فيلم “صالون هدى”: ضحية للغة الغرب وحداثته الهجينة

المحامي جواد بولس | فلسطين

مرّة أخرى تواجه فلسطين أزمة عارمة، وهذه المرّة بسبب عرض فيلم “صالون هدى” في مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة للعام الجاري 2022، وفي مهرجانات سينمائية دولية أخرى. الفيلم من إخراج ابن مدينة الناصرة ، المخرج هاني أبو أسعد، وبطولة كل من الممثل المعروف علي سليمان، والممثلتين القديرتين ميساء عبد الهادي ومنال عوض.

تدور قصة الفيلم حول هدى، الممثلة منال عوض، التي لعبت دوها بحرفية لافتة، وهي صاحبة صالون للتجميل كانت قد جنّدت للعمل مع المخابرات الإسرائيلية ووافقت على إسقاط فتيات فلسطينيات يأتين إلى صالونها وتشغيلهن لحساب نفس المخابرات. تحاول هدى تبرير فعلتها “كضحيّة ” وقعت في فخ المخابرات الاسرائيلية وتهديدها بفضح خيانتها لزوجها مع رجل آخر، فتوافق على العمل لصالحهم، وعلى اسقاط إمرأة واحدة كل ثلاثة أشهر، يتم تخديرها داخل صالونها وتصويرها عارية وهي بصحبة شاب كان يشارك في عملية الإسقاط مقابل مبلغ من المال تدفعه هدى.

يبدأ الفيلم بحوار عادي بين هدى وريم، الممثلة ميساء عبدالهادي، التي أجادت تمثيل دورها بمهنية مقنعة وبتميّز ؛ كانت ريم تجلس على كرسي الصالون لتصفيف شعرها، فتقوم هدى بدس المخدر في فنجان قهوة تقدمه لريم فتشربه وتفقد وعيها. ثم تنقلها هدى إلى غرفة خلفية، في نفس الصالون، وتقوم بمساعدة الشاب بخلع ملابس ريم وتعريتها وتصويرها مع الشاب وهو متمدد بجانبها بعد أن تعرّى هو أيضًا. تصحو ريم لتجد نفسها في وضعية غريبة فتذهل؛ لكن هدى تسارع إلى عرض صورها وهي عارية وتهدّدها بالفضيحة وهي تعترف أمامها بكونها عميلة لصالح المخابرات الاسرائيلية.

سأختصر الحديث حول أحداث الفيلم ليبقى للقراء ما يُشاهد؛ خاصة وأن معظم مشاهده صوّرت في موقعين أساسيين: في بيت ريم، حيث كان التركيز على حواراتها مع زوجها، الذي يقرر أن يترك البيت، مع طفلتهما، بعد أن أخبرته بما تعرّضت له في الصالون؛ وفي سرداب تابع لوحدة من المخابرات الفلسطينية التي اعتقلت عناصرها هدى والشاب الذي كان شريكها في اسقاط الضحايا.

شاهدتُ الفيلم وأنا مجرّد من تأثير جميع ما قرأته عنه، خاصة من انتقادات وهجوم الذين علّقوا مشانقهم لمخرجه ولممثليه، ووصموه بالعار وبالاباحية المحظورة؛ فأنا لا أوافق مع من يعترضون مبدئيًا على توظيف مشاهد العري في سياقات درامية مناسبة ويعتبرون عرضها أذية مسلّما بها وتلويثًا لفضاءات مجتمعاتنا “الطاهرة والسليمة”، ومَضرّة مطلقة تتعرض لأهم “مقدّساتنا” ولقيمنا الاجتماعية والثقافيه الحميدة والدينية.

من الواضح أن النقاش حول حق صنّاع الفن، على ضروبه، بتوظيف العري في بعض أعمالهم، لن يحسم، في شرقنا العليل، على “ظهر” فيلم هاني أبو أسعد؛ ولكن حتى إذا اعترفنا بحقه كمخرج، له مكانته العالمية، وبحق شركائه في تصوير ذلك المشهد، يبقى حقنا كمشاهدين مكفولًا لمساءلته حول الغاية من هذا التوظيف، والتأكد من كونه وسيلة تسهم في انسياب الحبكة الدرامية وانارتها وتعزيز رسائلها كما جاءت على لسانه؛ وذلك خلافًا لكونها أداة مبتذلة ورخيصة أقحمت بهدف الاغواء أو المشاغبة في سبيل تسهيل العملية التسويقية للفيلم.

أقول هذا معترفًا بأنني لم أشعر بأن مشهد العري، الذي استهل به هاني أبو أسعد الفيلم، جاء لضرورات فنية مهنية خالصة، أو كوسيلة ايضاح درامية تساعد على عرض فكرته التي بدونها ستبقى الفكرة مبهمة وغير مكتملة. لقد تعزز شعوري بعد أن عرفنا بأن المخرج خص العالم العربي بنسخة عن الفيلم خالية من مشهد العري المذكور، بينما أعدّ نسخًا تتضمن المشهد ذاته من أجل عرضها في سائر مهرجانات العالم ودوله “المتحضرة “. ألا تكفي هذه الحقيقة كحجة لسؤاله حول صحة خياراته الفنية ومبدئية مواقفه؟

ويبقى الشرق غارقًا في عاهاته وفي خيالاته الجنسية المريضة؛ فرغم أن مشهد العري القصير كان يجب أن يبقى تفصيلًا هامشيًا بالنسبة لمجمل أحداث الفيلم نجد أن معظم الناس، سواء شاهدوا الفيلم أم لم يشاهدوه، حوّلوه إلى جوهر القضية ولبّها؛ مع أنني أستغرب كيف يمكن لإنسان سويّ أن يتفاعل مع مشهد امرأة تُجرّد من ملابسها، بظروف مستفزة، وهي مخدّرة وفاقدة لوعيها، كمشهد جنسي إباحي يثير حفيظتهم، وليس كجريمة نكراء كان أبشع ما فيها هو تعرية الضحية. ما رأيته كان عبث محتمعاتنا والظلم عاريين.

كان من المفروض أن يتعرّض الفيلم إلى قضية خطيرة ، قديمة جديدة، تعيشها فلسطين منذ اليوم الأول لاحتلالها؛ وهي محاولات المخابرات الاسرائيلية، غير المنقطعة، لتجنيد عملاء لها من بين المواطنين الفلسطينيين، لا سيما من بين الفئات المستهدفة والمستضعفة اجتماعيًا، وفي مقدمتها النساء اللواتي يعانين من ظلم مجتمعاتهن الذكورية، ويخضعن، في ساعات المحن، للخوف وللاستغلال وإلى مواجهة واحد من خيارين: فإمّا التخابر مع إسرائيل أو الفضيحة، وما سيترتب عليها من ردات فعل يجيدها “سيّافو الزهور” ومقيمو الحدود في بلادنا.

لم يوفّق هاني ابو أسعد، المخرج المجدّ بعمله، لأنه لم يقدم مادة إبداعية جديدة كان من شأنها أن تلقي الضوء على قضية العمالة مع إسرائيل من زوايا مبتكرة وغير مستهلكة. فقضية تجنيد العملاء، من نساء وغيرهن، هي حالة تعيشها فلسطين كهمّ دائم وكهاجس مؤرق، وقد عولجت بأشكال فنية وأدبية عديدة لم يزد عليها فيلم “صالون هدى” مضامين وأبعادًا جديدة.

فمعظم أحداث الفيلم دارت، كما قلنا، في أحد سردايب المخابرات الفلسطينية، حيث واجهت فيه هدى، قبل اعدامها هناك بطلقة نارية، المحقق، الممثل علي سليمان، وأدارت معه حوارًا متحدّيًا، علّلت من خلاله أسباب خيانتها وسقوطها، حتى بدا كمن يتفهمها ويشفق عليها. لم يكن ما جرى في ذلك السرداب واقعيًا ومعقولًا والحوار في معظمه كان هزيلًا مما أثّر أحيانًا على أداء الممثلين كما ظهر أكثر في دور الممثل علي سليمان.

أعيش في فلسطين وأعمل فيها، منذ أربعة عقود، محاميًا يدافع عن أهلها؛ وأعرف كمًّا هائلًا من قصص الوجع التي حاول الفيلم أن يتطرق إليها. وأعرف كم كانت قضية تجنيد العملاء لصالح الاحتلال الاسرائيلي، وما زالت، خطيرة ومقلقة؛ لكنني أشعر بأن نجاح الاحتلال عبر السنوات الماضية بإشاعة أجواء التشكيك في وفاء المواطنين لقضيتهم وسهولة تجنيدهم لصالحه هي القضية الكبرى التي يجب أن تواجه، فشيوع ظاهرة فقدان الثقة، كما نلاحظ في السنوات الاخيرة، هو من أهم عوامل الهزيمة. أعتقد أن مخاطر هذه المأساة، في هذه الأوقات تحديدًا، قد غابت عن ذهن صنّاع الفيلم.

ففي تعقيبه على من انتقد فيلمه صرح هاني أبو أسعد، كما نقلت المواقع، بأن قصة الفيلم حقيقية وموجودة “حيث كانت الاستخبارات الإسرائيلية تستخدم وجود صالات التجميل لاسقاط الفلسطينيات” . وهذا في حد ذاته تصريح كبير، وغير دقيق، فأنا لا أعرف هذا الكم من صالات التجميل التي استغلت لاسقاط الفلسطينيات، والتصريح قد يؤدي، بدون قصد طبعًا، إلى زيادة مقادير التشكيك بين أفراد الشعب، خاصة ضد أصحاب وصاحبات صالونات التجميل. ثم يقول هاني أبو أسعد في هذا السياق أيضًا أن “من مهام السينمائي مناقشة مجالات مختلفة تتعلق بالموضوع” ويؤكد على “أنه دخل مخاطرة كبيرة جدًا في الموضوع وحصر التصوير في موقعين وبثلاثة ممثلين فقط، وإنه يحاول تقديم المشاهد بناء على الاعتماد البصري”. لست متأكدًا ماذا وراء هذا الكلام، فأنا لست ناقداً سينمائيّاً محترفاً؛ لكنني كمشاهد يعيش واقع فلسطين بتفاصيله، شعرت بأن الفيلم لم يحقق أهدافه. فحتى لو لم يكن من بينها إنصاف أهلها والتحيّز لقضيتهم الأم، كانت ادانة الاحتلال وممارساته واجبة، لكننا لم نشاهدها بشكل مباشر لأن الفيلم عالجها باللجوء “لسحر ” المجاز وبالتلميح فقط. وإذا كان ظلم المرأة الفلسطينية همهم فقد أخطأوا في عرض أزمتها لأن التعرض لها تم بتقاطعات متناقضة، أدت إلى ظلمها أو إلى إبقاء قضيتها في حالة اشكالية لم ينجحوا بتفكيكها.

لقد تركَنا الفيلم نواجه مثلثًا متساوي الاضلاع هو: الاحتلال وفلسطين ونساؤها الضحايا، وأبقانا في حالة ضبابية مهتزة قريبة إلى حد الالتباس المتعمد ؛ ولعلنا سنجد أن السبب الذي جعلنا نشعر هكذا مدفون في صدر المخرج الذي أعلن بشكل صريح أن “التحدي الكبير الذي طرحه الفيلم هو عدم تحديد من تكون الضحية ومن هو جلّادها” مضيفًا أنه “من الممكن من تعتبره جلادًا يكون هو نفسه الضحية “.

لم أفهم ماذا يقصد هاني أبو أسعد بالتحديد من هذه الأحجية؛ فهذه اللغة قد تكون مفهومة في الغرب وعلى أعتاب تحديات “حداثته السائلة” أو ربما هي لغة فن من فنون “عصر التفاهة” التي خلقها الغرب ويرعاها.

أما في فلسطين فنحن نعيش تحديًا كبيرًا واحدًا ونتكلم لغة واضحة فيها يكون الاحتلال دائمًا هو الجلاد وتكون الضحية هي فلسطين وأرضها وأهلها وان شئتم فخصصوا النساء منهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى