قراءة في رواية “عندما أزهرت بندقية” للكاتبة كاملة صيداوي
سهيل كيوان | فلسطين
أفرحُ عندما اكتشف ولادة كاتب جديد يحمل منذ أعماله الأولى بذور الإبداع، تجد هذا في تعابيره وفي شطحاته الفنّية والفكرية الأصيلة.
لا نستطيع فصل الكاتب عن بيئته، ولا أتفق مع نظرية “موت المؤلف”، لرولان بارت، فالمؤلف جزءٌ لا يتجزأ من روح النّص الأدبي، فيه بيئته وتجاربه الحياتية ومغامراته الفكرية والجسدية، ومعرفة كاتب النص تمنحك قدرة أكثر على استيعاب وتذوّق ما يكتب، بل إنها تزيدك متعة وإما نفورًا، فإذا قرأت مثلا لكاتبة من بغداد “كان لجدّي مكتبة مليئة بالكتب” ليس كأن تقرأ المعلومة ذاتها لكاتبة من بير المكسور أو حورة في النقب. ففي بغداد هذه معلومة عادية ومألوفة، ولكنها في بير المكسور تحمل مفاجأة.
سُررت جدًا عندما قرأت رواية “عندما أزهرت بندقية للكاتبة كاملة صيداوي”، سُررت من العمل الروائي نفسه، وأكثر كونها ابنة قرية بير المكسور، التي تصنّف على أنها قرية عربية بدوية.
تبدأ الكاتبة روايتها في رحلتها التعليمية إلى جامعة حيفا، لتلتصق بصديقين هما يافا التي تعيش في دير الراهبات في صفورية، وحمادة الذي يعيش في عسفيا.
كاملة تعرب عن دهشتها لانعزال قريتها عن القرى المحيطة بها، العزلة السياسية بالذات، التي تتجلى في الأحداث الوطنية مثل يوم الأرض وانتفاضة أكتوبر عام 2000 وغيرها. “مما أثار دهشتي واستغرابي وسخطي أحيانا” ص85.
هذه الفتاة الخجولة تتخفّف من حُمولتها القروية المحافظة، لتغزو دور السينما في حيفا مع يافا وحمادة، ويتحول عشقها للسينما إلى جانب الجولات في وادي النسناس إلى إدمان.
لدى الكاتبة مقدرة على بعث الدهشة في الأحداث البسيطة، وهذا ما يميّز الكتابة الإبداعية عن الكتابة التقريرية، فجعلت من مشاهدة فيلم “تايتنك” صورة فنية، إذ تجهش يافا في البكاء على (جاك) بطل الفيلم، وردّ حمادة بالتهديد بأنه لن يرافقهما لمشاهدة الأفلام بعد اليوم، ما يثير ابتسامة القارئ، ويمنحه انطباعًا منذ الصفحات الأولى، بجدّية موهبة الكاتبة في التعبير عن المشاعر بحساسية عالية وعفوية.
تُحوّل فنجان القهوة الذي يحتسيه ملايين البشر في روتين عادي، إلى صورة فنية تجعل له مذاقًا شهيًا غير مألوف، وهو ما فعله محمود درويش في القهوة.
تصف قهوتها التي تعدّها والدتها “امرأة تصبُّ المزاج بعد أن غلته سبعًا على ألسِنة السَّعادة ليصبح الصبحُ حكايةً جميلةً توقظ حواسَّك وتشدَّها، وكأن حوافَّ الفنجان غدت نافذةً على العالم تشاهده وهو يصحو”.
فهل حقا تحتاج القهوة إلى سبع غلوات لتصبح ألذَّ مذاقًا أم أنها أسطورة أخرى حول الرَّقم سبعة، بإمكانكم أن تجرِّبوا.
كاملة تحوّل رسوبها في الامتحان إلى صورة فنية.
“رسبَتْ في الامتحان فخلَعت حذاءها ذا الكعب العالي أمام لوحة النتائج، وبدأت بالصراخ والمشي إلى غرفة المعيد وحمادة خلفها يحمل الحذاء ويمشي”!
صورة تعكس كل الشقاوة والعنفوان والحب والتمرّد.
كاملة تسرق حذاء شقيقتها الرِّياضي الجديد من نوع “نايك” وتخبِّئُه كي تنتعله في اليوم التالي للظهور فيه في الجامعة، في الصَّباح ترتدي أجمل ملابسها وتبحث عن الحذاء فلا تجده، وبتأخير عن الدراسة تكتشف أن والدَها هو الذي انتعله، وهذا يضفي على شخصيته المرح والعفوية.
“كانت قدما والدي صغيرتين ورثهما عن جدّتي، وكان غرامه أن يشاركنا الأحذية الرياضية، وأظنُّ أن لا شيء يضاهي جمال ورقّة رجل وأبٍ يشارك بناته الأحذية والمعاطف والعُطور”. ص66
وهي مشاغبة تستعير الكتب من مكتبة الجامعة ولا تعيدها في الوقت المحدد، فتُحكم بغرامة فتستأنف، وعندما يدعوها عميد الجامعة للمحاسبة تقول له “أنا يا سيدي ضحية للكتب فماذا عساني أن أفعل”.
إجابة ذكية تُبهر العميدـ فالكتاب هو الذي اعتدى عليها لأنّه شائق وهو الذي سرقها فلم تستطع إعادته في الوقت المحدّد.
بعد التخرّج يسافر حمادة إلى كندا ليتمّم دراسته ويقيم فيها، ولكنها لا تقطع علاقتها به، بينما تتّجه يافا للعمل في مجال الصحافة، وتعمل مع منظمة الأونروا لتشغيل اللاجئين وتصبح دائمة السفر.
يافا ومن خلال عملها الصحافي تطل على علاقتنا بالشتات الفلسطيني فتقع في حب (ناصر) شاب من الشتات أصله من طبرية، يرفض القدوم إلى فلسطين من خلال اتفاقات أوسلو، ويبقى متمسّكا بموقفه الأمر الذي يعني عدم دخوله إلى فلسطين وعدم التقائه بيافا التي يحبها وتحبّه.
تنقلنا إلى بيت جدها وتعتبره مصدر ثقافتها، وهي صورة غير تقليدية للمسنّ البدوي.
كانت لديه مكتبة غنية في شتى المواضيع، ولكنه لم يكن يتقن العبرية، فكانت تساعده في كتابة بعض الأوراق، وهو رجل لا يضاهيه رجل، يستمع لفيروز في الصباح ويقرأ جلال الدين الرومي ظهرًا ووِردًا من القرآن عصرًا، “سأحبُّ رجلاً كجدّي يعتني بزهور حديقته ويستمع لأغاني أم كلثوم مساء، سأحب رجلا كجدّي ينظم شعر الغزل، وتدمع عيناه في مجالس الذكر، فهيامه الأول والأخير للبيت وآل البيت، سأحب رجلا كجدّي نصيرًا للنساء، سأحبُّ رجلا تنمو في كفّيه زهور الياسمين وفي قلبه دفء كلمة ’آمين’، سأحب رجلا كجدي يؤمن برب العالمين وليس لطائفة دون سواها، سأحب رجلا كجدي يبقى رجلا على مر السنين”.
أما عنوان الرواية “عندما أزهرت بندقية” فلم يرُق لي، كان يمكن أن يكون أقرب إلى روح الرواية، فالبندقية بعيدة عن روح الرواية.
في الأجزاء الأخيرة من الرواية تسترسل الكاتبة في طرح موقفها السياسي بلغة تقريرية-116-121 “كان لتلك الثورات أثرٌ كبير على الشارع الفلسطيني، فهناك من أيّد ظنًا منه أن تلك الثورات قامت بها الشعوب ضد سياسات الفقر والظلم والاستبداد والتبعية وأنها بداية عهد جديد، ومنهم من رأى أنه ما هو إلا مخطط لأجندة ومؤامرة خارجية تستهدف الدول العربية” إلخ، ثم تطرح موقفها بصورة تقريرية أو مقالة صحفية الأمر الذي يُخرج الرّواية عن أجوائها الأدبية الجميلة إلى الموقف المباشر.
هناك اقتباسات جميلة، أبرزها قصيدة (يافا) لمحمد مهدي الجواهري.
الرّواية فيها انسياب وتمسك بالقارئ حتى النهاية.
جميل جدًا أن الكاتبة شكّلت الكلمات مما يتيح للقارئ أن يستفيد من ناحية القواعد والإملاء.
اللغة راقية جدًا وهي مليئة بالمحسنات اللغوية والجماليات من غير تصنّع، ومبتعدة عن اللغة القاموسية المقعّرة، وشعرية في الكثير من السّرد، بل إنها ترتقي إلى صفة قصيدة النثر في الجزء العاشر من ص168 -178
يُذكر أننا احتفلنا قبل أيام بالكاتبة في نادي قراء مجد الكروم.
صدر لكاملة صيداوي حتى الآن ثلاث روايات، وهي عندما أزهرت بندقية صادرة عن دار السُّكرية مصر، 2019، وسبع فاطمات وعلي” 2020، و”حروب وأحمر شفاه”2021″