صديقات الصدفة

رجاء حميد رشيد | العراق 
اعتدنا على تناول وجبات الطعام في المطاعم على طاولة منفصلة عن الآخرين حتى لو كنا بمفردنا واتخذنا مكاناً لطاولة مخصصة لعدة أشخاص، وتبقى الطاولة محجوزة بمقاعدها لحين الانتهاء من وجبة الطعام ودفع الحساب ، ولكني فوجئت وأختي بانضمام امرأتين غريبتين تشاركانا طاولة الغداء في مطعم (كباب ياسين) المطعم الشعبي الأشهر في سوق القلعة بمحافظة اربيل كوردستان، كانت الطاولة تسع لخمسة أشخاص وحصلنا عليها بعد انتظار دام نصف ساعة أمام المطعم الذي يقع في دربونة صغيرة نظيفة جدا غير منتظمة الشكل وحسب تصميم السوق القديم ، وهناك طابور من الناس
( عوائل، شباب من كلا الجنسين ) بانتظار الحصول على طاولة لتناول الغداء بعد الانتهاء من تسوقهم علماً أنه ليس الوحيد في المنطقة فهناك أكثر من مطعم لتقديم وجبة الكباب ولمختلف الأطعمة أيضاً ، ولكنه الأشهر بحسب أهل المنطقة أنفسهم ، تميز المطعم بعدم تخصيص جناح للعوائل كما معمول به في المطاعم الأخرى هذا من ناحية ، ولإتاحة الفرصة لأكبر عدد من الزبائن لتناول وجبة الغداء فيتم توزيعهم على كل الطاولات والكراسي الفارغة من ناحية أخرى وهذا ما حصل معنا ،ولكثرة رواده يقف أحد العاملين أمام باب المطعم الذي يتكون من عدة غرف تعلوها لوحة ضوئية متحركة وبخط أحمر عريض اسم المطعم باللغتين العربية والانكليزية موزعة على دربونتين قديمتين تؤدي نهاية كل منهما إلى درابين سوق القلعة الذي يجد فيه المتبضع ما لذ وطاب من خيرات العراق وثرواته الزراعية لأنواع الفواكه المجففة و المكسرات والسجق والحلقوم والعسل الطبيعي والأجبان المصنوعة يدويا ، ويراقب الزبائن ليرفع الأطباق الفارغة فور انتهائهم من تناول الوجبة ، وهي رسالة دبلوماسية لطيفة للانصراف ومساعدة الآخرين في الحصول على طاولة و تناول وجبتهم ، في البداية استغربت كثيرا لأننا لم نعتد على تناول الطعام في المطاعم مع الغرباء ولكني وبعد التجربة الفعلية الجميلة أحببت الفكرة التي تدعو لقبول الآخر والتعايش السلمي وقبول الآخر المختلف سواء في الدين او العرق او الطائفة ، لاسيما وان بلدنا العراق يمتاز بمكوناته وطوائفه الذي لايكتمل إلا بوجودهم معا.
( له نجة ) و (لارا)
له نجة ولارا المهندستان الكورديتان من أربيل اللتان تشاركنا معهما طاولة الغداء وأصبحنا صديقات جمعتنا الصدفة ، امرأتان جميلتان لطيفتان في منتصف العقد الثالث من العمر ، ابتدأت الحديث معهما بسؤالي عن ظاهرة مشاركة الطعام مع أشخاص غرباء شائعة في مطاعم أربيل ، أجبن بنعم في هذا المطعم لكثرة رواده حيث يمتاز بأطيب (كباب) في المنطقة ويكاد لا يخلو في أي وقت من الزبائن وأن من يزور مدينة أربيل لابدَّ أن يتذوق كباب ياسين الشهير .
دردشة صديقات
ونحن نتناول غداءنا اللذيذ خلال الساعة والنصف تقريبا تحدثنا فيها عن أوضاع عراقنا بصورة عامة والظروف التي مررنا بها وتأثيرها على الحياة الاجتماعية وكان الحديث ذا شجون وألم ، فحاولت تغييره بسؤال عن معنى اسميهما ، فكان اسم ( له نجه) يعني الدلع ،أما ( لارا ) فيعني النجمة التي تضيء في السماء أو النجمة المشرقة ، وفعلا لكل أمرئ من اسمه نصيب كما قالت العرب قديما فكان مظهرهما الخارجي يدل على الرقي والسماحة والطيبة والإنسانية بكل معانيها .
أضافت صحبتهم نكهة وطعم طغى على وجبة الغداء اللذيذة ، وبعد أن عرفتا أني من بغداد فرحتا جداً معربتان عن حبهما لعروس المدن بغداد، وقالت ( له نجه ) بأنها لم تر بغداد سوى مرة واحدة فقط وكانت صغيرة السن لكن صورتها الجميلة مازالت راسخة في ذهنها ، أما لارا فتحدثت عن زياراتها المتكررة إلى بغداد حيث يقطن الكثير من أقربائها ولكن بعد الظروف التي تعرضت لها تقول لا أريد رؤية بغداد مجروحة والاحتفاظ بصورتها الرائعة في ذاكرتي ، وسألتا عن أوضاع بغداد وهل بإمكان المرأة الخروج وحدها ، سافرة أم يجب عليها ارتداء الحجاب ، وماذا عن المكياج والشعر ، سألتا عن كل ما يتعلق بالمرأة ، استغربتا وأنا أحدثهن عن أوضاع بغداد الطبيعية على غير ما يشاع عنها في الإعلام ، وأن المرأة لها حرية الخيار أن تكون سافرة أو ترتدي الحجاب وتمارس حياتها بصورة طبيعية جداً ، لم أستطع الاسترسال بالحديث أكثر ولم تسنح لنا الفرصة بالجلوس وقت أطول لأن العاملين في المطعم يترقبون انتهاء كل طاولة لفسح المجال لزبائن آخرين ليتناولوا طعامهم ، حتى الشاي حيث اعتدنا على تناوله بعد الطعام مباشرة لم يسمح به في المطعم لاختصار وقت الغداء ، طلبت فاتورة الحساب لدفعها ولكنهما أصرتا على دفع المبلغ وبأنني ضيفة عندهما ولابدَّ من القيام بواجب الضيافة وهذا ليس بجديد فالعراقيون أهل الكرم والضيافة في كل محافظاته ، وخلال انشغالنا بتبادل وحفظ أرقام الهواتف فإذا بثلاثة أشخاص رجلين وامرأة أجانب جلسوا على نفس الطاولة ضحكنا جميعا لتكرار الموقف الأول ولكن مع أشخاص آخرين لم يسعفني الوقت للتعرف عليهم سوى التقاط صورة تذكارية معهم .
لطالما شغفني السفر ومتعة اكتشاف المدن والبشر والتعرف على ثقافات وعادات لمدن ومناطق كلما زرتها تزودني بمعارف ومعلومات جديدة ، فتحية لمدينة اربيل العريقة ولصديقات الصدفة الجميلة ( له نجه ولارا ) اللتين تركتا أثراً جميلاً في نفسي بأنه مازال هناك بشر قلوبهم بيض يسعدون من حولهم بكلماتهم وابتسامتهم وبشاشة وجوههم ، وسيبقى لقائي بهما ذكرى لا تمحى ومثالاً للمحبة واللحمة العراقية الوطنية ، آملة بلقاء قريب معهما في اربيل أو في بغداد الحبيبة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى