تاريخ

تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان (الإمام نور الدين السالمي)

كتب ذو قيمة تاريخية وعلمية في توثيق الهُويّة العُمانية

أ. سعيد مالك| معلم لغة عربية | مصر

لم يكن التاريخ يومًا مجرد سردٍ للأحداث أو تسجيلٍ للأسماء، بل هو ذاكرة الأمم، ومرآة هويتها، وجسرها الممتد بين الماضي والحاضر. ومن بين الصفحات المضيئة في التاريخ العُماني يبرز كتاب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان» للإمام العالم نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، بوصفه سفرًا علميًا جامعًا، وموسوعة تاريخية رصينة، صاغ فيها المؤلف تاريخ عُمان في بناءٍ متكامل، جمع بين العقيدة، والسياسة، والعلم، والاجتماع.

وقد تميّز هذا الكتاب بوضوح منهجه، وحسن ترتيبه، إذ قسّمه مؤلفه إلى أقسام مترابطة، انتقل فيها من التأسيس الديني لعُمان، إلى نظام الحكم والإمامة، ثم إلى سير الأئمة والعلماء، فالأحداث والوقائع التي شكّلت ملامح المجتمع العُماني عبر العصور. فبدأ بذكر دخول الإسلام إلى عُمان وما صاحب ذلك من استجابة طوعية صادقة، ثم أفرد قسمًا مهمًا لبيان نشأة نظام الإمامة وأصوله الشرعية، وما يقوم عليه من العدل والشورى والمسؤولية.

إن كتاب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان» من أهم وأشهر المؤلفات التاريخية التي أرّخت لعُمان وأهلها، وهو من الكتب المرجعية التي لا غنى عنها لكل باحث أو دارس لتاريخ عُمان السياسي والعلمي والاجتماعي. ألّفه الإمام والعالم العُماني نور الدين عبد الله بن حميد السالمي (ت 1332هـ)، أحد أبرز أعلام النهضة العلمية والفكرية في عُمان، فجمع فيه بين الدقة التاريخية، والروح الإصلاحية، والأسلوب الأدبي الرصين.
أولًا: التعريف بالمؤلف والكتاب
الإمام نور الدين السالمي عالم موسوعي، وفقيه إباضي، ومؤرخ بارز، كان له دور كبير في إحياء الحركة العلمية والفكرية في عُمان في القرن الثالث عشر الهجري. وقد ألّف عددًا من الكتب في الفقه والعقيدة واللغة والتاريخ، إلا أن كتاب «تحفة الأعيان» يظل أشهر مؤلفاته وأوسعها انتشارًا.
جاء الكتاب في نظم شعري على بحر الرجز، ثم قام المؤلف بشرحه شرحًا وافيًا، مما جعله سهل الحفظ، غني المعنى، عميق الدلالة. ويُعد هذا الأسلوب مميزًا، إذ جمع بين الشعر والتاريخ، وبين التوثيق والتعليم.
ثانيًا: موضوع الكتاب ومضمونه
يتناول كتاب تحفة الأعيان سيرة أهل عُمان منذ فجر الإسلام وحتى زمن المؤلف، مركزًا على الجوانب السياسية والدينية والعلمية. ويبدأ المؤلف بذكر دخول الإسلام إلى عُمان طوعًا دون قتال، حين أسلم الجلندى بن المستكبر وأخوه عبد، وهو ما يبرز خصوصية التجربة العُمانية في استقبال الإسلام.
كما يتناول الكتاب نظام الإمامة في عُمان، فيعرض نشأته، وأصوله، وأسماء الأئمة الذين تولوا الحكم، مع بيان صفاتهم وأعمالهم، وما شهدته فترات حكمهم من استقرار أو اضطراب. ويُبرز السالمي أهمية الشورى والعدل والعلم في قيام الدولة واستمرارها.
ثالثًا: البعد العلمي والفكري
لم يقتصر الكتاب على السرد السياسي، بل أولى المؤلف عناية كبيرة بـالعلماء والفقهاء، فذكر سير عدد كبير منهم، وأشاد بدورهم في نشر العلم، وحفظ الدين، وتوجيه المجتمع. ويظهر في ذلك إيمان السالمي العميق بأن العلم هو أساس النهضة والاستقرار.
كما يعكس الكتاب الفكر الإباضي في الاعتدال والوسطية، والابتعاد عن الغلو والتعصب، ويؤكد على قيم الأخلاق، والوحدة، وتحمل المسؤولية، مما يجعل الكتاب ليس مجرد تاريخ، بل مشروعًا إصلاحيًا فكريًا.
رابعًا: الأسلوب والمنهج
تميّز أسلوب السالمي في تحفة الأعيان بالوضوح والجزالة، والالتزام باللغة العربية الفصحى، مع توظيف الأسلوب الشعري في النظم، ثم التوضيح في الشرح. وقد اعتمد المؤلف على الروايات الموثوقة، وأقوال العلماء، والكتب السابقة، مع نقد بعض الأحداث والوقائع بأسلوب هادئ ومتزن.
كما يظهر في منهجه الحرص على العدل والإنصاف، فلا يُمجّد الأشخاص دون دليل، ولا يُغفل الأخطاء، بل يعرض الأحداث في سياقها التاريخي، مع العبرة والعظة.
خامسًا: أهمية الكتاب ومكانته
تكمن أهمية كتاب تحفة الأعيان في كونه مرجعًا أساسيًا لتاريخ عُمان، إذ حفظ كثيرًا من الأحداث والشخصيات التي ربما ضاعت لولا تدوينه. كما يُعد مصدرًا مهمًا لفهم طبيعة المجتمع العُماني، وعلاقته بالعلم والدين والسياسة.
ولا تزال المدارس والجامعات العُمانية تولي هذا الكتاب اهتمامًا كبيرًا، لما يحمله من قيم وطنية وحضارية، تُرسّخ الانتماء والاعتزاز بالهوية العُمانية، وتُبرز دور عُمان في التاريخ الإسلامي.
سادسًا: الأبعاد الحضارية والوطنية
يعكس الكتاب صورة مشرقة عن المجتمع العُماني، القائم على التعايش، والعدل، واحترام العلماء، والتزام القيم الإسلامية. كما يُبرز الدور الحضاري لعُمان في نشر الإسلام، والتجارة البحرية، والتواصل الثقافي مع الشعوب الأخرى.
ومن خلال عرضه لسير الأئمة والعلماء، يربط السالمي بين الماضي والحاضر، داعيًا أبناء عُمان إلى الاقتداء بأسلافهم، والعمل على بناء مجتمع قائم على العلم والأخلاق والوحدة.فكتاب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان» عملًا تاريخيًا وفكريًا فريدًا، جمع بين التوثيق والعظة، وبين التاريخ والأدب. وقد نجح الإمام نور الدين السالمي في أن يُقدّم للأمة العُمانية سجلًا ناصعًا لهويتها وتاريخها، ورسالة خالدة تؤكد أن الأمم لا تنهض إلا بالعلم، والعدل، والوعي بتاريخها.
ولا يزال هذا الكتاب شاهدًا حيًا على عراقة عُمان، ومرجعًا يُلهم الأجيال المتعاقبة لفهم ماضيهم، وبناء مستقبلهم بثقة واعتزاز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى