أضغاث صحوتي.. أبي ودقات الساعة

منال رضوان | مصر

اللوحة للفنان محمد رضوان
ولدت لامرأة تتقن فن الصمت، ولا أعرف هل كانت هي طبيعتها، أم كان ذلك بفعل الأيام والمواقف والمشاعر المرهفة والتي يجدها البعض بلا مبرر، وأن حبائل السكون والسكوت والجمود والتلعثم والإخفاق آن لها أن تُقطع في محاولات بائسة يائسة من قبل بعض الجيران والأصدقاء.
– مع أمي علي ألا أتعلم سوى الهدوء؛ لذا وبالنسبة لي كانت القراءة هي الملاذ والملجأ، فضلًا عن الرسم والذي كان جسرًا بديلًا عن الكلام.
كنت أزركش أطراف ورقة أبترها خلسة من منتصف كراس الإملاء أو التعبير وأعكف على تلوينها فأصنع منها بطاقة معايدة أتكلم معها من خلالها :-
(أحبكِ) وهذا القلب الوردي الممهور بفابير كاستل.
(عام جديد سعيد يا أمي) الألوان الشمعية ستكفل لي الرحابة في تلوين سانتا من دون جهد.
من أجل أمي التي لا تفضل الحديث، أتقنت الحيل الطفولية الملونة ومزج الألوان الخشبية بأطرافي، أحضر الشمس لها بجرة قلم، كما يمكنني إضافة بعض الحمرة فيكتمل القمر بلمسة من أصبعي.
آه.. أيتها الساكنة الهادئة القابعة في كل الحكايات، أكلما أردت الحديث عني وعنهم اختطفت نداوتك هدب أقاصيصي؟!
صمتًا جميلًا كما اعتدتِ؛ فلدي المزيد الذي فعلته من دونك ذات ليلة.
– أراد أبي التعاقد على شراء بعض المعدات لتجهيز وليمة رسمية بالفندق الذي يشغل فيه وظيفة مسئول التجهيز والتحضير، ليلتها أخذني معه إلى وسط البلد، وهناك في أحد ميادين المنشية، وقفت مكاني ولم أتحرك خطوة واحدة؛ إذ وجدت في أحد أكشاك بيع الكتب مجموعة الأعمال الكاملة لميخائيل رومان وكتاب التعادلية مع الإسلام لتوفيق الحكيم، نظرت إلى أبي الذي ابتسم قائلًا:
(مفيش مرة تطلبي بلوزة وللا شنطة وللا حاجات من بتاعة البنات!)
– في تذمر مصطنع قالها أبي، وفي خجل مصطنع ابتسمت أنا أيضًا، كنت قد اعتدت ألا أطلب غير الكتب وربما العرائس، والتي، مازلت حتى الآن أطلبها من بعض الأصدقاء أثناء الدعابة أو للمساعدة في عقد مساوماتي الطفولية المضحكة.
بابتسامة وقبلة على جبين أبي، أنهيت الصفقة لصالحي وحصلت – فوق البيعة – على أحد أجزاء قصة الحضارة لويل ديورانت، أذكر أنه كان قيصر والمسيح.
ذهبنا إلى مكتب تجهيزات الفنادق وقام أبي بسرد مطول يطيب خاطره به أمام الجميع، وكيف أنه هُزم أمام مطالبي لمرة أخرى، ضحكنا وخبأت وجهي في الكتب حتى انتهاء اللقاء.
وفي طريق عودتنا لمحت أحد المحال العريقة وقد تزينت واجهته بعشرات الساعات الأنيقة من ماركة أورينت (Orient).
يا الخيبة، ألم يكن بوسع الأستاذ ميخائيل أن ينتظر؛ فالساعة جميلة جدًا ويبدو أن السماوات قد استمعت إلى أمنية أبي وصيرتني أشتهي حاجات البنات!
نظر والدي إلى عيني وكان خجلي هذه المرة حقيقيًا، سألني:
– ها، عايزاها؟
ابتسمت، وقبل أن أجيب قال في لهجة مشجعة:
– تعالي نشتريها.
غالية يا بابا كانت بمقاييس ذلك الوقت (مئة جنيه أو ما يزيد قليلًا في العام ١٩٩٨)
اشترى والدي لي الساعة وكانت فرحته حقيقية، كذلك كنت أنا، وعدتُ منتصرة في موقعتين، ومستسلمة له بعد ذلك في كل معاركنا معًا.
مر الوقت وظلت الكتب بمكتبتي، إلى أن توقفت دقات الساعة بفعل الزمن، كما توقفت دقات قلب أبي بعدها بسنوات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى