فاجعة صمت.. مقطع من رواية قيد الكتابة (2)

هبة وفيق الاحمد | سورية
 ارتسمت ملامح الطفولة بهدوء على وجه صمت ؛هاهي الآن بعمر الخمس؛وأختها في السابعة؛طفلتين رقيقتين كالنسيم.
وجه أختها الأرجواني يبعث على الطمأنينة وكأنها ملاك أو رسول وحي أنزله الله لينشر المحبة ؛السلام ؛والجمال في هذا الكون .
عيناها كنهر من العسل فبالرغم من سقمهما كانتا تشعان بالحب والأمل .
شفتاها كزهرة لافندر؛جسدها هزيل أضناه المرض.
مسكينة هي قد ذاقت اصعب أنواع الخيانة وهي بعمر الزهور ..”خيانة الجسد”.يقال أن خيانة الجسد لصاحبه من أقسى درجات الخيانة ؛فعندما يخون الجسد لايؤذي المشاعر فقط بل يقود بصاحبه إلى الهلاك ويخط اسمه على رقيم الموت.
أما صمت فقد كانت تضج بملامح طفولة بريئة هادئة ؛شعرها منسدل على جبين أبيض صغير تبرز منه عينين خضراوين واسعتين .
ملامحها تجبرك على ألا تشيح بنظرك عنها فكل جزء فيها يروي ألف حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة.
الشمس يئست من تغيير لون جسدها ؛لم يرضخ بياضها لأشعتها ؛كل شيء فيها كان ثائرا متمردا لكن بصمت …صمت موحش .
قلبها لم يتسع للكون كله كانت رقيقة حساسة لدرجة أنك لاتستطيع أن تقول لا بوجهها ؛فهذه الكلمة كانت كفيلة بأن تبقيها حزينة بلا همس ليوم كامل.

أحبت الإنتظار كثيرا فهو طقس من طقوس حياتها اليومية ؛اعطته حقه كاملا..
فعند ذهاب أختها مع والدتها إلى المستشفى استمتعت بالإنتظار عشقته..تنظر لعقارب الساعة بشغف وحب وشوق تراقب دوران العقارب الثلاث ترسم ابتسامات مفعمة بأمل العودة واللقاء.

في ليلة تشرينية كان ورق الشجر الأصفر قد ملأ ساحة البيت الأمامية ؛المكان المفضل للفتاتين؛كانت ساحة أسمنتية تأخذ شكلا طولانيا؛ أمام هذه الساحة تتعانق أشجار التين والرمان مشكلتين لوحة فنية ساحرة ؛نسيم يتغلغل من بين الاغصان كعزف ناي لراعي قضى عمره في تشكيل هذا اللحن …لحن يثلج القلوب ويهدئ النفوس..
قامت صمت بإبعاد الورق الأصفر بكلتا يديها الصغيرتين ؛جمعته على شكل كومة ووضعتها في نهايه الممر ؛نظرت اليها نظرة محارب منتصر؛ فالورق الأصفر ضيف ثقيل على مكان اللعب
نظفت المكان بعناية فائقة ؛أحضرت الوعاء والرمل ؛ ونادت لأختها كي تنضم إليها.
نادتها أكثر من مرة لم تستجب ؛ركضت باتجاه سريرها الحديدي الصغير ؛وجدتها تصارع نبضات قلب لايقوى على الخفقان .
قالت لها :مابك؟
اجابتها:إني متعبة ..متعبة ..اشعر بقلبي وكأنه حجر في صدري لا أستطيع التنفس ؛لا أقوى على اللعب .اذهبي والعبي بمفردك وغدا سنلعب سوية.
ردت عليها صمت :لا لا أريد أن ألعب بمفردي سأبقى بجانبك .
إحساس الوفاء بدأ ينبض بروح صمت ويجري في عروقها ؛فقد رفضت اللعب بمفردها أحست أن ذلك نوع من أنواع الخيانة .
لزمت أختها طوال الوقت تتأمل وجهها الشاحب الذي تحول للأزرق الداكن تأملت عينيها مسدولة الأجفان ؛وفمها الازرق الصغير الذي كان بالكاد يرتشف المياه.

أمسكت صمت بيد اختها السقيمة ..شعرت وكأنها تمسك بكرة من جليد
أريد أن أنام وغدا سنلعب …اعدك…
وافقت صمت ؛طبعت قبلة على جبين أختها المندى بقطرات من العرق الصغيرة وخلدت للنوم بجانبها حالمة بصباح جميل ؛صباح يضج بحبات الرمل الذهبية والصمت؛الهدوء والسكينة .
حلمت بمغادرة السقم لجسد أختها ..وكذلك اللون الازرق المقيت حلمت به يحزم امتعته مهاجرا بلا عودة ةدقات قلب متوقفة عن الركل ؛الدفء عاد ليتسرب لأناملها الصغيرة .
استيقظت مفعمة بالأمل …الحب …والتفاؤل ..وكأن أختها قد شفيت فعلا
الرمل بانتظارهم ..وكذلك الشمس …الغيوم …والنسيم..
قفزت من السرير ؛جهزت الوعاء ؛الرمل ؛وضعت غطاء مزركش بالأزهار كي تجلسان عليه ؛احضرت كأس ماء كي ترتشف منه اختها في حال عطشها.
ركضت باتجاه السرير وقالت لها: هيا جهزت كل شيء تعالي …رأيتك في حلمي أنك قد شفيتي ..ركضنا ولعبنا ولم تتعبي ..هيا استيقظي اختاه.
لم تسمع جوابا لندهاتها ؛اقتربت لتمسك بيد أختها شعرت ببرود لم تشعر به من قبل ؛برود اخترق جلدها واستقر بعظامها .أصابها بالخدر ؛شعرت به يتسلل في أنحاء جسدها ؛بدأت الأفكار السوداوية تجول في رأسها لتثير ناقوس استفسارات (لم)؟.
لم لاتتحرك؟ لم لاتتنفس؟ لم أناملها كقطعة من الجليد ؟ لم اليباس سيد الموقف ؟
تلمست وجنة اختها ؛نظرت الى عينيها وجدتهما غارقتين في ثبات عميق ..
وكأنهما تعويذة موصودة لساحرة غجرية أحكمت إغلاقها ورمتها في المحيط.
تسلل الخوف والرعب إليها كتسلل ذئب يريد النيل من فريسته وبالفعل نال وحقق مراده..
إلا أنها لم تصرخ …لم تبكي ….لم تتحرك…شريط ذكريات مر في ذاكرتها…
الرمل ..الشمس …الغيوم …الأغصان …حتى أوراق الشجر التي لطالما اعتبرتها ضيف ثقيل ؛أحبت ذاك الضيف لأنها أعيت بوجود ضيف أقسى وأثقل ظلاً..ضيف لا يرحم…ارخى سدل الموت على روح اختها ولاذ بها بعيدا ..
قبلتها ..حركتها ؛امسكت بيدها ؛بقدميها …ربتت على كتفها…لكن محاولاتها باءت بالفشل.
ماكان لها سوى أن تطلق ندهة ممزوجة بألف غصة…(اختي لا تتحرك انقذوها)….
اقترب والدها وضع اذنه على صدرها وخر باكيا … “لقد ذهبت مع ملاك الموت يا صغيرتي الله يريد لها الراحة الأبدية”.
حدقت صمت في جسد أختها ودار في خلدها ألف سؤال …
أيعقل أن يقال عن شبح الموت أنه ملاك للموت؟
أنى يكون للموت ملاك؟
هل يعقل هذا ؟
ألم يفكر هذا الشبح بالروح الأخرى المتعلقة بالروح التي أخذها ولاذ بها لدرجة الجنون ؟
بدأت الأفكار تتهافت على ذهنها لكنها لم تجد جواباً…
وكعادتها صمت لا تسأل بل تبحث عن الجواب ..تكتشفه بنفسها..
-كان هذا طبع جميل من طباعها الهادئة-

…. يتبع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى