قراءة فنية في رواية ” أسيرات الحياة” للكاتبة الفلسطينية ريحانة رفيق 

وداد معروف | أديبة وإعلامية مصرية 

أرجوحة الحرية تغازل أسيرات الحياة

   رواية أسيرات الحياة صادرة عن دار البشير هذا العام 2020, أهدتها إليَّ الكاتبة ريحانة رفيق ونحن في معرض الكتاب, سعدت بالرواية حين قالت لي أنها رصدت فيها حياة المرأة الفلسطينية واهتمت بتفاصيل حياتها المنسوجة من التراث الفلسطيني.

وحين أتىٰ عليها الدور في القراءة، كان قد مر أكثر من خمسة شهور منذ أهديت إليَّ. الرواية تقع في 166 صفحة من القطع المتوسط, أعجبني فيها التدقيق اللغوي وعلامات التشكيل والترقيم, هذا بداية.

   من العنوان نفهم أن أبطال الرواية نساء, وحين نتابع القراءة نعرف لماذا هؤلاء النسوة أسيرات الحياة, ضحىٰ وسامية وسلمىٰ ومريم وأم محمد وأم عابد وأم فائز حتىٰ زهرة الطفلة هن جميعا أسرىٰ لعادات وتقاليد مجتمع قبلي صارم, اعتبر أرجوحة وضعتها أم محمد في حديقة منزلها الكائن في طريق هؤلاء النساء الذاهبات كل يوم لملء جرارهن من النبع, حين لمحت علىٰ وجوههن الحزن والإرهاق, أشفقت عليهن فتفتق ذهنها عن هذه الفكرة, والتي نفذتها في الخفاء ولم تخبر أحدا حتىٰ زوجها أنها من وضعت هذه الأرجوحة, عزمت علىٰ النساء الذاهبات للنبع أن يجربن ركوب هذه الأرجوحة, ترددن في البداية خوفا من رجالهن, لكنها أصرت فركبن واحدة تلو الأخرىٰ الأرجوحة, فتصاعدت ضحكاتهن وانشرحت صدورهن وانطلقن يحلقن قرب السماء فشفت أرواحَهن, وعدن لبيوتهن علىٰ غير عادتهن من الكآبة والحزن, بل كن سعيدات وانعكست سعادتهن علىٰ تعاملهن مع أسرهن, ظللن هكذا كل يوم حتىٰ وشت بهن الصغيرة زهرة, فكانت الثورة العارمة التي فجرها رائد خطيب مريم وابن عمها, بعد أن طلب منها أن يلتقيا بجوار النبع ليراها؛ لأنه لا يتمكن من رؤيتها رغم كونه خطيبها, فرفضت وتركته مهرولة لبيت والدها, وتهديده لعمه أبي العبد إن لم يمنع مريم من الذهاب للأرجوحة فلن يتزوجها ولن يجعل أحدا من الخطاب يقترب من بابها, أما زوج ضحىٰ فضربها ضربا مبرحا حتىٰ أسقطت جنينها الذي انتظرته من خمس سنوات, شعرت أم محمد بالذنب وأنها من جرت عليهن هذه المصائب, وتحولت حياتهن بعد هذه الحادثة تماما, وكانت ضحىٰ هي النموذج للتغيير بعدما كسرت سور السجن وخرجت تتنفس هواء الحرية, خرجت لا تملك شيئا وعادت لتشتري أرض الأرجوحة التي أقام الرجال عليها سورا عاليا ومنعوا النساء من الاقتراب منها كما منعوهن من جلب المياه من النبع, عادت بعد أن حققت ذاتها وامتلكت إرادتها, لتجعل من هذا المكان محَجًا للحرية.

   الأرجوحة في الرواية هي المعادل الموضوعي للحرية, للحياة الطبيعية دون تقاليد تخنق النفوس وتعيدها للعبودية, المرأة الفلسطينية في رواية ريحانة رفيق, لا تملك من أمر نفسها شيئا, هي خادمة في بيت العائلة الكبير, لا تكف عن الخدمة حتىٰ يمسي عليها الليل, هي الفتاة التي لا تستشار في أمر زواجها, هي الأم التي لا تملك أن ترفع ظلم الأب عن ابنتها, هي ضحىٰ التي انتظرت الحمل خمس سنوات وعيرت بأنها أرض يابسة لا تنبت؛ وفي اليوم الذي عرفت بحملها ضربت حتىٰ ازرق جسدها كله وغرقت في نزيف سقوط جنينها.

   الرواية فيها بساطة في عرض الشخصيات لكن فيها فكرة تستحق التوقف عندها, لغة الكاتبة راقية صافية نقية, لم تتخلَّ عن الفصحي السلسة, 

   قسمت رواياتها إلىٰ عشرين فصلا, أهدت الكاتبة روايتها فقالت “إلىٰ كل روح مرت بي, وخلدت ذاتها بداخلي, فسمحت لي أن أنسج من حرير خيوطها غزلا ناعما … ومن نور حضورها حرفا ساميا…”

   كان التراث الفلسطيني حاضرا بقوة في هذه الرواية وهذا كان من أهداف الكاتبة, أن تقدمه للقارئ منسوجا بحروفها, فتصف إفطار سالم وسلمىٰ الزوجان الحبيبان, وهما النموذج الأصح في هذه المنظومة المعقدة من التقاليد, تقول عن إفطارهما الذي يعداه معا, ” تدق سلمىٰ قليلا من الثوم في الهون, فيتحين سالم الفرصة ليرمي حفنة من فصوص الثوم المقشرة بداخله لترمقه بعدها, بنظرة المستهجن, تكمل الدق والهرس بيد الهون صانعة إيقاعاتها, الخاصة, وتضيف لها الفلفل الأخضر والملح وعصير الليمون, صانعةً صحن دقة شهيا, فيضع علىٰ الحمص والفول ليزيد طعمه جمالا, ويصنع سالم قرص الثوم, بعدها يصنعا الشاي بالمريمية. 

   وفي الافراح تتألق الكنافة النابلسية وتصب الصبايا القهوة – التي يعبق المكان برائحتها- في فناجين الحاضرات, وتغني النساء فتقول: قولوا لأمه تفرح وتتهنا, ترش الوسائد بالعطر والحنة, يا دار هنا وابنيها يا بنا, والفرح إلنا والعرسان تتهنا, والدار داري والبيوت بيوتي, واحنا خطبنا يا عجو موتي, يا بي مريم لا تكن عبوسي, واسمح بوجك واعطي هالعروس, يا بي مريم لا تكن طماع, والمال يفنىٰ والنسب نفاع. 

   تحدثت الكاتبة بالتفصيل عن موسم جنىٰ الزيتون من خلال ذهاب الأسر بكاملها للقيام بهذا العمل الجماعي في فصل بعنوان ” موسم الزيتون” ففي بداية الخريف يبدأ العرس الوطني, تحديدا في شهر تشرين يبدأ يوم الزيتون كما يسمونه, تأخذ الأسر زادها وزوادها ويحملون علىٰ عربات الكارو ويذهبون إلىٰ بيارات الزيتون, ليخلصوا الشجر من حمله المضني, يساعدون بعضهم بعضا, ثم تبدأ عملية جمع الأموال من خلال بيعه, يغنون فرحين. 

   علىٰ دا العونا وعلىٰ دا العونا , زيتون بلادي أجمل ما يكونا, زيتون بلادي واللوز الأخضر والمريمية وما ينسىٰ الزعتر, وأقراص العجة لما تتحمر, ما أطيبها مع زيت الزيتونا.

   رواية أسيرات الحياة رواية ناقشت قضية قديمة جديدة, الحرية والمرأة وإلىٰ أي حد تستطيع المرأة تحمل القهر؟ وهل الطلاق خلخلة لكيان الأسرة أم أنه أحيانا يكون انعتاقا؟ هل تستطيع الأم المقهورة أن تربي أبناءً أحرارأ؟

   نختم بهذه المقطع من الرواية علىٰ لسان ضحىٰ أسيرة من أسيرات الحياة استطاعت أن تضع بصمة علىٰ الحياة بعدما اعتلت السور وقفزت من هذه الحديقة ذات الأسوار الشائكة “للانتصار بهجة في النفس, يزداد ألقها ولمعانها أكثر حين نراها في عين من رأىٰ هزيمتنا رأي العين, ولم يحرك ساكنا للوقوف إلىٰ جوارنا, وإن كانت ببساطة انحناءة رأس ونفس تتضرع إلىٰ الله من أجلنا بطلب الفرج، ويكتمل بمعناه الحق في نفوسنا ساعة تشاركنا إياه نفوس أحبتنا طوعا, لأنها لمست كل معنىٰ جميل بداخلنا, بعيدا عن المصالح وأنانية الذات”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى