من النقد إلى الجمال.. الرؤية والتأسيس المعرفي
قراءة في كتاب "جماليّات الخطاب الروائي" دراسة في القيم الجمالية عند الروائيين أمين معلوف وواسيني الأعرج للدكتورة فاطمة شيخو أحمد
الأستاذ الدكتور سعيد حميد كاظم / باحث أكاديميّ وناقد عراقيّ
يعدّ كتاب “جماليّات الخطاب الروائيّ” دراسة في القيم الجمالية عند الروائيين(أمين معلوف وواسيني الأعرج) للدكتورة فاطمة أحمد الكاتبة والأستاذة في جامعة حلب- سوريا، علامةً فارقةً في الدراسات النقدية الجمالية التطبيقية، وعلامةً مختلفةً تؤكد ما لهذا الكتاب من كنوز معرفية لابدّ من العمل على توطيدها، فالدراسة مساهمة جادة لصناعة رؤية ثقافية متميزة،تحاول الناقدة من خلالها وضع لبنات على طريق البناء النقديّ؛ ذلك انطلاقاً من أنّ النقد في عمق أعماقه قائم على المعرفة سواء بين الذات والذات، أو بين الذات والعالم، من هنا جاءت هذه القراءة لتؤكد أهمية وفرادة الكتاب وما يحتويه من قضايا مهمة سواء على مستوى المعالجة أو على مستوى البحث في الأسس، والأطروحات التي تنبثق عنه، وهي علاقة النقد بالقيم الجمالية والرواية بأشكالها العديدة، ولاشكّ في أن الرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية انفتاحاً على الأجناس الأخرى؛ وذلك لاتّساع آفاقها، ولاتّساع مداها.
ينمّ كتاب د. فاطمة عن تمثّل عميق وقدرة على التفاعل مع المرجعيات الفكرية والنقدية على أساس الاختلاف لا المطابقة، وفي إسهامها، ثانياً، في فتح منافذ إلى مسارات جديدة في تلقي الخطاب الروائي العربي وتأويله. ويَزدادُ فِعلُ الاقتراب صعوبةً في السّياق النقدي الرّاهن الذي تواجه فيه الدراسات الأدبية أسئلة وجودية فارقة. إذ بالرغم من كونها (الدراسات الأدبية) تَشهدُ تطورات كيفية مستفيدة من الفورة التي تعرفها العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإنها تتعرّضُ لمساءلة شديدة لا تقتصرُ على خلخلة المفهوم السائد عنها وحسب، بل تَتجاوزُ ذلك إلى الشك في قدرتها على الاهتمام بالإنتاج الثقافي بدلالاته الاجتماعية والتاريخية بدون اعتبار التراتبية الجمالية التقليدية، وبالتالي مساءلة الوظيفة التي تَنهضُ بها في الحقلين الأدبي والثقافي.
لا شكّ في أن هذه الصعوبة ترتدّ، في مستوى أول، إلى كوننا بإزاء كاتبة يَنطبقُ عليها ذلك الاشتراط الذي أقرّه المفكّر الألماني فالتر بنيامين عندما قال: “وإذا أردت أن تنقش اسمك في مجال النقد، فإن ما يتعيّن عليك فعله هو في الحقيقة إعادة خلق النقد بوصفه جنساً”، وإذا كانت عملية إعادة خلق النقد، من منظور فالتر بنيامين، ليست سوى جعله قادراً على الكشف عن أعمق نزعات العمل الفني من الدّاخل، وتغيير نظرة القراء إليه، وهذا ما فعله هذا المفكّر عندما أعاد قراءة رواية “الأنساب المختارة” ليوهان غوته، فإننا لا نغالي إذا قلنا إن مهمة النّقد هاته، هي أيضاً المهمة التي ما فتئت د. فاطمة أحمد تحرص أشدّ الحرص على النّهوضِ بها في حقل الدراسة الأكاديمية الرصينة للرواية العربية المعاصرة من خلال مناقشتها التفصيلية لأعمال الروائي العالمي أمين معلوف بالمقارنة مع الروائي الجزائري واسيني الأعرج.
يتبيّن الدّارس لكتاب “جماليّات الخطاب الروائي”، أن مفهوم الباحثة عن النقد يقومُ على اعتماد الخطاب نقطة ارتكاز تتأسس عليها القراءة. فالخطاب الأدبي هو الذي يُكرّسُ الكاتب في تراث ثقافي معيّن، وليس شيئاً آخر. وبالتالي، ينبغي أن ينصرف اهتمام الباحث الأدبي إلى الخطاب لا من أجل وصفه وشرحه على النحو الذي ظلّ سائداً في التقليد العربي، وإنما من أجل تحليله واستنطاقه وتعريضه للسّؤال. وبهذا المعنى تتعين وظيفة النقد بكونها أوسع وأعمق من أن تختزل في التلخيص والترويج وإطلاق الأحكام السريعة. فالنقد بوصفه قراءة، معني بالكشف عن الآليات والتناقضات والتوترات داخل الخطابات التي يُفكّرَ فيها.
ولنقل أخيراً إن تَمكّنَ الباحثة من أدوات النقد الأدبي في كتابها، ومن النقد الثقافي وتاريخ الأدب والنظريات المعنية بقضايا الفكر الجمالي، هو الذي جعلها تتناول الخطاب الروائي من منظور لا تنفصل فيه عن السياقات التاريخية التي كان لها أثر عميق في تشكّلها، كما أتاح لها أن تخترق الحدود التي وقفت عندها الممارسات النقدية السابقة التي قنعت بما تجود به القراءة البرّانية للظواهر من دون أن تأخذ على عاتقها المغامرة بتأسيس قراءة مختلفة، فيما هي تُحاورُ النصوص وتَغورُ عميقاً في بواطنها، فإنها تسمح للناقد ليس فقط بإنتاج المعرفة بالإنسان والعالم الذي يَعيشُ فيه، وإنما أيضاً مراجعة العديد من المفاهيم النقدية وإعادة تحديد وظائفها.