حماية مسار التاريخ من القطيعة المعرفية

إبراهيم أبو عواد | كاتب من الأردن

1

     شُعورُ الإنسان بالضغوطات الاجتماعية يُمثِّل واقعًا جديدًا، يقوم على الربط بين العُمْقِ المعرفي للإنسان والبُنيةِ الجذرية للمجتمع. وكُلُّ واقع جديد هو بالضَّرورة منظومةٌ فكرية تشتمل على قواعدِ تفسير المعرفة الإنسانية ومَصَادِرِ الفِعْل الاجتماعي، وإطارٌ تنظيمي يشتمل على أبعادِ السُّلوك الإنساني وعناصرِ النشاط الحياتي. وهذه المُكوِّناتُ الوجودية تُشكِّل ملامحَ هُوية الإنسان داخل المُحيطِ البيئي، وتُجسِّد منطقَ اللغة الرمزي في الظواهرِ الثقافية المُتعلِّقة بأنماطِ الوَعْي، والمفاهيمِ الوظيفية للجَوهرِ (المَعنى الشمولي) والهَيكلِ (الفِكر الإبداعي) والنَّسَقِ (حقيقة البناء الاجتماعي).

 ومِن أجل منع الاصطدام بين عناصر المجتمع ومُكوِّناته، ينبغي تأسيس علاقات اجتماعية ذات طبيعة إنسانية ، تأخذ بعين الاعتبار حاجة الإنسان إلى الانتماءِ وتبادُلِ المشاعر مع الآخرين ، والارتباطِ بهم فكريًّا. وهذا مِن شأنه كشف تفاصيل الأجزاء المُتفاعلة في الأنساق الاجتماعية الظاهريَّة والباطنيَّة، التي تُعْتَبَر شبكةً مِن الأنظمة العقلانية والروابط العاطفية والمعايير الأخلاقية. وإذا حافظت هذه الشبكةُ على تجانسها وتوازنها، فإنَّ المُجتمع سَيُحافظ على التماسك والدَّيمومة وصَيرورة التاريخ.

والتَّحَدِّيات الصادمة في هذا السِّياق، تتجلَّى في كَون العلاقات الاجتماعية في غاية التعقيد، والأدوات التحليلية للأفكار والمعاني شديدة التشابك، والإنسان في سِباق معَ الزمن، مِن أجل ابتكارِ آلِيَّات الوصول إلى فلسفة المعنى الاجتماعي، وتكوينِ تطبيقات واقعية لتغيير الواقع، وإنشاءِ تصوُّرات منطقية في عَالَم يَبتعد عن قُوَّة المنطق، ويَقترب مِن منطق القُوَّة. وهذه التحديات عبارة عن امتحان صعب لِقُدرة الإنسان، وإظهار لِمُستوى إمكانياته المعنوية والمادية. ولَيس أمام الإنسان إلا النجاح في هذا الامتحان مِن أجل المُحافظة على وحدة النسيج الاجتماعي، وحمايته مِن التآكل والاضمحلال، وتطهيره مِن الشروط القاسية المفروضة عليه، والناتجة عن سياسة الأمر الواقع. وإذا كان كُلُّ واقعٍ جديدٍ هو منظومةً فِكريةً ، فإنَّ كُلَّ أمرٍ واقعٍ هو أداةُ ضغطٍ، وأسلوبُ هَيمنةٍ، ووسيلةُ سيطرةٍ. وسياسةُ الأمر الواقع لا يُمكن مواجهتها إلا بصناعة منهج اجتماعي قادر على صناعة سُلطة معرفية تنتشل الإنسانَ مِن المأزق الوجودي ، وتَحْمي المُجتمعَ مِن عُنصر المُفاجأة الناتج عن التحولات الديناميكية في بُنية الفِعل الاجتماعي ، على الصعيدَيْن الفردي والجماعي.

2

     العلاقاتُ الاجتماعية تَحفِر في الوَعْي الإنساني تاريخَها الخاص، وهذا يَستلزم إعادةَ تقييم طبيعة المسار الحياتي، هل هو مسار ناتج عن التراكم المعرفي عبر الأزمنة أَمْ هو مسار يُولَد باستمرار ويُعيد بناءَ اللحظة الآنِيَّة بشكل مُتواصل؟. وهذا السؤال في غاية الأهمية، لأنَّ المسار الحياتي إذا كان ناتجًا عن التراكم، فهذا يعني أنَّه يُولَد على شكل دفعات مُتتالية، ووَفْق مراحل مُتعاقبة، وبالتالي فإنَّ تاريخ العلاقات الاجتماعية لا مكان فيه للقفزات والعناصر الدخيلة. أي إنَّ ولادة المسار الحياتي بالتقسيط تُؤَدِّي إلى الحتمية التاريخية، وتدل على أنَّ التاريخ يُعيد نَفْسَه، ويتحرَّك ضِمن دائرة مُغلَقة. وإذا كان المسارُ الحياتي ناتجًا عن القطيعةِ المعرفية وتكوينِ طبقاتٍ مُنفصلة عن مبدأ التراتب، فهذا يعني أنَّه يُولَد بشكل مُفاجئ، وكُل ولادة تُمثِّل انقطاعًا عن الولادة التي تَسْبقها،وبالتالي فإنَّ تاريخ العلاقات الاجتماعية مليء بالصَّدَمات والطَّفَرات(التغييرات المُفاجئة في نمط بناء طبقات المجتمع باعتباره كائنًا حَيًّا). أي إنَّ ولادة المسار الحياتي الفَوْرِيَّة تُؤَدِّي إلى الاحتمالية التاريخية، وتدل على أن التاريخ لا يُعيد نَفْسَه ، وأنَّه يتجدَّد باستمرار كمياه النهر، ويتحرَّك بشكل خطي .

3

     بُنيةُ المجتمع المعرفية هي مَزِيجٌ مِن الأزمنة المُتَشَظِّية بِفِعْل انكماش الأحلام الفرديَّة ، وخَلِيطٌ مِن الأمكنة المكسورة بِفِعْل تراجع الطموحات الجماعيَّة. ومُهمة العلاقات الاجتماعية أن تُعيد بناءَ ذاكرة المُجتمع الزمنيَّة وذِكرياته المكانيَّة على أساس الوَعْي الإنساني بالذات، والشعورِ بالعناصر المُحيطة بالذات ، وتبادلِ الأفكار معَ الآخرين بشكل يُحافظ على مسار التاريخ العام للمُجتمع بلا ثغرات لُغوية، ولا فجوات ثقافية،ولا انقطاعات معرفية. والمسارُ المُتَّصِل هو الضَّمانة الأكيدة لتدفُّق الفِكر الاجتماعي الإبداعي مِن المَبنى (الإطار المرجعي لِسُلطة المجتمع) إلى المَعنى (ماهيَّة البُنى الثقافية).

وكُلُّ علاقة اجتماعية لا تُوصِل إلى بناء ثقافي، فهي علاقة هُلاميَّة قائمة على عناصر لُغوية مهزوزة، وقواعد حياتيَّة مُضطربة. وكُلُّ بناء ثقافي لا يَحمل رسالةَ المجتمع الوجودية، فهو بناء آيِل للسُّقوط، لأنَّه لَم يتأسَّس على الوَعْي والشعور. وإذا تَمَّ استبعاد الوَعْي والشعور من شرعية الثقافة ومشروعها ومشروعيتها، فإنَّ السلوك الإنساني سيُصبح حركةً ميكانيكيةً مُجرَّدة مِن روابطِ الماضي، وأحلامِ الحاضر، وطُموحاتِ المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى