رجلٌ كبير السِّنِّ، خلفَ منضدةٍ كبيرة ـ اللقاءُ الثاني
عبد يونس لافي
رأيْتُهُ مرَّةً أُخرى، في ذاتِ الْمخزنِ مُنهَمِكًا في عملِه. وقفتُ حتى جاء دَوري لِأُعْطِيَهُ ثمنَ ما تَبَضَّعْت.
سلَّمْتُ عليه قائلًا: كم أنا سعيدٌ أن أراكَ ثانيةً وأنت بهذا النَّشاطِ، بعدما انْقَطَعْتَ عن عملِكَ زمنًا طويلًا،لم يكُنْ لكَ فيه خَيار.
أجابَني على الفورِ:لولا عَوْنُكَ ما كنتُ كذلك،
أنتَ أنتَ وَسكتْ! قلتُ لهُ: بل إنَّهُ اللهُ فأجابَ: آمين.
هكذا حالًا قالها،وهكذا يقولُها آخرونَ كما نقولُها نحنُ – وإن اخْتلفَ اللفظُ قليلًا – بالمعنى نفسِهِ،أو ربما اسْتُعْمِلَ اللفظُ في مواضِعَ أخرى، لِمَعانٍ متقاربةٍ لِأفادةِ التَّحقيقِ والإقْرارِ والتأكيد.
كم جميلٌ ان تَعترِفَ بالفضلِ لأهلِ الفَضْلِ، لأنَّهُ من اعْترَفَ لأهلِ الفضلِ بفضلهِم، فهو لا شكَّ من ذوي الفضل. والأجملُ أن يُنْسَبَ الفضل إلى من مَكَّنَ المُتَفَضِّلَ أن يَتَفَضَّل.
إنَّ حقيقةَ الأمرِ:لا فضلَ من البشرِ ولا مُتَفَضِّلَ بذاتِهِ بينهم، إنما الفضلُ هو ممَّن وفَّرَ الفضلَ، ثم مكَّنَ المُتَفَضِّلَ أن يكون مُتَفَضِّلا، وعندها يكونُ المُتَفَضَّلُ عليهِ مُتَفَضِّلاً أيضًا، بِقَبولِهِ ذلك الفضلَ، فيشترِك الإثنانِ في صفةِ الفضلِ مَجازًا.
اما صفةُ (المُتَفَضِّلِ) الحقيقيةِ المطلقة،فهي وإن تشابهت لفظًا، إلّا أنَّها تكتسبُ الإطلاقَ والقَصْرَ والحَصْرَ، لذاتِ اللهِ ثبوتًا لا اكْتسابا،فلا تُخْطِئَنَّ التقديرَ أُخَيّْ.
نعم فَليفْرحِ المُتَفَضِّلُ الواسطةُ، بتحقيقِ أمرِ (المُتَفَضِّلِ الحقيقيِّ) وإنجازِه،مُدْرِكًا أنَّهُ لم يكنْ إلّا واسطةَ نَقْل.
وليفرحِ المُتَفَضَّلُ عليهِ مُدْرِكًا اَنَّها هِبَةُ اللهِ،سيقتْ إليه بهذهِ الواسطة، وليشكرِ اللهَ على أنَّهُ (المُتَفَضِّلُ الحقيقيُّ) دون ان ينسى شكرَ المتفضِّلِ الواسطةِ، فمن لم يشكرِ الناسَ لا يشكُرُ الله.