علاقتي بالطبيعة.. إحساس حريريَّ ناعم
رحاب يوسف أديبة فلسطينية
كنتُ صغيرةً جدّاً عندما فَتَنَتني الطبيعةُ بجمال تِلالِها، وهِضابها، وسُهولِها، حيثُ رَعشَة السنابِلِ الخَضراءِ حين تُلامِسُ وَجهي، وأنا أركُضُ بين ثناياها بلُطفٍ، وبين شقائِق النُّعمان التي تُطِلُّ كحَسناءعلى نَغَمات ربابَة الرُّعاةِ، كانت حياتي خاليَةً من البشر، ومليئَةً بالسكينةِ والهدوء، واليوم أيضاً خاليَة إلاّ من ضجيج المَعارِفِ، وغَصّاتِ قلبٍ تَقِفُ حائِرَةً مُتَنَهِّدَةً، كخَرساءَ صامِتَةً، كصمتِ المَقبَرَةِ المَهيبَةِ التي تَعَلَّقتُ بها وأنا صغيرةٌ، كانت بجانب مَدرستي الابتدائية أتسلّلُ إليها بعد الدوام، أتساءَلُ: أينَ هُم أصحابُها؟ وليس معي سوى صوتِ حفيف أشجار الصُنَوبَر العِملاقة المُحيطة بمدرستي، كُنتُ أشعُرُ بكآبَةٍ دون مَعرِفَةِ السبب، كُلّما غَرَّدَ طَيرٌ، وكُلَّما اهتَزَّت الغُصون، وكُلّما رأيتُ أشِعَّةَ الشمس المُنعَكِسَة على الأرض المُتَخَلِّلَةِ أوراقَ الشجَر، كُلّما رأيتُ شَفَقَ الغُروب المُقتَرِب إلى لون الزُرقَةِ إيذاناً بقُرب الليل، أبكي كُلّما رأيتُ مُسِنَّةً تَمشي حافية القدمين، وكُلما رأيتُ مَجموعَةَ صبيانٍ يَدُقُّون بابَ عَجوزٍ، ثم يَهربون، كُلّما رأيتُ بائعَ خُضرَةٍ على بَسطَةٍ، وأظافِرُه مُلَطَّخَةٌ بطين الأرض، وابنَتُهُ على مَقاعِد الدراسة، سُلوكُها سَيءٌ، كُلّما رأيتُ ابناً عاقّاً لا يَعرِفُ أمّه لكنّه يَتَّصِلُ بها لترضى عنه، ثم يُغلِقُ الهاتفَ بسُرعَةٍ؛ حتى لا تطلُبَ منه نقوداً، كُلّما رأيتُ إنسانا يَختَبِئُ خلف آخَرَ ليستَمِدَّ منه ثِقَتَهُ.
الإنسانُ الذي يملك هذا الإحساسَ الحريريَّ الناعمَ، والذي يُشبِهُ قَطرَةَ ندىً شَطَرَتها أشعَّةُ شمسِ نيسانَ شَطرين، الإنسانُ الذي يَخلَعُ عنه حُبَّهُ للّهو، للزحام، للسَهَر، إنسانٌ مَلائِكيٌّ لا يَعرِفُ الخَطيئَة، لكنّه يَسمَعُ عنها، وكأنّها ضَربٌ من الخيال، روحُهُ ساميةٌ مُحَلِّقَةٌ بعيداً عن القيعان والانحدارات، نَفسُهُ طاهِرَةٌ بيضاءُ كالثلج، لا تُلَوِّثُها صُروفُ الدهر ومفاسِدُه، تظُنُّهُ رَجُلَ دينٍ من فَرطِ فَضيلَتِهِ، لا أحدَ يستطيعُ فَهمَهُ، تَظُنُّهُ مُنطَوياً، مُنغَلِقاً، وهو في الحقيقة مُنفتحٌ على كل الثقافات، هؤلاء الأبرياءُ الأنقياءُ يَشعُرون كثيراً بالآخرين، قليلاً ما يتكَلَّمون، يَغوصون في تفكيرهم، فهو المؤنس الذي يُزيلُ عنهم وَحشَةَ الطريق المُظلِم البَعيد المدى، طريقٌ مَحفوفٌ بالوَحدَة، والرِّقَّةِ، والسكون، مَغمورين بالحَيرَة والترقب، ينتَظرون مَن يَقتَرِبُ من طُهرِهم ليُمِدُّوه بالنور، كَلِمَةٌ واحدةٌ منهم تَجعَلُكَ سعيداً، فهم كنسيم الصباح يُعانِقُكَ بهُدوءٍ، كشُعاعِ شمسِ نيسانَ يُشعِرُكَ بالدِفء، هُمُ النورُ الذي يتَسَلَّلُ إلى داخِلِكَ، يعيشون بين آلاف الأفكار السامِيَةِ التي تُوقِظُ فيكَ الحُبَّ وتُشعِلُه، حُبّ الله، حُبّ الأهل، حُبّ الوطَن، حُبّ الطبيعة، حُبّ تَنَفُّسِ الهَواءِ النَّقِيِّ، حُبّ أسرابِ الطيور المُهاجِرَة، حُبّ هُدوءِ الريف، حُبّ لَيل المُدُن، حُبّ أَزِقَّةِ المُخَيَّمات، حُبّ الإخوة في الله، حُبّ أشِعَّةِ الكواكبِ والنجوم، فلا يَغرسون سَكاكين الكراهِيَةِ في ظَهر أحد، إشراقَةُ وجوهِهِم تَجعلُكَ تَشعُر كأنَّكَ على أبواب الجَنَّةِ، وتشُّك عندها أنّ اللهَ لم يخلُقْ شيئاً في هذا الكون إلا الحُبَّ!