لا يخشى مجابهة تصرفات حكومته، حين وجد ان “الصحفييين في قاعة إعلام البنتاغون ضعفاء متخاذلين”[118]. اولئك الصحفيون يجدون الجسارة لكي يتضامنوا مع حرية أكرانيا!
تحت عنوان عار أميركا – الفصل العاشر من مذكراته، تحدث هيرش عن مذبحة ماي لاي. يقول انه اتصل بعدة مجلات لنشر قصته عن المجزرة واعتذرت عن النشر .”شعرت بالألم يعصرني للرقابة التي فرضها زملائي عليّ، ويريدون إلزامي على الإقرار بها…شعرت بالحاجة الى محام ليراجع ما كتبت خوفا من أن يقيم علي أحد دعوى ويجرجرني الى المحاكم مطالبا بتعويضات مالية”[200]. اتصل بزميل سابق في كلية الحقوق التي لم يكمل هيرش الدراسة فيها، وهو ناقد لحرب فييتنام. قرأ المحامي القصة واقترح بعض التعديلات الطفيفة ، “وأخبرني أن مكنتب المحاماة سيقف الى جانبي إن تعرضت لأية مشكلة قانونية[200].
تلك هي الدلائل على المجتمع الأميركي “المفتوح” و”الديمقراطي” ، لا يضن على احد الحق في حرية التعبير عن الضمير !!
طبيعي ان تستنفر صحف التيار الرئيس بالولايات المتحدة كل الذرائع لتسويغ جرائم الحروب الامبريالية. لكن ، لماذا نشر الجيش غسيله الوسخ حول جريمة كالي؟ الجواب عند رايدنأور. فمن هو راينأور؟ يقول ديفيد أوبِست، مسئول وكالة ديسباتش وصديق لهيرش: أسرع سيمور الى التلفون وبدا يستقصي عن الشاب…ثم. خطط أن يستقل الطائرة الى لوس أنجلس لمقابلة رون(رايدناور). ويكتب سيمور:
“وصلت يوم الاثنين الى القسم الداخلي لكلية كليرمونت حيث سكن رون أيدناور؛ ذهبنا سوية لتناول لغداء. من المدهش ، وربما ليس من المدهش انني أول صحفي يقابله وجها لوجه…تحدثنا لمدة خمس ساعات. لم يكن مشاركا في الهجوم على قرية ماي لاي ولم يساهم في المذبحة….ذكر انه كان في طائرة مروحية حامت حول منطقة ماي لاي أواخر شهر مارس / آذار 1968، ولا حظ خرابا غير معهود. كتب فيما بعد :‘ لم أسمع تغريدة طائر’. توفرت لديه فيما بعد معلومات مباشرة عن الجريمة حصل عليها من خمسة أفراد من فصيل كالي… كتب رايدنأور رسالة مفصلة من الفي كلمة ضمنها أسماء ورتب الضباط والجنود، الذين ساهموا في ارتكاب المجزرة، وبعثها الى اكثر من 30 مسئولا في واشنطون، منهم الرئيس نيكسون و 15من مجلس الشيوخ وخمسة أعضاء يمثلون ولاية اريزونا في مجلس الشعب والى وزارة الخارجية والبنتاغون ورئيس أركان القيادة الموحدة. أنكر 22 مسئولا ممن ذكروا انهم استلموا رسالة رايدنأور، لكن الرسالة فعلت فعلها. اتصل به ضابط من وزارة الدفاع وقال نحن ندقق في المعلومات. لم ينتظر؛ قرر نشر القصة في عدة صحف ومجلات. أعطاني رون أسماء وعناوين الشهود الذين تحدث معهم. اقترح علي أن أقابل اثنين من هؤلاء ، هما مايكل تَري ومايكل بَرنهارت. تسرح الأول من الجيش، والثاني موجود في ثكنة عسكرية داخل الولايات المتحدة .
ودعت رون وتمكنت من حجز مقعد على طائرة ستغادر في وقت متأخر من المساء الى صولت ليك سيتي . أدركت انني عثرت على صديق مدى الحياة ، شجاع وكريم اسمه رايدناور، الذي أصبح فيما بعد صحفيا ونال جائزة جورج بَولك عام 1987[210] . يود هيرش مقابلة مايك تَري ، الذي يقيم يصولت ليك سيتي.
هنا يختبر معدن الرجل: شجاع يتجشم المخاطر بحثا عن الحقيقة ، لا يردعه مانع أو عقبة دون ان يلاحق إجحافا بإنسان او شعب، بغض النظر عن العرق أو اللون او الدين. التقصي الصحفي لديه نضال متواصل ضد الظلم والعدوان. مثابر لا يكل او ييأس في التقصي. كتب عنه الدكتور الأزرقي بمقدمته للكتاب: انطلق هيرش من عبارة وردت في تقرير صحفي التيمز الراحل ‘ إن عصابات الجريمةالمنظمة يقودها 9 إيطاليين ويهودي واحد’، “وهذا ما جعل هيرش يعد تحقيقا صحفيا ينشره في أربعة أجزاءعن ذلك اليهودي المسمى كورشاك. ‘ ما كنت أتابع ضابط مخابرات رفيع المستوى، بل شخصا مدفونا بعمق داخل الدوائر الرسمية الأميركية في واشنطون…كان هدفي أبعد من المحامي كورشاك ، صانع الصفقات لدى الشركات الاحتكارية ، التي ساعدته ووفرت له الحماية “[36و37].
استأجر هيرش سيارة من المطار وتوجه الى حيث يقيم تري في مدينة تبعد45 ميلا الى الجنوب.”هبت عاصفة ثلجية شديدة وانا أقود سيارة استأجرتها في المطار على طريق مظلم متعرج تغطيه الثلوج في منطقة جبلية لا أعرف عنها شيئا. حين وصلت المدينة بعد جهد جهيد كانت الأضواء مطفأة. قدت سيارتي على غير هدى حتى عثرت على محطة وقود ، فحصلت على معلومات حول كيفية الوصول الى العنوان…. كان تصريح تري لي قد تصدر السطور الأولى على الصحف حول العالم. قال:‘ يمكن القول انني كنت شيئا أشبه بحندي نازي”. قال ذلك وهويصف الخندق الذي رموا فيه النساء والأطفال والشيوخ، وبداوا بإطلاق النار عليهم وإبادتهم جميعا . سجلت ملاحظاتي لفترة ساعات ، وهو يستعيد ما جرى ذلك الصباح الحزين”[211].
رجع سيمور الى مدينة صولت ليك ومنها طار الى فيلادلفيا واستأجر سيارة توجه الى قاعدة دكسي في نيو جيرسي، لمقابلة مايكل بَرنهارت. “كذّب ، كما فعل قبله رايدناور، وتَري قصة رستي كالي المفبركة حول هجوم مزعوم . كشف الثلاثة تفاصيل مرعبة عن الحادت جنون اصيب بها الجنود وضباطهم وهو يجدون متعة في تمزيق أجساد الأطفال لغضة بحراب بنادقهم الحادة جدا، واستعمال القنابل شديدة الانفجار ، التي تبعثر أشلاءهم المتطايرة في الهواء.”[212] .
كنت على ثقة بأنه توجد قصة أخرى ، كما اعتقدت ستضع حدا لمقاومة الحقيقة حول ما جرى في ماي لاي. برز اسم باولو ميدلّو أثناء الحديث مع تري وبرنهارت ، يعيش في قرية بولاية إنديانا.، والذي افرغ مخازن رصاص بندقيته الأوتوماتيكية مرة تلو أخرى بامر من كالي، في أجساد النساء والأطفال الذين تم تجميعهم على الطريق الفاصل بين حقول الرز، ثم تم الإجهاز عليهم جميعا… داس ميدلو في صباح اليوم التالي على لغم تسبب في بتر قدمه اليمنى، أخذ يولول ‘لقد انتقم الرب مني وسينتقم منك أيضا ، أيها الملازم كالي’…”[213].
يكتب هيرش : “أمضيت ساعات طويلة وانا أتصل بمكتب معلومات ولاية إنديانا؛ بدأت بمدن الشمال بحثا عن اسم ميدلو، فوجدوا اسما مشابها في قرية، اتصلت بالرقم مباشرة فتبين انه فعلا منزل ميدلو، وأن المراة التي ردت على المكالمة هي امه، قالت انها لا تمانع ان أحضر لزيارتهم…. لا أذكر كيف وصلت؛ أعتقد انني طرت الى إنديانَا بوليس عن طريق شيكاغو، وقدت لمدة ساعتين سيارة استأجرتها وتوجهت شرقا. وصلت الى حقل ميدلو في منتصف النهارتقريبا.[213] . كوخ متداعي مسنود سقفه بألواح متداعية.
استقبلته الأم وقالت :‘أرسلت لهم ولدا يافعا غرا، فجعلوا منه قاتلا’. “بدا لي باول وكانه آلة تبدأ الحركة بالضغط على زر وتتوقف بالضغط على الزر ثانية…قال انه قتل العدد الأكبر(تلقى الأمر من كالي) وأفرغ مخزن بندقيته الذي يحتوي على 17إطلاقة أربع او خمس مرات حتى خيم الصمت على كل من كان بالخندق. ثم سمع صوت طفل يبكي، وراقب جنود كالي طفلا كان في الثالثة او الرابعة، حمتْه امه بجسدها وغطته حتى لا تصيبه الإطلاقات . زحف الطفل الباكي المغطى بالدماء وخرج من الخندق، فتلاقت عيناه بعيني ميدلو، وبدأ يركض في حقل الرز. طلب كالي من ميدلو ان يرديه؛ لكن ميدلو الذي اغرورقت عيناه بالدموع حين رأى الطفل وجها لوجه، رفض الأمر. ركض كالي خلف الطفل واطلق النار عليه من مسدسه، فتفجر رأسه وخر صريعا في اوحال الحقل”[214-15].
امضى هيرش بقية الليلة في كوخ ميدلو، يسجل ما سمعه. سمع من زوجة ميدلو ان الحياة اصبحت صعبة بعد رجوعه .استيقظت في إحدى الليالي على صراخ طفلها الذي ولد أثناء غياب والده. اندفعت الى غرفته ووجدت بول ممسكا به ويهز الطفل المرعوب هزا عنيفا. وتكررالحادث اكثر من مرة . لم يضيع الوقت اتصل هيرش بصديقه ديفيد أوبِست، بوكالة ديسباتش وتم الاتفاق على إجراء مقابلة مع ميدلوعلى شاشة محطة سي بي إس ، على ان تدفع الفضائية اجرة سفر ميدلو مع زوجته بالطائرة الى نيويورك وتأمين إقامتهما ليلة واحد بفندق فخم . وافق ميدلو على العرض. وجد سيمور وديفيد أن من غير اللائق عرض مبلغ مالي على ميدلو حفذلك يعتبر رشوة تلقي الشكوك على الإفادة.
” لقد غيرت اعترافات بول ميدلو امريكا بالطريقة التي كنا ، انا وديفد أوبِست نريدها. ظهر بول ميدلو على شاشة تلفزيون سي بي إس يوم 24 نوفمبر، وفي نفس اليوم أعلن البنتغون عن التهم الموجهة الى كالي بقتل109 مواطنا فييتناميا بالعمد.اختار نيكسن ان يعلن في نفس اليوم ان اميركا ستوقف من جانبها استعمال الأسلحة الجرثومية، حتى في حالات الرد الانتقامي”[317].
” كان مقررا أن القي محاضرة في جامعة تولين بمدينة نيو أورليانزفي فصل الشتاء. قبل ذلك التاريخ نشرت صحيفة بيكايون تايمز ، صحيفة المدينة الصباحية على صفحتها الأولى مقالة طبعت عنوانها باللون الأحمر، إشارة الى المتعاطف الشيوعي الذي سيلقي محاضرة بالجامعة بعد أيام. وطبعا اعتبرت ذلك مسألة احتجاج ضد مجيئي الى الجامعة المذكورة. زادت المقالةالاهتمام بمحاضرتي كثيرا، ووجدت نفسي أتحدث الى ‘بحر من المستمعين’،لاحظت بينهم عددا من محاربي فييتنام، لآنهم لبسوا سترات فاقعة اللون وتحمل شارات( في في أيه دبليو)[ مقاتلون سابقون مناهضون للحرب في فييتنام]. خطرت لي فكرة . بدات بسؤال إن كان بين الحضور في وحدة الطائرات المروحية في معارك فييتنام خلال الفترة1968- 69 بالقرب من كوانغ كاي القريبة من ماي لاي. رفع عدد ايديهم وطلبت من أحدهم ان يأتي ويقف بجانبي على المسرح، وشرعت أوجه له الأسئلة:
-أليس حقيقة ان بعض طياري المروحيات في ذلك الوقت، وبعد إنجاز مهامهم، يبداون بملاحقة الفلاحين في حقولهم؟ وإذا شاهد طيار واحدا من هؤلاء هل يبدأ بالطيران المنخفض؟ وطبعا سيبدأ الفلاح المرعوب الهروب من الحقل، وتطير المروحية على ارتفاع منخفض جدا أكثر فأكثر، ويحرف الطيار زاوية طيرانها قليلا لكي تقطع ريش/ أذرع المحرك رأس ذلك الضحية؟ خيم على الحضور سمت مطبق! قال انه لم يفعل ذلك بنفسه. اكدت له ان سؤالي ليس عنه، بل عما تفعله الحرب بالناس الخيرين احيانا .
قلت هل لديك فكرة عمن يمسح ريش المحرك ويزيل الدم عنها قبل الرجوع الى القاعدة؟
بدأ الرجل يعطي جوابا تفصيليا. …وجدت نفسي أقول يدفع الطيار أو مساعده بعض المال لأحد الفييتناميين لمسح الدم من الريش.. ما أحببت إطلاقا حواري مع ذلك الجندي، الذي كان بالغ الأمانة؛ لكنني أردت بطريقة ما ان أكيل الصاع صاعين لمن كتب المقالة عني في صحيفة بيكايون تايمز [222].
لم تنته مهمة هيرش في هذا السياق؛ لا بد من البحث عن الملازم كالي، الموجود في قاعدة ما . حنكة ورباطة جأش وعناد ساعدت هيرش في مهمته.
مثال استلهمته إسرائيل أم هي الغريزة العدوانية؟
تطالع في مذكرات سيمور هيرش تلك الفقرات المتعلقة بمكافأة القيادات العسكرية على جرائم القتل الجماعي والاغتصاب والتدمير العشوائي بفيتنام، فيتبادر للذهن ما أورده إيلان بابه في السياق ذاته، في كتابه “ألتطهير العرقي في فلسطين”؛ فارق التهجيرواغتصاب الأملاك المنقولة وغير المنقولة هو نصيب الفلسطينيين.كما أن عدد المتعاونين مع بابه في تقصياته أقل من أضرابهم بالولايات المتحدة ؛ وهذا العدد الضئيل كاد يتلاشى في الأوقات اللاحقة بفعل التربية الهادفة.
أورد بابه على صفحة220: “شموئيل لاهيس اعدم خمسة وثلاثين شخصا؛ أحيل الى المحاكمة، وأصبح لاحقا المدير العام للوكالة. القائد العسكري دوف برمياهو ، الذي شارك في التطهير العرقي ما بين أيار ويوليو 1948، كان واحدا من الذين راعهم ما أدركوه لاحقا من عمليات أدت الى التطهير. شرع في الاحتجاج بشدة على الأعمال الوحشية التي كان يشاهدها او يسمع عنها ؛ كان هو من قدم لاهيس الى المحاكمة، وحكم على لاهيس بالسجن سبعة أعوام؛ لكن رئيس الدولة عفا عنه على الفور تقريبا وأعتقه، وارتقى لاحقا الى مناصب عليا في الحكومة”. أخضعت مراكز الاعتقال( لفلسطينيين أثناء الحرب وبعدها) لحراسة جماعة الأرغون وشتيرن( بقيادة الفاشيين بيغن وأتباعه). كانوا لا يتورعون عن أعمال القتل لأتفه الأسباب.”… أدين ضابط سابق في الهاغاناه يدعى بيسكا شدمي يقتل سجينين فلسطينيين، بقي بالجيش لتوكل اليه مهمة إرهابية في كفر قاسم عام1965، حيث أمر بقتل تسعة وأربعين من سكانها، وأدين بدفع قرش غرامة!!…. تكشفت جرائمه عن سمتين ما زالتا موجودتين حتى الآن : من يدانون بارتكاب جرائم ضد العرب من الأرجح ان يستمروا في شغل مناصب ذات تأثير كبير في حياة الفلسطينيين؛ والثانية ان لا يحاكمون على جرائمهم… كتب ضابط في الجيش اقلقه ما شاهده في معسكرات الاعتقال ،‘ ان السلوك البربري الوحشي الذي تكشف عنه هذه الحالات ‘يقوض الانضباط العسكري’.”[230] . يشغله فقط الغيرة على الانضباط العسكري وليس قتل المدنيين الفلسطينيين! تطرق بابه الى حالات الاغتصاب في القرى والمدن المحتلة، وكتب : ” كان بن غوريون يسمع ويكتفي بتسجيلها ، نشرت صحيفة هآرتس في 29 تشرين اول 2003 أن اثنين وعشرين جنديا شاركوا في عملية اغتصاب بربرية لفتاة اختتمت بالقتل، وكان أقسى حكم أنزل بالمعتدين سنتا سجن لمن قتل الفتاة. سجلت الحادثة في مذكرات بن غوريون.[238].
نعود الى ما كتبه هيرش في استقصاءاته، لنجد التماهي بين جرائم الحرب. التقصي الصحفي أو الفكري مهمة كل من يمتهن الإعلام ؛ يتوجب عليه البحث عن الحقيقة وإيصالها الى الجمهور. ونظرا لأن المال يفسد الباحثين عن المعرفة ، والأغلبية الساحقة من المسئولين في جميع بلدان العالم يضيقون بالنقد، فإن الإغراءات تلوح للصحفيين والمثقفين الباحثثين ؛ فيقايضون الحقيقة والوعي العام بامتيازات خاصة أو على الأقل ابتسامة المسئولين، ويرددون كالببغاوات ما يصدر عن المسئولين. فرضت نفسها مهنة صحفي التقصي تتأبى على الإغراءأو الترهيب، تخترق الحواجز المانعة وتكشف ما يحرص المسولون على إخفائه . في هذا الصدد كتب سيمور:
أتصل بي في مطلع عام 1970 ضابط كبير شارك في التحقيق الموسع، الذي طلبه الجيش حول مذبحة ماي لاي. كان مقتنعا بوجود تستر على الجريمة، وأن بإمكان منتسبي فصيل كالي أن يعطوا تفاصيل أكثر عن الأهوال التي يصر العقداء والجنرالات، في خط تسلسل الرتب العسكرية الأعلى لفصيل كالي ، الذين يصرون على إنكار معرفتهم بحصول المذبحة. أخبرني الضابط أن لديه شك قليل في أن التحقيق المبدأي الذي أعقب المجزرة كان حافلا بالأكاذيب، التي تم قبولها دون إثارة أي سؤال على كافة مستويات الفرقة العسكرية، وأنه يريدأن يفصح عن الحقيقة. [227]
لقد تم وضع ما توصلت اليه هيئة بيرز للتحقيقات في 40 مجلدا من الشهادات والاستنتاجات وسلمت في مارس / آذار 1970 او وضعت تحت الرعاية السرية، ولم يسمح لأحد الاطلاع عليها . قرر أحد أصدقاء هذا الضابط ان يأتي إليّ بتلك المجلدات من مكتب الطباعة في البنتغون. كانت زوجته تأتي بسيارتها للعمل في مكتبها وسط مدينة واشنطون، ونقلتها اليّ خلال صباحات بعض أيام العمل الأسبوعية في الأشهر القليلة التالية. نقلتها جزءً ا فجزءًا حسب تسلسلها الرقمي. اعيد جزءًا وأتسلم جزءًأ. استأجرت ماكنة استنساخ ورحت أنسخها . فعلت ذلك في نفس الوقت الذي كنت اكتب فيه تقاريري ، وأراجع مخطوطة كتاب ماي لاي. [227-28]
قرأت المقالات وازدادت مشكلتي لأن الأدلة واضحة والمحققون لم يقوموا بواجبهم عند اطلاعهم على المذبحة التالية بعد 16 مارس 1968مباشرة. كانت وحدة تشارلي بقيادة مدينا واحدة من ثلاث وحدات تكونت منها فرقة برافو للعمليات السريعة بقيادة باركر ، والتي كانت نشطة في ذلك اليوم . صدرت الأوامر للفرقة بمهاجمة قرية ماي خي 4 . حل بهذه القرية ما حل بالتي قبلها ، ولكن على مستوى أقل. أحرق جنود هذه الفرقة واغتصبوا وقتلوا كيفما شاءوا ، رغم انه لم تكن هناك أدلة على وجود قوات معادية في القرية أو محيطها …. “[228].
أمضيت الشهور التالية وأنا أحاول استيعاب محتويات الأجزاء الأربعين من تقريرهيئة بيرزعن ماي لاي’، التي لم يطلع عليها الرأي العام بعد. استطعت التوصل الى بعض الاستنتاجات المرعبة بعد التمعن بأكثر من 400 شهادة امام الهيئة المذكورة . اوصت الهيئة بتوجيه تهم إجرامية بحق 14ضابطا ، بينهم اللواء صموئيل كستر، قائد الفرقة الأميركية الحادية عشر، فرقة برافو، باعتباره مسئولا عن تصرف القوات التي تحت إمرته، بمن فيهم النقيب أرنست مدينا ، قائد وحدة تشارلي. تمت تبرئة مدينا في المحكمة العسكرية، ورقي الجنرال كستر وأصبح قائد الأكاديمية العسكرية في وست بوينت، وقت بدأْتُ انشر تقاريري في وكالة ديسباتش، وان مشاركته في الفضيحة قد زادت من الكابوس الذي عاشه الجيش والبنتغون ، والرئيس نيكسون، الذي استمر في تصعيده للحرب . الضابط الوحيد الذي حوكم عسكريا وحكم عليه وفق قرار محلفين من أقرانه وقضى وقتا خلف القضبان هوالملازم وليم كالي. حكم على كالي بالسجن مدى الحياة مع الأشغال الشاقة لقتله عمدا 22 مواطنا مدنيا من الفييتناميين. صدر الحكم في يوليو/ تموز 1971. امر الرئيس نيكسون بنقله في اليوم التالي من السجن العسكري في لفننوت بولاية كانزاس الى الإقامة الجبرية في قاعدة بننغ. اطلق سراحه في فبراير1974 من الإقامة الإجبارية خلال النظر في استئناف الحكم. قررت محكمة الاستئناف تثبيت الحكم، فأعيد كالي الى السجن العسكري ذاته بتاريخ 13 يوليو1974، وأطلق سراحه بتاريخ 25 سبتمبر/ أيلول1974، بموجب أمر العفو الصادر من الرئيس نيكسون. هكذا امضى كالي خلف القضبان ثلاثة أشهر و13 يوما فقط جزاء قتل 22 مدنيا بدم بارد.[هامش 233]. لقد فشل نظام العدالة العسكرية ، لأن عددا من الجنرالات الذين أصابتهم شرور الفضيحة استمروا في الخدمة واستمرت حرب فييتنام بعنفها الذي استهدف المدنيين. استمر إحصاء اعداد الفتلى من الجانبين كمؤشر على نجاحها …في شهادة كستر أمام الهيئة نشر مكتبه 7 صفحات احتوت على ‘معايير استخدام الأسلحة النارية واستعمالاتها في مناطق تواجد المدنيين’؛ غير أن إصدار تلك التعليمات لم يكن أكثر من تمثيلية سمحت للنظام ان ينظر الى القتل والاغتصاب وحرق الممتلكات وغيرها من جرائم الحرب كمخالفة للتعليمات فقط. اختار القادة في ماي لاي وغيرها من مناطق فييتنام سلوكا واحدا تكرر المرة تلو الأخرى خلال تلك الحرب ، وهو النظر الى قتل المدنيين ليس باعتباره جريمة حرب وتحمل المسئولية المهنية عن تنفيذها… [233] .
البينات تترى على جرائم أخرى بقيت مجهولة. “اتصل بي محارب سابق في فييتنام شغل وظيفة جندي كاتب في مقر الفرقة الأميركية في يوليو1969، حين هاجمت طائرات مروحية امريكية قريتين فقتلت 10 مدنيين وجرحت 15 آخرين في منطقة هادئة لم تصلها الحرب. أصدر اللواء لويد رمزي قائد عام الفرقة ، بناء على شكوى من فييتناميين ثلاث رسائل توبيخ لثلاثة من الطيارين الأربعة . لقد ارتكب هؤلاء مخالفة للتعليمات… رقي الضابط رمزي الى رتبة مارشال، أصبح الأن هو الضابط المسئول عن عمليات الانضباط العسكري في كافة وحدات الجيش الأميركي… كان الجندي قد استنسخ ملفات الجنود الثلاثة وحملها معه الى ولاية ساوث داكوتا . أعطاني الجندي الكاتب نسخ الملفات المذكورة… تطلب الأمر مني عدة أشهر لأصل الى الجنرال رمزي وبعض الطيارين الذين شاركوا في الهجوم. كتبت مقالة في 12 ألف كلمة لمجلة نيويوركر ، ختمت المقالة باقتباس من محام عسكري رفيع قال بأن ضباطا من قبيل رمزي قد وجدوا أنفسهم أسرى ‘ نظام للقواعد والتعليمات ليس لها علاقة بما يجري في فييتنام . إنها أشبه بالوصايا العشرة موجودة ولا احد يريد ان يعيرها انتباها… لقد وقعنا في فخ نظام وضعناه لأنفسنا.”[234] .
من بين شهود هيئة بيرز كان القس كارل إي كروسوَل من الكنيسة الأسقفية، عمل مع الفرقة الأميركية وقت مذبحة ماي لاي، واستقال إثر المذبحة. قال أمام هيئة التحقيق:” لقد اصبحت على قناعة ان القضية قدر تعلق الأمر بالجيش الأميركي ، لا يوجد شيء حول قتل مدنيين فييتناميين. انا آسف لأن هذا الادعاء مثار للسخرية؛ ولكن هذه هي الطريقة التي يجري عليها النظام”. … التقينا في ابرشيته في مدينة إمبوريا بولاية كانزاس. اخبرني أنه نقل أواخر عام 1967 للعمل مع كتيبة مشاة كانت في طريقها الى ساحة الحرب في فييتنام على ظهر سفينة حربية . اضطرت السفينة ان تخفف من سرعتها بسبب الأمطار الغزيرة والرياح العاتية . نادى العقيد المسئول عن الرحلة القس كروسوَل وقال :‘ ابانا ، لماذا لا تطلب من صاحبك ان يفعل شيئا حول هذا الطقس؟ ضحك الضباط الذين كانوا حوله؛ تذكر القس ما قاله في حينه، ‘ لا أعتقد ان الرب في عجلة ليساعدنا ان نسرع في الوصول الى فييتنام كي نقتل البشر’. اطبق الصمت على الحاضرين، وفي ذلك المساء رفعوا اسم كروسوَل من قائمة الحضور الى مائدة العقيد القائد لتناول العشاء”.[247]
رأى سيمور ان من الضروري مقابلة الملازم أول كالي ، ولكنه مجهول الإقامة برعاية القيادة العامة للجيش. ادرك أن مجرم الحرب، الملازم أول كالي، موقوف برسم المحاكمة، وأدرك في ذات الوقت ان العقوبة لن تكون بقدر الجريمة. يعرف القضاة ما عرف ب ” تعليمات معايير استخدام الأسلحة النارية واستعمالاتها في مناطق تواجد المدنيين” ، التي لم يلتزم بها أحد. فضل سيمور هيرش طرح قضية كالي على الرأي العام ، كي يعي ما هي الحرب.وكلفه الأمر مشقة منهكة ووقتا من التجوال بقاعدة تبلغ مساحتها قدر مساحة مدينة نيويورك.
” جاء التلميح الأول يوم الأربعاء22 أكتوبر، حين تحدث معي محام شاب كتب مقالا انتقد الحرب بمجلة فلج فويس. قال ان الجيش يستعد بقاعدة بيننغ في جورجيا لمحاكمةعسكرية حول مقتل 22 مدنيا في فييتنام[175]. … كانت محاضرتي عن أخطار الحرب الكيماوية والجرثومية قد مكنتني من الاتصال بقادة الحركة المناهضة للحرب في أماكن مختلفة من البلاد. …تلقيت تقريرا تضمن مقتطفات من الصحف والمجلات الأميركية الصادرة بين عامي 1966و 1967 شملت القتل الروتيني لأسرى الحرب والقتلى من النساء والأطفال والشيوخ برمي القنابل اليدوية عليهم بعد ان يفروا هربا ويلتاذوا بأكواخهم.[176] . بعد إلقاء محاضرتي في بيركلي عام 1969 تقدم مني جو نيولاند ، استاذ الكيمياء العضوية في جامعة كاليفورنيا، كان قد زار فييتنام لصالح محكمة براتراند رسل حول جرائم الحرب التي عقدت جلساتها في كوبنهاغن، والتقى بثلاثة عسكريين اطلعوا على جرائم الحرب. قال أحد العسكريين الشهود “غالبا ما تكون ‘لحظات جنون’ شارك خلالها جنود اميركيون بما فيهم مسئولو المدافع المثبتة على الدبابات بإطلاق النيران على تلك القرى، وصبوا ‘جحيما عنيفا ‘على كل شيء يتحرك في تلك القرى، ‘افترضنا وجود قوات الفيتكونغ بينهم، حتى يثبتوا عكس ذلك’. لم أجد دليلا على أن الإعلام قد بذل جهدا لمتابعة ما ورد في الشهادة واتهاماته . الرد المألوف هو الهجوم السام من قبل سالزبيرغر، المعلق بصحيفة نيويورك تايمز على محكمة رسل/ الفيلسوف وعالم الرياضيات الحاصل على جائزة نوبل والبلغ من العمر 96 عاما. كتب سولزبيرغر ‘إن رسل قد تجاوزعمر ضميره’ بمعنى أنه ‘أصيب بالخرف، هو وأقرانه الذين نصبوا ما يسمونه محكمة’ “[177].
كيف الوصول الى كالي؟ ما بذله سيمور من جهود حثيثة ، وما بحثه في السجلات أو سافر من أجله الى مختلف الجهات يفصح عن رجل معني بالحقيقة ويحترم جمهوره ويقدر مهنته. كان من الأفضل ذكر تفاصيل الجهود لو سمح المجال، على أن تؤجل لحلقة لاحقة إن استدعى الأمر. باختصار غير مخل قام بالمهام التالية:
-مراجعة “المحكمات العسكرية كافة ، التي جرت حديثا في كافة المعسكرات الأميركية حول العالم والموجودة سجلاتها في مكتبة البنتاغون”، بدون جدوى؛
هو لا يبدأ حين الحديث بالقضية التي جاء من أجلها ، ويضبط نفسه وهو يصغي الى حديث يتعتلق بقضيته موضع التقصي، كي لا يشعر المتحدث انه مهتم بالموضوع؛
– صدفة التقى بضابط كبير عرفه سابقا نسب ليكون مدير المكتب العسكري للجنرال ويستمورلند الذي عاد لتوه من فييتنام. التقى صحفي تقصي مع ضابط شريف.
-انطلاقا من حديث الضابط راجع أشرطة الصحف المسجلة فعثر على الصفحة 38 من صحيفة نيويورك تايمزالصادرة يوم الأثنين 8 سبتمبر/ أيلول، معلومات عن ضابط مشاة يبلغ من العمر 26 عاما ، اسمه وليم .ل. كالي، الابن، من مدينة ميامي، متهم بارتكاب جرائم قتل ‘ عدد من المدنيين’ دون أن يثير الخبر اهتمام احد من الصحفيين !
– في مكتب صديقه العامل في مكتب ريفرز، عضو لجنتي الخدمات العسكرية بالكونغرس، تحدث عن كالي فحذره صديقه انها قضية خطرة لا يقترب منها.
– اتصل بمكتب الاستعلامات في قاعدة بيننغ ، وسأل “سؤالا بريئا عن الضابط المسئول عن التوجيه في محاكمة كالي العسكرية” اجيب ب “كذبة مفضوحة”، وشعر بأن “قصة وليم كالي ، الذي أجهل مكان تواجده، سيكون لها تأثير على تغيير قواعد اللعبة. كنت عازما على أن أكون أول صحفي يعثر عليه”
-. توجه الى صديق قديم ، المحامي كوان، تخرج حديثا من كلية القانون بجامعة ييل… . طلب منه اسم محامي كالي. “اتصل بي كوان بعد يومين، وأخبرني ان اسم المحامي هو لِتمر، ولم يزد على ذلك شيئا”.
– وجد محام بذلك الاسم في واشنطون في دليل تلفونات العاصمة، أبلغه عن محام آخر اسمه جورج لتِمر، وهو قاض متقاعد في محكمة الاستئناف العسكرية.
– اتصل به هاتفيا ورد بأنه فعلا محامي للضابط كالي ، وان “قضيته إجهاض للعدالة”. اتفقا على الالتقاء في مكتب المحامي في مطلع نوفمبر .
-.لم يكن بحوزته ما يكفي لسداد أجور السفر، حيث مكتب المحامي على الساحل لغربي؛ توجه الى فِلِب شتيرن، المناهض المعروف للحرب بواشنطون، خصص بعض الأموال لمنح تستخدم لإجراء تقارير صحفية استقصائية. حصل منه على ألف دولار، “منحة مؤسسة الصحافة الاستقصائية”.
-وصل مكتب لتمر في حدود العاشرة. كانت لوحة اتهام الجيش لوليم كالي الإبن ، بالقتل المتعمد لمائة وتسعة أشخاص، “وصفهم من أصل آسيوي شرقي زاد من ألمي”. “طرت عائدا الى واشنطون يتملكني شعور بأنه يجب أن أعثر على كالي والمكان المحتمل هو قاعدة بيننغ”.
-وصل قاعدو بيننغ الكبيرة بحجم مدينة نيويورك وبدأ البحث. كان يدعي أنه يريد مساعدة كالي الواقع في ورطة وهو بريئ . طاف على السجون، ولم يجد اسمه على قائمة ؛ اتصل من هاتف عمومي بأندية القاعدة يسأل، حتى الظهيرة لم يعثر على كالي. .. ساعات قطع خلالها مسافة 100 ميل تقريبا؛ وراجع محطات تزويد الوقود ودليل الضباط في قاعة المشاة ولم يتلق ما يفيد عن كالي؛ قرر التوجه الى مركز الادعاء العسكري، كان خاليا إلا من عريف ، اختفت ابتسامته حين سمع اسم كالي . طلب منه الانتظار ريثما يتصل بالعقيد المسئول . “استدرت وبدأت امشي لكن العريف بدى عليه الاضطراب واخبرني اني لا أستطيع مغادرة المكان. ركضت بأقصى سرعتي الى خارج المكتب باتجاه الشارع، لأنني ما كنت ارغب أن يطردني العقيد من القاعدة قبل إكمال مهمتي”.
– تناول همبرغر وشرب كولا في كافتيريا القاعدة. .تذكَّر ان دليل الهاتف بالقواعد العسكرية يحدّث كل أربعة شهور . اتصل بعاملة الهاتف وطلب منها ان توصله بالمراقب. عرف من العاملة ان اسم كالي ورد بالإضافات وأبلغته اسم كالي ورقم هاتفه ومكان إقامته .
– دخل غرف النوم بالطوابق الثلاثة للبناية ، ولم يجد غير شاب يغط في نوم عميق ، أيقظه وعرف انه ليس من يبحث عنه ، وعرف منه انه يسلم الرسائل الواردة لكالي الى صديقه سمِتي في مقر الفيلق. رافقه في سيارته ليدله على مقر الفيلق، وأعاده هيرش الى موقعه .
-التقي بسمِتي ، الذي تطوع بإحضار ملف كالي.نسخ منه لائحة الاتهام، ثم توجه الى منزل كالي . وجد ثلاثة ضباط برتبة ملازم ثان أخبره أحدهم المفاجأة : “ضابط صغير متهم بجريمة قتل جماعي متخف في جناح لسكن كبارضباط الجيش!”…وصلت من واشنطون الخامسة من صباح ذلك اليوم، وها اني متعب وجائع في الثامنة مساء. دله الضابط على شقة كالي . تبادل معه الحديث و”عرف موقفي من الحرب، واعترف بحزن ان حرب فييتنام قاتلة لا يمكن الانتصار فيها ، وهذا ما أضعف ولاءه للجيش، الذي علمه كيف يكون طيارا ماهرا….”.
حضر كالي من رحلة الى البحيرة؛ ” صافحته واخبرته انني جئت لأنقل قصته. رد :‘ صحيح اخبرني المحامي ان اتوقع منك زيارة’. صعدنا الى شقته ، وانا وجها لوجه مع هذا الوحش الذي صرع بمدفع رشاش الأطفال والشيوخ. لكنني وجدت نفسي امام شاب مهزوخائف، قصير القامة ونحيل شاحب الوجه”. سهر معه حتى الصباح “…. ملآت دفتر ملاحظاتي وكانت أكثر الاقتباسات ليست من مصلحته . إن روايته لما جرى في قرية ماي لاي ازدادت تناقضا كلما أطنب في الحديث عنها “.
كان الوقت متأخرا او ربما مبكرا للنوم . قدت سيارتي صوب مطار كولمبوس ، واستقللت اول طائرة مغادرة الى واشنطون. شرعت خلال وجودي في الطائرة بوضع هيكل القصة التي سأكتبها . لدي نسخة منقولة بالضبط من لائحة الاتهام ومقابلة مستفيضة مع اللاعب الرئيس . كنت على وعي بأنه يجب علي ان أضع مشاعري الشخصية حول الحرب جانبا حين اكتب قصتي هذه…. سأحاول الآن أن اروي قصة تقول ان الأميركييين لم يقاتلوا بشرف أو بتعقل أفضل مما فعل اليابانيون و الألمان في الحرب العالمية الثانية. لم أكن متأكدا مما سيحدث ، لكنني اعرف انها لن تكون قصة سهلة.