أبو نظارة ( قصة قصيرة )

عمر حمّش | فلسطين

كنّا جراءً تجري بلا هدف ..

حفاةً تلقي بنا أكواخُ الصدأ ..

أنا ..

عن سربي أجنحُ إلى حيثُ قعدة الكبار ، التنصتُ كان هوايتي .. وهم ساهمون هناك على التراب .. تحت السياجِ الشوكيّ … مطرقون كالعابدين .. وسطَهم مذياعُ أبي نظارة .. وأنا في الجوارِ … يدهشني صياحُ المذيع .. فإذا ما سكت؛ وعلبةُ المعدنِ شرعت بالنشيد .. توجهوا كلّهم إلى أبي نظّارة … وسألوه ذات السؤال دفعةً واحدة :

ها … ماذا فهمتَ ؟!

حلمي الذي ورثتُه عن أمّي يعصفُ .. أتعلّقُ مع الكبار بفم أبي نظارة … يهزُّ رأسَه إلى الأمام مرتين .. يلقيه حيثُ الجانبين مرتين .. يحكي وأنفه يرقّصُ نظارته:

… والله يا جماعة الأخبار غامضة!

يزيدهم كلامًا .. لا أفهمُ منه شيئا!

أظلّ أتنقلُ … تارةُ بين سرب الحفاة .. وتارةً أجاورُ الكبار … تحت القمر .. قرب السيّاج الذي كان .. أنتظرُ خبر أبي نظارة .. الذي سيفهمه من كلام المذيع الفصيح … لأرتدَّ دوما خائبا .. وقلبي يهوي داخلي مثلُ فرخٍ كسيح ..

يوما جاءتنا الطائرات … جعلت صبحنا بلون القار .. ولم يعدْ أحدٌ فينا يرى أحدا .. تنقّل الموتُ في أزقتنا على سيقانٍ من غبار .. وهربت الناسُ .. فهربتُ .. عندها .. أنا رأيت أبا نظارة يجري بلا نظارةٍ .. لكنني عرفتُه .. سمعته يصرخُ تحت التلّة لمّا هوّت أمّ حسين .. رأسُ أمّ حسين يومها في الرمل انغرس .. فردت كمّي ذراعيها كرايتين … واستكانت .. لم أر بعدها أبا نظارة .. ناس قالت : شرّق .. ناس قالت : غرّب .. لكنه غاب .. هو غاب … وأنا انشغلتُ مع الناس في دفن العباد .. كبرتُ يومها ألفَ عام .. واسوّد بختي من يومها .. ومن يومها لم يبرحني اثنان .. صوتُ المذيع ذاك .. وشخص أبي نظارة الذي- بعدها – لم يأتِِ على سيرتِه في مخيمنا أحد ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى