الهروب من الماضي
صبحة بغورة
كانت تحتاج في كل لحظة ضيق إلى حضن يحتويها تشكو له همومها وأن تسند رأسها إلى كتف تبكي عليه انهزامها من ماضي تريد أن تفلت من أسره ومن العار الذي وصم عائلتها، لم يكن الأمر سهلا أن تتهرب ” نادية” من بعض ماضيها، لقد وجدت نفسها منذ طفولتها بين أحضان مدينة “ليون” الفرنسية فيها عاشت يوميات صباها وعثرات مراهقتها وأحلام شبابها، كان العرب المقيمين بالبلدة يتذكرون خلال لقاءاتهم موطنهم الأصلي بكل تفاصيله الجميلة بكل اعتزاز لكن لأسفها الشديد أن ماضي والدها كان يخذلها بعدما خان الوطن ولم يكن أمامه بعد افتضاح أمره إلا أن يجمع أسرته ومتاعه ويتركه لأجل غير مسمى، ولم يمنع هذا أن يلحقهم العار مع القادمين الجدد إلى “ليون” وتعرفوا عليه . في منزل نادية يعيش أفراد أسرتها غرباء عن بعضهم، التواصل منعدم بينهم، أصبح البيت مكانا للنوم فقط، والشيء الوحيد الذي كان يلهيها وينسيها كتلة الهموم التي تطبق عليها هي مدرسة الرقص التي تهرب إليها وتقضي فيها معظم ساعات يومها خاصة بعد هروب أختها من البيت مع ذلك الأفريقي الذي زاد الوضع سوءا. هي لطالما حلمت أن تسبق مكانها وزمانها بخطوة لكن الحياة لقنتها درسا تتجرع فيه لوعة الموت ولا تموت، أسئلة كثيرة تشغلها وتستقر كبيرة في أعماقها المدمرة وتحرك فيها شعورا يدفعها لتدفن نفسها كل يوم في الوحل والرماد ويقضي على كل بادرة أحساس جميل بالسعادة المفقودة.
ذهبت كعادتها للمدرسة، وجدت في استقبالها الزملاء والزميلات يحاولون معها جاهدين كعادتهم إزالة مسحة الحزن التي تلازم وجهها ولا تفارقها طوال الوقت، ارتاحت نادية بعض الشيء بعدما علمت أن مدرب الرقص الفرنسي قد ترك العمل بالمدرسة إذ كان يعاملها بعنصرية مقيتة وحل محله المدرب الروسي ” أليكس” الذي ارتاحت إلى معاملته ومحاولته جاهدا أن يمحو علامات الأسى التي تهيمن على جوارحها وأن يخرجها من أسر السجون المظلمة التي حبست نفسها فيها ، ترجع إلى البيت متأخرة وتجد أمها قلقة تنتظرها ولكنها تبادرها هذه المرة باللوم العنيف ، كيف ائتمنت نفسها لإنسان غدر بأهل بلدته وخان وطنه ؟ وبأي وجه يمكن أن يعودوا إلى بلادهم ويقبلون ترابها بعدما طعنها أبوهم في ظهرها ؟ صاحت : إننا ندفع ثمن ذنب لم نرتكبه ، مللنا حياة الغربة والفراق، العائلة تشتت هربا من العار الذي ستتحمله أجيال قادمة ، كم تمنت لو أن غزارة الأحداث ومستجدات الحياة ومتغيرات العيش يمكن أن تنسي الآخرين عارهم ليعيشوا يوما واحدا في سلام بعيدا عن نظرات الاحتقار والشعور بالذل والمهانة، طأطأت الأم رأسها وبكلمات خافتة مقهورة أكدت لها أنها لا ذنب لها في ما حدث ، كانت مجبرة على البقاء لأجلهم وحمايتهم قدر استطاعتها ، ولكن اتضح لها أنهم مجرد أشجار لا تطرح إلا الكآبة والإنكسار، تنهدت نادية بعمق ما تحمله من آهات ، نظرت إلى أمها نظرة أسف وحزن يصفع وجهها ويتجمد .
أحبت نادية الذهاب إلى مدرسة الرقص، وأحبت أكثر مدربها ” أليكس” الذي يجيد الإنصات إليها ويطمئنها أن الحياة لا تتوقف عند مشكلة أو حادث يمر بحياتنا ، ومع مرور الأيام توطدت العلاقة بينهما أكثر وأصبح كلا منهما يلازم الآخر ويشاركه همومه، حتى فاجأها ذات يوم بأنه يريد الارتباط بها لأنها أصبحت جزءا منه ، ترددت وخافت أن يكون مصيرها مثل مصير شقيقتها التي اضطرت أن تهرب من البيت ، وعدته أنها ستتصرف بحكمة خاصة أن والدها يعد أيامه الأخيرة بعد إصابته بمرض يفتك به يوما بعد يوم. دخلت مبكرة المستشفى لزيارته ، اقتربت من السرير والسكون يلسعها كتيار يبعث الحياة في جهاز هامد ألفت نادية بكاءه ودموعه المنهمرة التي تستبق الألم ، اقتربت منه أكثر فارتمى في حضنها رمية التائه الذي وجد ضالته وانتحب طويلا وهو يبحر في الذاكرة ، أمسك على وهنه بيدها وبصوت خافت ضعيف سألها هل سيعود إلى بلدته، وهل سيجد من يبكي عليه هناك ، هل تقبل تربة بلده أن يتوسدها ؟ إنها أيام عمره تساقطت وتقطع خيطها . مرت بضعة أيام صارت خلالها نادية أكثر صمتا ، ذهبت لزيارة أبيها رفقة ” أليكس” الذي نوى طلب يدها منه، وفي صياح أخرس غادر الحياة ورحل عن عائلته وبيته الذي غاب عنه الدفء طويلا تاركا ذاكرة العار وبيع الشرف .. والأحزان ، وهناك في مقبرة بعيدة بضواحي مدينة “ليون” المكتظة دفن وهو يحمل حنينا وشوقا للوطن، وجدت نادية فيمن اختارته شريكها في الحياة ملاذا لها من الذاكرة المحشوة بكل المتاهات التي لا فرار منها سوى أن تنثر همومها على مسارح رقص الباليه على أمل أن يدفن الماضي مع أجيال قادمة وأن تتوسد تربة بلدها في نومها الأخير.