حكايا من القرايا.. جاط أبو صبري
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
يا الله (شو) كانوا أهل العريس (ينعجقوا) ليلة العرس، ويوم العرس… كانت السهرة تمتد وتمتد لوجه الصبح (سهرة صبّاحيّة)، والحدّاية يضطرون للنوم في بيت العريس، كانوا لا يترددون من النوم على سطح البيت، وقسم كبير من المعازيم الأقارب، الذين يسكنون في بلدات بعيدة، يضطرون للنوم في بيت العريس أيضاً، لذا كنت ترى الفرشات تفرش، وينام على الفرشة أكثر من ضيفين بالعرض، ويتغطون أو لا يتغطون فالدنيا صبف… وفي الصباح غناء وفرح وكيْف…
وقد لا ينام أهل العرس تلك الليلة، فعليهم تجهيز اللحم، وعلى النساء تجهيز القدور من صراصير الصباح الباكر، كل امرأة تعكف على (موقدتها)، وعليها قِدْر كبير من اللحم، أو طنجرة عظيمة من الرزّ أو المرق… وعلى النساء اللواتي يطبخن أيضاً أن يبادرن بالغناء والمهاهاة بين فينة وأخرى، وعمل (تشعابيل) الرزّ للأطفال… كانت تلك (التشعابيل) زاكية… وأبو زيد خاله من استطاع الحصول على (تشعبول).
وعلى الحدّاية أيضاً أن يستيقظوا مبكراً قبل بزوغ الشمس، ولا مفرّ من ذلك، إذ لو تأخروا لَسَطَت الشمس عليهم ومرضوا من حرارتها، والمفارقة هنا أن على الزجّال أن يَجْرُد زَوْرَهُ بكاس من الشاي الساخن، ويبدأ في المواويل الصباحيّة والميجانا…
كانت زفّة العريس قد انتهت، وجهّز أهل العريس (سِدْريْن) من الرزّ واللحم، أحدهما لبيت العروس، والثاني للذين استحمّ العريس في بيتهم. وبدأت (الجاطات) المملوءة رزاً ولحماً تنقل إلى المعازيم (الزفّيفة) وعرق الناس مرقهم في عز (الناغريّة) الظهيرة… وكان أحد حملة (الجاطات) أبو صبري. وأبو صبري رجل طويل، عريض الأكتاف، ذو صوت جهوريّ، لا تراه إلا وسيجارة الهيشي في فمه، حتى وهو يلوّح في حلقة الدبكة، ويضرب الأرض برجليه لاستخراج النبع من الأرض- كما كان يدّعي- كانت السيجارة في فمه… أبو صبري يشيش… يطرب… ما أسرع ما يخرج عن طوره، عندما يستفزه الطرب! كان يحمل جاطاً (طاجاً) من الرزّ واللحم لتقديمه للضيوف… رأته أم صبري، كأنها تراه لأول مرة في حياتها، رأته رجلاً طويلاً عريضاً، سيجارته في فمه، وقد قالوا (حلاوة الرجل سيجارته)، والعرق ينقط من أنفه، فرفعت عقيرتها في (زعيقيّة) ومهاهاة:
آيي واحنا اولاد العرب ما نرتشب إلا الخيل
آيي وسيوفنا مسقطه وثمامنا للسيل
آيي وعدو أبو صبري دقّ الباب نصّ الليل
آيي ونرمّل حريمه وندوسه بكعاب الخيل
ثم زغاريد، آزرتها زغاريد أخرى…
سمع الرجل المهاهاة، فتخيل نفسه في حلقة دبكة، (حافَهُ) طرب شديد، وبسرعة البرق، رمى (جاط) الرزّ على حجر صوّان كان بجانبه، وصاح من أعماق أعماق صوته (أحييتش)، فانكسر الزجاج وتناثر الرزّ واللحم، بين أقدام القريبين منه، سمع والد العريس أبو أحمد (طَبْش الجاط)، (دَشَعَ) سريعاً إلى مكان الحدث، ولما علم (بطراطيش) الخبر، صرخ في وجه أبو صبري: (ريتك للتشسر اللي يتشسرك)، (بَرْطَمَ) أبو صبري، وهو الذي قام العرس على يديه، وساعد في كل عمل حتى في نقل الطبيخ للمعازيم… وأخذ زاوية جلس فيها وحده، وأضرب عن الأكل…
أكل المعازيم… وحمدوا الله… وتفرقوا…
ابتسم والد العريس أبو أحمد، وذهب إلى حيث يجلس أبو صبري (مُبَوِّزاً)، قبّل رأسه، وخدّيه، وحَلَف: ما حدا بطلّع العروس غيرك يا بو صبري… وألحقه بقسم آخر… ما بتطلع العروس إلا إذا أكلت من طبيخ العرس، شو رايك؟… نفخ أبو صبري دخان سيجارته عالياً… وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وانطلق يهاجم الأرز واللحم… وطبّاختين ما بلحقن على (أبو صبري)، خصوصاً لما يفكّ كشرته وزعله… وألف مبارك للعروسين… والتحايا لــِ (أبو صبري).