كبوة عالمية ما بعد النهوض
عفاف عمورة | برلين
المراقب الحصيف لما يجري بشكلٍ متسارع على خط العمليات الميدانية الدموية في العالم والمترافقة مع الحُمَّى السياسية الإقليمية والدولية، وما يرافقه من قلقٍ وتوتّر وعدم اسقرار، يؤشر إلى حالةٍ من فقدان السيطرة على الأوضاع في العديد من تلك المناطق الساخنة ، كما يؤشر دون أي تردّد إلى شكلٍ من أشكال التسليم القدري بتفاقم وازدياد بؤر التوتر في تلك المناطق.
في هذا السياق لا نتحدث عما جرى ويجري في منطقتنا العربية فقط، بل نتحدّث عما يجري في مختلف أرجاء المعمورة من حيث المشاكل المكبوتة والقضايا الهامة المؤجلة، والمخاضات النازفة المؤجَّلة التي لم تصل بعد إلى حد الانفجار، والاختلال البنيوي والهيكلي في ميزان القوى المتصارعة، والمصالح والاعتبارات الأخلاقية بكل معاييرها، التي طالما تغنى بها سَدنَةُ السياسةِ الدولية وأعلامها وروّادها، وخاصة في أثناء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية .
اليوم تحتاج الجماهير إلى الأمن والأمان والاستقرار ،ويعلو صراخ الجميع منبهين العالم بأنهم في مرمى النيران ،وإن تباعدوا عنها نوعاً ما، أو احتموا بسياجات واهيةٍ وضعيفةٍ حتى ولو كانت من خرسانات الحدود والأنفاق والخنادق والأسلاك الشائكة المكهربة المترافقة معها، فجدار الفصل العنصري الذي قامت ببنائه (إسرائيل) ضد أبناء شعبنا العربي الفلسطيني على مدى آلاف الكيلو مترات والذي ابتدأ بطول 770 كيلومتراً في الضفة الغربية ونحو 142 كيلومتراً في الجزء المحيط بمدينة القدس. والذي أطلق عليه اسم غلاف القدس. هذا الجدار وطريقة وأسلوب وأهداف بنائه لم يعد حكراً على (إسرائيل)، بل يعيد إنتاج عنصريته على خط الحدود بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، في إشارةٍ واضحة موجهة لعموم دول أمريكا الجنوبية، التي قدّمت للبشريةِ نموذجاً خلاسياً رائعاً عابراً للتعصبات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية (الإثنية) المقيتة، وليس بمستغرب أن تفكِّر بعض الدول بشكلٍ جديّ في تعميم هذا النموذج العنصري اللاإنساني،على تخومها لحماية حدودها البرية، متناسية أن كرتنا الأرضية بما تملك من إمكانيات طبيعية هائلة لا يمكنها أن تحاصَر بحدود البراري، وأن ما نعرفه من متوازيات البر في الماء والهواء حامِلَينِ كبيرينِ لعناصر التفاعل الإنساني الخلّاق وعناصر التفاعل المجتمعي الواسع.
لم يكن الأمن والاستقرار قد أخذا طابعاً حقيقياً في وطننا العربي. فلم يزل الصراع الضمني والعلني قائماً . شهد ذلك حالات اللجوء الجماعي عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وحملات تهريب مئات الآلاف من الشباب المحرومين سُبُلَ الحياةِ والعيش الكريم في أوطانهم . والقادمينَ من جنوب العالم البائس المُسْتَلَب والمنهوب والملتهب على الدوام، وعلى خط التماس الساخن بين هؤلاء، وقلاع الصناع والتجارة والمال الشمالية، حيث يتم استخدام كل أشكال النهب والسرقة والتفنن في استلاب إنسانية الإنسان، من خلال سلسلة طويلة ومعقّدة من البورصات الرأسمالية والنيوليبرالية المتوحشة للمتاجرة بالبشر، وتجذير لفكرة الأقنان والعبيد لكن في ظل حكم (ديمقراطي) مضبوط على مقاسات محدّدة وتمييز عنصري ممنهج، وغير مغطى بورقة التوت .وليس كما يزعمون .
أنصار ومؤيدوا الليبرالية التاريخية في (ديمقراطيات) الاستفتاءات اليمينية الشعبوية المتطرفة، يتحدّثونَ عن تحرير التجارةِ والمال والاستثمار فحسب، ويؤكّدون من خلال نهجهم وتطلعاتهم ومصالحهم أنهم لا يريدون تحريرَ عناصر الميزات النسبية في بلدان الجنوب الفقيرة التي تعاني الجوع والحرمان والفقر والأمراض جراء الحصارات والعقوبات المنظورة وغير المنظورة ، بفعل الفاعل الليبرالي نفسه، الذي شَرعَنَ ويُشرعِن لأنظمة الفساد والفاسدين والمفسدين، ووكلاء الأعمال المستخدمين والمستأجَرينَ من قِبَل الشركات العابرة للقارات والشركات العابرة للقوميات والجنسيات .
ضمن هذا المعطى نجد أنَّ مديروا الحروب عن بُعد يحرصون بشكلٍ متساوق على تعميم الفوضى واللادولة، وتهديم كل أركان الدولة ومؤسساتها وإداراتها التي ما زالت شواهدها شاخصةً حتى اللحظة الراهنة في العراق وأفغانستان وسورية وليبيا واليمن، وقد يلتحق آخرون في القريب العاجل بهذه الدائرة من الجحيم في تعميم الموت والخراب والحرائق والدمار .
نعم هم يعلمون ما آلت وما ستؤول إليه الأوضاع في بلداننا العربية ، وهذا هو المشهد (النبوئي) الذي يروِّجون له ويَعِدونَ بهِ، ولهذا السبب تتعقَّد المشاكل ،وأهم القضايا الاستراتيجية في كامل بؤر التوتر القائمة، فيما تنذر بأقسى وأصعب العواقب الوخيمة في بلدان الاستقرار الضعيف والهش، حتى إن المراقبين والاستراتيجيين والمتخصصين بالشأن السياسي والأمني والاقتصادي، والمتابعين لما يجري في عالم اليوم، لا يستبعدون المزيد من الوهن والضعف والانهيارات العالمية العابرة للحواجز الوهمية براً وجواً وبحراً.
إنَّ الخطط الاستراتيجية والمصالح الخاصة لبعض دول العالم الكبرى قد تنبأت بما سيؤول له وضع الطبيعة وتغيّر المناخ نتيجة الاستخدام الجائر للطاقة التي تعمل على تآكل طبقة الأوزون وإصدار الإنبعاثات الحرارية في الجو مما يؤدي إلى احتباس حراري له مخاطره الجمة .ومن أجل مزيد من التهويل وزيادة الرعب لدى الشعوب الفقيرة فإنَّ هوليوود الأمريكية كانت قد أنتجت فيلماً سينمائياً بعنوان: (اليوم ما بعد الآخر) من إخراج رولان إيميريش، ومارك جوردن . وكتابة رولان إيميريش وجيفري ناشمانوف ، الصادر عام 2004 وهو من انتاج الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. هذا الفيلم يتصف بأنه فيلم الكوارث وتوقف الدوران الحراري الملحي، والطقس المتطرِّف، وحالة التبريد العالمي. جاء موضوع الفيلم مُنصبّاً على الكوارث المناخية المحتملة، والفيضانات البحرية، والتسونامي، وحتى الفيضانات المدمّرة ،وهلاك أنماط واسعة من البيئة الحيوانية والنباتية على كرتنا الأرضية، والدخول العاجل نحو حقبة جيولوجية جليدية جديدة تجفف منابع الحياة بشكلٍ كامل.
ما افترضه منتجو الفيلم الأمريكي الكندي لم يأتِ من فراغ، بل قال به العلماء عدّة مرات وأعادوا تكراره بإلحاحٍ على مدى عشراتٍ من السنين، لكن آلة العناد والتكبّر والغطرسة العالمية رفضت وترفض بقوة وبثبات، إعادة النظر في النمط الهلاكي الذي يقرِّب البشرية من لحظة الانهيار ودمار كل أشكال الحياة على الأرض بشكلٍ كامل.أمام هذه السيناريوهات المرعبة جداً، تبدو الحروب القائمة والاحتقانات والضغوط المنتشرة مجرَّد تمهيد لما هو أفدح وأقسى، وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما يجري من تشابكات وتصادمات معلنة ومخفية، وكيف أن الجميع يحاربون الجميع ويدمرون كل شيئ من حيث يدرون أو لا يدرون، سنصل إلى قناعة ثابتة وراسخة بأنَّه لا مفر من أن يرفع العقلاء في كرتنا الأرضية أصواتهم عالية مدوية، وأن يتم الوقوف دون تردّد في وجه من يصنعون الموت الجماعي.
تبدو تجليات المشهد التراجيدي ومفرداته واضحةَّ بيِّنة على الأرض، ولا تحتاج لمزيد من الشرح والتفسير. وخيارات الخروج من النفق المظلم واضحةٌ وضوح الشمس أيضاً، والطريق لذلك الخروج يعني الإقرار المسبق بأنه لا منتصر ولا مهزوم في معركة الدمار والفناء الشامل للبشرية ، وأن طوباوية فكرة التجديد العالمية تعيد اليوم إنتاج أبعاد سابقة خارج لعبة السذاجة و حُسن النية.
حقيقة الإصلاح اليوم تنطلق من حقيقة بسيطة وسهلة وغير معقّدة، مضمونها أنَّ الكل يمتلك أسباب التدمير والقوة، وإن بدا ضعيفاً واهناً وهشاً، وأنَّ من استمرأوا إدارة حروب السيطرة والتفوق والتنسيق العملياتي المقرون بفائض جبروت القوة الغاشمة، لم يعد بوسعهم السيطرة على الحروب الماثلة أمامهم، وإن بدت محدودةً في بقع جغرافية متوزعة، مقرونةً بأقاليم محدَّدة بعينها.لكنها ستتوسّع وسيزداد لهيبها ونارها وخرابها .