العلاج بالعمل
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
كتب الأديب الألماني “جيته” عبارة تستحق التأمل جاء فيها: “دع ذلك الذي يتحسس طريقه في الظلام والضوء المرتجف يستمسك بهذه الوصية ويحرص عليها أشد الحرص، وهي أن يعمل الواجب القريب منه، فإذا قام بذلك أصبح الواجب الذي يتلوه واضحاً ظاهراً”.
والعبارة في بعض معانيها تدعو إلى العمل والذي يعد العلاج الشافي لكثير من مشكلات الإنسان في هذه الحياة، فالصدمات الكثيرة التي تمر على الإنسان وتصبح جزءاً من حياته، وقرينة لكل الناس تقريباً، ليس أفضل من العمل لتخطيها.
ويرى “جيته” أن العمل هو الذي يعطي للدنيا معنى وطعماً حلواً، فالعمل في رأيه هو القوة التي تجعل الحياة ربيعاً، والإحساس مفعماً بالصدق، وبه تنتعش الأرواح، ويجد الإنسان نفسه وتتحدد قيمته.
ثم يرسم “جيته” ملامح العمل ونوعه وحجمه في حياتنا؛ فيرى أنه من الخطأ أن نرسم لأنفسنا خطة ضخمة لأعمال كبيرة، وننتظر أن تتحق تلك الخطة بشكل تلقائي، لأنه في الغالب لن تتحقق، وسنصاب بعدها بالتعاسة والاكتئاب.
وإنما يجب علينا أن نقوم بالواجب القريب، والذي إذا قام به الإنسان سيصبح الواجب التالي له واضحاً ظاهراً. ويرى “جيته” أن الواجب القريب والذي قد يبدو بسيطاً سيقود إلى دائرة أوسع ومعاني أكبر، والخطوة الأولى يستتبعها خطوة ثانية، ومن ثمّ ثالثة ورابعة، وأصحاب الأعمال العظيمة والكبيرة يعلمون أن أعمالهم بدأت بخطوات صغيرة متواضعة.
قد تكون المبادرات الأولى للأعمال العظيمة هي الأكثر أهمية وحسماً، ولعلنا جميعاً نلحظ أن كثيراً من المقربين منا ولاسيما الشباب الذين أخفقوا في حياتهم رغم ذكائهم ومواهبهم الواضحة؛ قد يرجع سر إخفاقهم إلى أنهم تقاصروا عن الواجب القريب منهم، حيث يعدونه بسيطاً متضائلاً، وأنه بعيد عن الأحلام الكبيرة والآمال العريضة، وبالتالي يفشلون في تحقيق أحلامهم، لأنهم لم يربطوا بينها وبين الواجب القريب منهم، فقد أرادوا أن يدركوا أحلامهم بالقفز إليها بدلاً من السير المتأن لبلوغها.
إنها حكمة “جيته” التي آمن بها؛ فالعمل البسيط المتواضع، البعيد عن الأضواء، الذي قد لا يكون مغرياً مثيراً هو العمل الذي لا يقبل عليه كثير من الناس، رغم أنه الباب الذي يقتحمون به الحياة الإيجابية، حيث إن كثيراً من الناس يفضلون الأبواب الواسعة التي يظنونها الأبواب الوحيدة لإدراك أحلامهم.
لقد ظل “جيته” طوال حياته التي دامت أكثر من ثمانين عاماً يعمل ملتمساً السعادة والفرح وعذوبة الحياة في أعمق معانيها، قضى عمره في عمل الواجب القريب منه، كالتلميذ الصغير المثابر والمتواضع، ظل مخلصاً للكتابة التي كانت عمله الذي اختاره وآمن به طوال حياته.