جرِّبوها ولن تندموا
سهيل كيوان | فلسطين
منذ أربعة أشهر، شرعت في إتمام أعمال بناء وقصارة وغيرها، وخلال العمل اضطررت إلى تفكيك لاقطات فضائية، فاختفى منها الكثير، ولم يبق سوى أقل من عدد أصابع اليدين من الفضائيات.
المهم في الموضوع أن المحطات الإسرائيلية مُحيت كلُّها، وكل ما يبثّه قمر “عاموس” الاصطناعي.
في البداية شعرت بقلق ما، فقد نقص أمرٌ كبير اعتدته منذ سنوات في برنامجي الصباحي، فقد كنت أول ما أفتح عينيّ في السادسة والنصف أتناول الحاكوم (الريموت) وأشعل الشاشة، وأبدا بالتنقل بين القنوات الإسرائيلية وخصوصا 11 و13 و12.
خشيتُ أنني سأفقد الكثير من المعلومات الضرورية، خصوصًا وأنني ككاتب صحافي يجب أن أكون متابعًا للمحللين الإسرائيليين.
مر يومان وثلاثة وأسبوع، وكان شعوري مثل مدمن على عادة ما، أشعر بنقص ما، ثم صار يمر يوم آخر وأسبوع آخر حتى اختفى الشعور بالحاجة إلى الإعلام العبري، وها قد مرت أكثر من أربعة أشهر، بدون فضائيات إسرائيلية، وللأمانة أشعر بأمر إيجابي ومريح جدًّا.
قرأت في المواقع العربية وعلى الفيسبوك أن أحد مقدمي برامج الصباح المعروف ببذاءته وسخافته، وصف رمضان الكريم بشهر الدّم، الحمد لله لم أشاهده وهو يتمطق بهذه الكلمات الحاقدة، الحمد لله لم أسمع عواصف وشلالات العنصرية والتحريض التي صارت وجبات يومية اعتادها الناس من اليهود والعرب، وكأن التحريض على العرب هو مقياس مهنية الصحافي ولكي يكون جديرا بوظيفته، بل أن بعضهم يعبّر في ملامح وجهه كأنّه في معركة عن كراهيته، فهو لا يقدم رأيًا أو تحليلا ولا حتى خبرًا، بقدر ما هو يعيد إنتاج تعابير الكراهية وإنكار إنسانية الآخر التي تضر في الشعبين وليس في العرب فقط، فهذا التحريض الإعلامي يزرع الكراهية لدى الأجيال اليهودية الصاعدة ويسبِّب تشويهات في وعيها وفي إنسانيتها لا يمكن إصلاحها.
أما العرب فيشعرون بالإهانة وبمزيد من الكراهية لهذا النظام كله بكل مركّباته، ويسهم هذا الإعلام في زرع قناعات وأفكار ومشاعر من الاشمئزاز والبغضاء لدى العرب، أيضا يصعب إصلاحها.
نجوت من التحليلات التي تعتبر الاحتلال أمرًا مفهومًا ضمنًا ويجب التسليم به أو تهمة اللاسامية والكراهية.
ارتحت من إلحاحهم في الأسئلة على ممثلي الجمهور العربي” أين أنتم؟ لماذا لم تستنكروا” و”أين قادة الجمهور العربي مما يحدث” قرفت من اتهام قيادات الجمهور العربي بالتحريض على العنف، “من أموال دافعي الضرائب”! وقرفت من الحذاقة التي تقول إن الجمهور العربي شيء وممثليه شيء آخر!
ثم يأتي من يهدّد سلطة رام الله بالويل والثبور، ويستغرب لماذا لم نقتحم غزة حتى الآن.
لقد حوّل الإعلام الإسرائيلي من يتساءل مجرد تساؤل عن أسباب العنف في هذه البلاد، إلى محرض وداعم للإرهاب!
ممنوع أن تتساءل، عليك فقط أن تصطف مع القطيع لإدانة النتائج دون التفات إلى المسبِّبات.
طبعًا لا يمكن أن أنعزل تمامًا عن الإعلام العبري، فأتابع موقع “هآرتس” حيث أجد فيه أصواتًا عقلانية معتدلة، لا تحمل الحقد وإن كنت لا أتفق معها في الكثير ولكن أحترمها، وهناك من تشعر به وحيدًا ضد التيار، أقرأ الرّدود النارية المستهزئة في أكثرها على مقاله، واتهامه بالنفاق للعرب وبتلقّي أجرته لقاء هذه الأفكار، ويصفونه بالمريض أو “حبيب الإرهابيين”.
نجوت من التحليلات والآراء الاستعلائية حول سلطة رام الله وماذا نفعل بمحمود عباس! هل نسقطه أم نبقيه، وهل نقطع عائدات الضرائب عنه! أم يجب دعمه خشية سيطرة حماس والجهاد على الضفة!
نجوتُ من المحرّضين على احتلال قطاع غزة من جديد، وعلى قتل قادة حماس والجهاد، ومنع قطَر من تمرير الأموال إليهم، ومن المحرّضين من أصل أميركي أو مولدافي على البدو ووصفهم بأنهم “لصوص الأراضي”.
لن أعود إلى هذه القنوات التي تعمل لنا معروفًا بأننا لم نطرد من وطننا، وبأننا نأكل خبزنا بعرق جبيننا.
نجوت ممن لا يرون في العرب سوى طبخةٍ مشهية، ومن كلاشيهات “أول امرأة في المجزار العربي.. تستلم وظيفة كذا أو تصل إلى كذا”!
لا أشعر بأنني خسرت شيئًا بعدم مشاهدة الفضائيات الإسرائيلية، وإن كان فيها أصوات نادرة جدًا تبدو إنسانية أمام هذا المدّ الفاشي.
ارتحت من إعلام يبصم بالعشرة لبيانات الشرطة والجيش حول أي عملية ونشاط عسكري أو غير عسكري، ولا يحاول أن يتوخى الحقيقة أبدًا، ولا ينقص سوى أن يرتدي هؤلاء الصحفيون بزّاتهم العسكرية وخوذهم ورتبهم أثناء تقديم برامجهم.
كذلك لا أنسى أنني ارتحت أيضًا من العرب الذين يتحدثون بما تحب أن تسمع الأذن العبرية، وكأن هذا ما سيقرّبنا من الحل لسرطان العنصرية المتفشّي في كل جزء من جسد هذا الوطن