قليلا.. من كُثَيِّر عَزَّة
ناصر أبو عون | رئيس تحرير جريدة عالم الثقافة
على قارعة الطريق في ضاحية (القُرُم الشاطئية) بالعاصمة العُمانيّة (مسقط) كنتُ ملازمًا للشاعر العراقيّ الأرومة العُمانيّ الجنسيّة عبد الرزاق الربيعيّ، وعاصرتُ ميلاد العديد من قصائد ديوانه الأخير (قليلامن كثير عزة) الذي صدر عن وهو في حقيقة تكوينه البنيوي (سيرة ذاتويّة شعرية) تؤرخ لفاصلة على ناصية القصيدة من حياة الشاعر قاربت ربع قرن من الزمان قضاها في كنف زوجته التي رحلت بعد صداقة غير مرغوبة مع وحش السرطان الذي أبى إلا أن يتغذى على (رئتيها)، ثَمَّ كانت قصيدته الأثيرة (خذي رئتي) هي العمود الفقري الذي استند عليها ديوان الشاعر.
عبر خمسين نصًّا شعريًا زاوجت في بنيتها الموسيقية بين (التفعيلة المشحونة بالحزن)، و(فداحة النثر) التي أرَّقتْ اللغة وتشظَّتْ على سياقنها الكلمات التي تبرعمتْ على أفرع النصوص لتتناسل منها المعاني وتسيل على جذوع الوحدات البنائية للقصائد استطاع الشاعر أنْ يصنع حالة خاصةً من الألم الممزوج بالألم في تضفير رائع يجيده ثُلّة من الشعراء الذين عجنتهم الغربة في أفران الاغتراب المصطنعة خصيصًا للشعراء العراقيين وبخاصةٍ جيل الثمانينيات الذي قذفت بها الطاحونة (العراقية الإيرانيّة) في أتون الترّحل الإجباريّ على حواف المدن الغريبة والتنقّل الغرائبي حاملين على أكفّهم (بعض حياة)؛ ورماد القصائد المستعرة على حطب الوطن في (قوارير) شفافة كروحهم التي شفَّتْ، فرقَّتْ، فتسامَتْ، فارتقتْ، إلى سدرة الكون فكانت قابَ دعاءٍ أو أنقى من بلّورةٍ في كوكبٍ عراقيّ يدور في فلك الروح.
وعبر استراتيجية التَّناص لا يغادر الشاعر عبد الرزاق الربيعيّ غلاف الديوان خاوي الوفاض؛ بل ينطلق إلى العتبات الداخلية لنصوصه مخلفًا وراءه على صفحة الغلاف (تناصين ديناميكيين) يتفاعلان كيميائيا ويعلق رذاذهما على أكفّ القراء حتى يستقران في ذاكرة الوعي التراثي؛ جاء التناص الأول مستندا على بيت المتنبي الشهير (تكسّرتْ النِّصال على النِّصال)، ومن يتصفح الديوان سوف يكتشف أن التقسيم الثلاثي الذي اعتمده الشاعر لأجزاء الديوان مجرد وهم وتخييل (حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا) وفي الحقيقة إن الهموم تجمعت على الشاعر وتتابعت عليه نكبات الدهر وما (نصال) الفقد والوجد والسهد إلا حلقة دائرية من الألم تتابع فتسقط متتالية فرادى وجماعات ومتقاطعات على (جسد الشاعر) فلم تترك موضعًا إلا أدمته خاصةً أنها أصابته بعد أن غمست أسنّتها في (كنانةِ منقوعة في سُمَّ الغربة والاغتراب) حملها فوق ظهره عابرا بها الحدود ما بين (بغداد وصنعاء ومسقط) فأكلت كل منها على ظهره وشربتْ.
ودخولا إلى عتبة الديوان الأولى عبر لوحة الغلاف الذي نفَّذه الفنان العُماني محمد راشد العيسائي والذي وضع بَصْمَتَه الفنيّة تجمع بين (البياض) في الخلفية وما يحمل من دلالة رمزيّة مزدوجة تشي بالموتِ الذيّ خيّمَ على حياة الشاعر وتشي بالغياب فحيثما يكون البياض يتوارى كل شيء خلف الظلال، وتشي أيضًا بحالة النقاء والتصفية التي يتحضّر لها الداخلون إلى محراب الخلود الأبديّ قُبيل عبور البوابة الوسطة ما بين (الحياة والموت)، وجاء التصميم مقرونًا برؤية الشاعر عبد الرزاق الربيعي الذي أصرَّ على وضع (صورة زوجته وهي تحتضن ابنته) على صفحة هذا البياض الثلجيّ فجاءت الصورة لتشكل على الخلفية البيضاء (قصيدةً كاملةً) تختزل معظم القصائد الداخليّة وتحتضنها في موقفٍ دراميّ وكأنّ يدُ القدر ضغطتْ زرّ الكاميرا لتسجيل هذه اللحظة لتتخلَّقَ (طائر فينيق) داخل صندوق المحفوظات في هاتف الشاعر، ويحطّ بجناحيه على صفحة الغلاف ليشي في النهاية بدلالتين تختزلان آلاف الكلمات في أقصر رسالة حبٍّ تبعث بها السيدة عزّة الحارثي من عالم الخلود الذي تحضّرَتْ له جيدًا قُبيل دخولها ملكوت التطهير، وبرزخ التنقية.
وجاءت الدلالة الأولى في (بسمة/ رقصة الوداع الأخيرة)، التي حطّت على شفتيها ورسمت على صفحة وجهها (خاتم الرضا)، تبدت من خلف زجاج النظارة الشمسية، مطبوعةً على الشفاه تنطق بها ضمّة الصغيرة دجلة وكأنها تعتصر حليب قلبها شوقًا أثيريًا ترسله دفقات متتالية في قلب الصغيرة ليكون أكسيرًا يستمدُ منه الشاعر مشوار حياته المتبقي مترعًا بالأمل.
والدلالة الأخرى جاءت متضمنة في تضاعيف المعنى الماورائي للصورة وكأنها تستنطق المكنون من عالم الغيب وتبعث برسالة من المنطقة الوسطى ما بين (الموت والحياة) تقول فيها: (دجلة وكفى)!
وعبر استراتيجية (المفارقة) الممزوجة بالتخييل والمراوغة يستدعي عبد الرزاق الربيعيّ تراث الشعر العذريّ حيث يجرُّ القارئ إلى منطقة أثيرة من خلال إجباره على استدعاء قصة الحب العربيّة الشهيرة بين (كُثَيِّر وعزَّة) وفي الحقيقة هي إحدى مخاتلات الربيعيّ وهي ثيمة عالقة في شعره منذ ديوانه الأول حيث يعمد إلى تراكيب ظاهرها لا يطابق باطنها، وهي تعتمد أكثر على خاصية (الخداع البصريّ) التي لا ينجو منها إلا فصيل قليل من القراء المتمرسون.
وعبر الاشتغال على (ظاهرة تشظّي اللغة الشعريّة) جاءت قصائد الديوان كاملة متكئةً على عفوية القصد، مشذبةً ومثقّفة كأسنة الرماح -وهي خاصيّة لا يجيدها المتكلفون، أو المتشاعرون- فلن يجد القارئ الاحترافيّ كلمةً، أو فاصلةً، أو صوتًا شعريًا، أو عمليةَ تنغيمٍ موسيقيّ محشوةً لضرورةٍ شعريّةٍ أو محشورةً على ناصيةِ النصَّ، ولن يعثرَ على نتوءٍ في خاصرة القصيدة، ولن يُصادَفَ حراشف لغويّة حين يُمَرِّرُ روحَه على جسدِ الفاصلة الشعريّة.
وأخيرًا يمكننا القول بأنّ غياب زوجة الشاعر عبد الرزاق الربيعيّ عن (الحياة الفانية)، وانسحابها إلى (عالم الخلود الأبديّ) ليست إلا فاصلة في نهاية سطر من الحياة الكاملة التي عاشها الشاعر في كنف زوجته، وحضن ابنته. والحياة الحقيقية (ليست مجرد عبور)، أو (لقطة تسجيلية نائمة في صندوق محفوظات الهاتف)، أو صورٍ ورقيّة بالأبيض والأسود أو حتى ملونة تمتليء بها خزانة ذكرياتنا قُبيلَ اندلاع الثورة الرقميّة وتطوّر تكنولوجيا الاتصال، ثُمَّ انتقلَتْ قصرًا عبر وسيط لغويّ إلى خانة الشعريّ لتنام في النهاية على سطور مضمخةٍ بالسواد في صفحات من ورق تُخلّدُ الذكرى، وتُذَكَّرُ أصحاب الذاكرة المثقوبة بأنه كانت هنا يومًا ما (بعض حياة)؛ فالتاريخ غير المدوَّن، والمشاعر غير المكتوبة، والحياة على هامش التاريخ ربما تكون هي الحياة الحقيقية؛ فليس كل ما يلمع ذهبًا، وكثيرا ما تقبع خلف الظلال أكثر من حياة لا يدركها العقل، ولا يلتفت إليها السائرون نيامًا في دهاليز الحياة