السيدة مارية القبطية.. ابنة مصر
الكاتبة-شيرين أبو خيشة | القاهرة
غير بعيد من بيت النبى في منزل خاص بعوالي المدينه كانت تقيم سرية للنبي صل الله عليه وسلم لم تحظ بلقب أم المؤمنين ولكنها حظيت دونهن جميعا بنعمة أمومتها لابنه إبراهيم عليه السلام إلي جانب حظوها مثلهن بشرف الصحبة ولم تكن تقيم فى حجرات النبي صل الله عليه وسلم إلا أن اثرها في هذة الحجرات وساكناتها
في قرية عتيقة من صعيد مصر تدعي ” حَفَنَ ” من قريه ” أنْصنَاَ ” الواقعة علي الضفة الشرقية للنيل تجاه الأشمونيين بمركز ملوى محافظه المنيا ولـدت مارية بنت شمعون لأب قبطي وأم مسيحية رومية وأمضت بها حداثتها الاولى قبل أن تنتقل في مطلع شبابها الباكر مع أختها سيرين الى قصر المقوقس عظيم القبط ملك الإسكندرية قد سمعت هنالك بما كان من ظهور نبي في جزيرة العرب يدعو إلى دين سماوي جديد وكانت في القصر حين وفد ” حاطب بن أبي بَلْتـَعَـهةَ ” رضي الله تعالى عنه مُوفدا من النبي العربي يحمل رسالة الى المقوقس وأذن له بالدخول فأدى الرسالة كتاب النبي صل الله عليه وسلم
” بسم الله الرحمن الرحيم “.
” من محمد بن عبد الله إلي المقوقس عظيم القِبط سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم القِبط ” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون ” صدق الله العظيم وقرأ المقوقس الكتاب ثم طواه في عناية وتوقير ووضعه في حق من عاج دفعه الى واحدة من جواريه والتفت بعد ذلك الى” حاطب ” يسأله أن يحدثه عن النبي صل الله عليه وآله وسلم ويصفه له فلما فعل فكر المقوقس مليئاُ ثم قال لحاطب قد كنت أعلم أن نبيا قد بقىَ وكنت أظن أنه يخرج بالشام وهناك كان مخرج الأنبياء فأراه قد خرج من أرض العرب ولكن القبط لا تطاوعني وظن بملكه أن يفارقه ” ثم دعا بكاتبه فأملي عليه رده” أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا قد بَقِى وكنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وكسوة ومطية لتركبها والسلام عليك ودفع المقوقس كتابه إلى ” حاطب ” معتذرا بما يعلم من تمسك القبط بدينهم وموصيا إياه بأن يكتم ما دار بينهما فلا يسمع القبط منه حرفاَ واحداَ .
وأنطلق حاطب عائدا الى النبي ومعه ماريه وأختها سيرين وعبد خصي وألف مثقال ذهباَوعشرون ثوبا لينا من نسج مصر وبغلة شهباء ” دلدل ” وجانب من عسل ” بنها ” وبعض العود والند والمسك .
وشعرت الأختان بوحشة لفراق الوطن فسارتا تملأن أعينهما من الوادي الحبيب حتى أذا غابت عنهما أخر معالمه ألقتا نظرة وداع على الأرض التي حلت فيها تمائمها ودرج عليها صباهما .
وأحس ” حاطب ” ما تجده الأختان الشابتان من شجن الفراق فأقبل عليهما يحدثهما عن التاريخ لبلد عريق ويروي لهما ما وعى من قصص وأساطير نسجها الزمان حول مكة والحجاز طوال قرون لا عداد لها ثم اثني الحديث عن النبي صل الله عليه وسلم بوصفه مؤمن وامق وتابع صاحب فأخذت الشابتان بما سمعتا وأنشرح قلباهما للإسلام ونبيه الكريم واستغرقهما التفكير في الحياة الجديدة التي توشك أن تستقبلهما وفي النبي الذي ينتظر في المدينة رجوع صاحبه حاطب بجواب المعقوقس .
حتى بلغ الركب المدينه سنه سبع من الهجرة وقد عاد النبي من الحديبيةبعد أن عقد الهدنة مع قريش وتلقى النبي كتاب المقوقس وهدية مصر حملت إلي النبي الكريم من المقوقس والي مصر هدايا ومن بينها مارية القبطية فقبلها النبي
وأعجبته مارية كان رسول الله يعجب بمارية القبطية وكانت بيضاء جعدة جميلة فأنزلها وأختها فدخل عليهما فعرض عليهما الإسلام فأسلمتا فاكتفى بها لئلا يجمع بين أختين ووهب أختها ” سيرين ” شاعره ” حسان بن ثابت ” فهي أم ولده عبد الرحمن وأنزلها منزلة السراري ولم يهبها ما وهب لأزواجه فلم يخصص لها منزلا بجوار المسجد كغيرها من أمهات المؤمنين بل أنزلها بالعلية من ضواحي المدينة في منزل يحيط به الكرْم والزرع والنخيل وكان الرسول العظيم يختلف إليها ولها منها ما يحل للرجل فيمن ملكت يمينه
وطار النبأ إلى دور النبي أن شابة مصرية جميلة جعدة الشعر جذابة الملامح قد جاءت من أرض النيل هدية للنبي فأنزلها بمنزل لحارثة بن النعمان الأنصاري وتكلفت عائشه ما استطاعت من جهد لكي تعلل نفسها بلا خطر عليها من هذه الشابة الجديدة فما كانت سوى جارية قبطية غريبة أهداها سيد إلى سيد لكنها راحت تراقب في كثير من القلق مظاهر أهتمامه صل الله عليه وسلم بتلك المصرية وقد أثار جزعها أن تراه يكثر من التردد عليها ويمكث لديها طويلا وليس عيبا أن تسلك إلي قلوب هؤلاء النساء الطاهرات عقارب الغيرة حبا فيه وأثره عليه فتدب دبيبها خفيفا وتسري إلي الفؤاد فتوري فيه نارا لا ينطفئ لظاها إلا بالقرب من نبي كريم .
ألسنا النساء اللاتي غلبتهن قوة العاطفة وتملكتهن دوافع الغيرة والأثرة في كل عصر وزمان أوليست
قلوبهن تصبو ونفوسهن تحنو وآمالهن تتدافع ورجاؤهن بفيض لخير الناس أجمعين
كانت الأثرة والغيرة تدب في قلوب نساء النبي كلما رأت منه إقبالا علي مارية وحبا وتعلقا ولا يستغرب هذا من غيرة النساء في كل زمان ومكان وبالذات غيرة نسوة رسول الله صل الله عليه وسلم وما لهن أن يغير مثلهن علي مثله .
وكان الرسول الكريم يخص نساءه بمكانة محترمة وينزلهن منزلا عزيزا ويعاملهم بعطف وإجلال وتكريم علي غير عادة العرب في الجاهلية فلما رأينه يفيض عليهن من عظمته وكرمه وجنحت نفوسهن فتعالين في الأستمتاع بحريتهن واتخذن من بعض الحوادث مسلكا إلي إغضاب الرسول وإن كن لا يقصدن ضرره
وظلت النار ترعي تحت رماد من التجمل والتكلف والمداراة حتي كان اليوم الذي اجتمع فيه النبى بمارية في بيت ” حفصة ” فأنداع الضرام من تحت الرماد متوهجا وكان ما كان من قصة التحريم .
كان رسول الله صل الله عليه وسلم في بيت حفصة فاستأذنته أن تذهب الي أبيها فأذن لها وفي غضون غيبتها جاءت مارية فأقامت مع النبي زمنا فلما حضرت حفصة ورأت مارية في بيتها فانتظرت خروجها وقلبها يشتعل وجدا وغيرة ولما خرجت مارية دخلت حفصة علي النبي فقالت لقد رأيت من كان عندك والله لقد أسأتني وما كانت تصنع لولا هواني عليك .
وادرك رسول الله أن الغيرة قد تدفع حفصة إلي إذاعة ما رأت والتحدث به مع غيرها من الأزواج وفي ذلك ما فيه من إثارة لغيرتهن وتحريك لغيضهم فأراد رضاها فحلف لها أن مارية حرام عليه إذا هي لم تذكر ما رات لأحد فوعدته أن تكف عن إذاعة ما كان ولكن الطبيعة النسوية كانت اقوي جماحا إذ تحركت الغيرة تأكل صدرها فلم تطق كتمان ما وعدت بكتمانه فأسرته إلي عائشة وذاع الامر بين نساء النبي كلهن فأكثرن من الحديث في شأنه والجدل في أمره والنبي الكريم ليس خليا لهذا النوع من اللجاج والغيرة فأراد أن يلقي عليهن درسا ليكون عبرة لهن وتذكرة عزم النبي أن ينقطع عن نسائة شهرا كاملا تأديبا وردعا لهن عما تمادين فيه وليخفف فيهن عوامل تلك الغيرة فأدي به عزمه أن ذهب إلي خزانة له يرقد إليها علي جذع من نخل وليس بها من فراش إلا حصير جاف خشن وحشيه وهناك لقيمات من شعير يقمن صلبه ثم هو يجلس غلامه رباحا علي سدتها دفعا للحاحة الزائرين والرسول صل الله عليه وسلم في خلوته يتجه بتفكيره إلي ربه ويدبر أمر المسلمين في الجزيرة وفيما وراءه الجزيرة والمسلمين في هم مقيم مقعد وشغلهم الشاغل انقطع النبي في خلوته حتي لقد شاع بينهم أنه طلق حفصة بنت عمر بعد أن كان من إفشائها ما وعدت بكتمانه أو أنه مطلق نساءه جميعا كانوا يهمسون بهذا والحسرة تملأ قلوبهم ولا يقض مضاجعهم مثل ما كانوا يحسون به عن هذا الأمر وقد اقام الناس بالمسجد يعبثون بالحصي ويجيلون العيون وهي زائغة لا تستقر علي حال من القلق وبينما هم كذلك إذا انتفض عمر رضي الله عنه قائما من بينهم فيقصد إلي مقام النبي ويستأذن غلامه رباحا فإذا دخل الغلام إلي سيده رجع إلي عمر ووقف فلم يجب فيرفع ابن الخطاب صوته بالأستئذان والإلحاح فيؤذن له فإذا هو بين يدي الرسول ثم يجيل بصره في الحجرة ويبكي والنبي يقول له ما يبكيك يابن الخطاب فيذكر للنبي سبب بكائه فيرده النبي إلي صواب بقول رفيق كريم ثم قال عمر يارسول الله ما يشق عليك من أمر النساء أن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وعمر وأبا بكر والمؤمنين أجمعين ثم يقبل عمر رضي الله تعالي عنه علي النبي صل الله عليه وسلم فيحدثه بحديث يسري عن نفسه ويضحكه فلما آنس عمر منه ذلك ذكر له خبر المسلمين بالمسجد وكلامهم وآلامهم ورجا النبي أن يفضي إليه بالقول الفصل من أمر نسائه .
مضى عام أو نحو عام ومارية سعيدة بحظوتها لدى الرسول وقد أطمأن بها المقام في كَنَفِه وأرضاها أن يضرب عليها حجاب أمهات المؤمنين .
وأنحصرت أمانيها وخواطرها بل أنحصر وجودها كله في شخص ذلك العظيم الذي ربطها القدر به على غير ميعاد فكان لها السيد والصاحب والأهل والوطن وصار همها أن تظل أبداً موضع حظوته ورضاه .
وكانت تحمل في كيانها سحر مصر وفي أعطافها أريج الوادي العطر كما كانت تحف بها رؤى مثيرة وأطياف ساحرة لإيزيس في حبها العبقري ونفرتيتي في جمالها الباهر وحتشبسوت في ملكها العتيد وكيلوباترة في جاذبيتها الآسرة .
فكان النبي النبع الدافئ الذي كان يمدها في كل آن بعذب الحديث وشهى السمر كانت مشوقه أن تستعيد قصه هاجر الفتاة المصرية التي جاءت من أرض النيل وحملت من سيدها أبراهيم فأثارت غيرة امرأته السيدة سارة فما زالت بزوجها حتى مضي بتلك المصرية وأبنها حيث تركهما هنالك وحيدين بواد غير ذي زرع عند أطلال البيت العتيق .
وطالما شاق مارية أن تسمع لحديث نجدة السماء التي هدت هاجر الى نبع زمزم وكيف بدأت الجزيرة العربية بانبثاق ذلك النبع المبارك حياة جديدة وكيف عاشت هاجر ملء التاريخ وصار مسعاها مهرولة بين الصفا والمروة شعيرة مقدسة من شعائر حج العرب في الجاهلية والمسلمين في الإسلام .
وألفت مارية حين كانت تخلو بنفسها أن تفكر في هاجر ومصيرها وأمومتها لإسماعيل وللعرب فلم تخطئ فيها ملامح شبه بينهما فكلتاهما جاريتان مصريتان وكانت هاجر هبة من سارة للنبي إبراهيم عليه السلام كما أن مارية هبة من المقوقس للنبي محمد وقد أثارت كلتاهما غيرة الزوجات الشرعيات في بيت السيدين النبيين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم ما أبعد الامنية بل ما أدناها من المستحيل ولقد تزوج النبى منذ ماتت السيدة خديجة عددا من الزوجات منهن الشابة الفتية والمرأة الناضجة ومنهن من كانت ذات ولد ولكن أرحامهن جميعاَ أمسكت فما تجود بولد واحد للنبي الذي تخطف الموت أبناءه من خديجة كان النبي الكريم يفيض قلبه بعاطفة الأبوة وتحذو نفسة إلي بنته زينب فإذا رآها أنس بها واطمأن إليها وانشرح صدره لأنها ثمرة نفسه وحبة قلبه حتي إذا أفل نجمها فذهبت إلي جوار ربها استوحش إليها وامتدت آماله إلي الولد ليمسح عن قلبه انقباض الوحدة واثر الفاجعة فلم يدع له سوي أبنة واحدة هي السيدة ” فاطمة الزهراء
وظل الرسول الكريم في وحشته وانقباضه يدفعه شوق ان يكتحل بسنا نور ابن كريم وهو في حنينه ووحدته تدب في قلبه حسرة وأسي ” .
وبدا كأنه كف عن تمني الولد بعد سنين مجدبة من الولد من زوجاته لأنه شارف الستين من عمره وأوشك مصباح حياته أن ينطفئ فما هو ببالغ أملا شيمه كل والد بروح كل أب يفيض قلبه بالعطف والحنان فأن لمارية أن يكون لها مثل ما كان لهاجر من امومتها لإسماعيل يا لها من أمنية أبعد من الوهم ويا له من أمل أوهي من السراب
أستقبلت مارية عامها الثاني في حياة النبي ما تكف عن ذكر هاجر وإسماعيل وإبراهيم .
وفجاه أحست بوادر حمل مستكن فكذبت إحساسها وأتهمت يقظتها وخيل إليها أن المسألة لا تعدو أن تكون وهما جسمها شوقها إلى الأمومة وتفكيرها الدائم في هاجر وإسماعيل وكتمت ما بها شهرا وشهرين وهي في ريب من الأمر لا تدري أحق هو أم ذلك حلم يقظة ورؤيا منام حتى تجسمت البوادر الأولى وأصبحت أوضح هناك أفضت به إلى أختها سيرين فأكدت لها أنه ليس في الامر وهم ولا شبه وهم و هو جنين حي وأخذ مارية من الانفعال والفرح ما قرب وما بعد فما حسبت أن السماء سوف تستجيب لدعائها هكذا وتحقق أملها الذي بدا عقيما واهيا كالسراب وأستغرقتها نشوة حالمة حتى جاء الرسول فأفضت إليه بالسر الخطير الذي تجنه أحشائها وتذكر من توعكها وقلقها وزهدها في طعام وهي أعراض عرفها من قبل في خديجة في مستهل كل حمل لكنه حسبها في مارية وعكة طارئة لا تلبث أن تزول ،ورفع الى السماء وجها مشرق الأسارير يشكر لخالقه ذلك العزاء الجميل الذي من به على الرسول إثر فقد ابنته الغالية زينب بعد أن ماتت قبلها رقية وأم كلثوم ومات عبد الله والقاسم فقال الرسول سبحانك جلت قدرتك وعظمت آياتك ووسعت رحمتك عبدك كما وسعت من قبل عبديه إبراهيم وزكريا
لكن مارية لم تكن عجوزا كما لم يكن النبى عقيماَ وفاض عالمهما المشترك بالهناءة والغبطة سرعان ما سرت البشري في أنحاء المدينة أن الرسول ينتظر مولودا له من مارية القبطية حتي إذا تفجرت ينابيع السرور في قلب النبى وانست نفس الوالد عطفا ورحمة وحنانا بولده المبارك الميمون وارتفعت مكانة مارية فصارت الي مصاف الزوجات المقربات وازدادت بذلك حظوة عنده ومكانة ملأت قلبها بالمسرة وانقلبت إلي ربها بالشكران والتسبيح
وما بحاجة إلي أن نتوقع وقعها الأليم علي نساء النبي أتحمل هذه الغريبة ولماَ يمض عليها في المدينة سوي عام واحد إن منهم من أمضت معه عدة أعوام بلا حمل أيؤثرها الله بهذه النعمة الكبري وأمهات المؤمنين وفيهن بنتا أبي بكر وعمر وبنت زاد الركب وحفيدة أبي طالب وبنت أبي سفيان محرومات لا يلدن
حجب الرسول مارية وكانت قد ثقلت على نسائه وغاروا منها ولا مثل عائشة ” .
ونقلها الرسول إلي ” العالية ” بضواحي المدينة توفيرا لراحتها وسلامتها وعناية بصحة جنينها وسهر عليها يرعاها وكذلك فعلت أختها ” سيرين ” حتي بلغ الجنين أجله وحانت ساعة الوضع ذات ليلة من شهر ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة ودعا الرسول قابلتها سلمي زوج أبي رافع ثم أنتحي ناحية من الدار يصلي ويدعي فلما جاءته أم رافع بالبشري أكرمها كل الأكرام وخف إلي مارية فهنأها بولدها الذي أعتقها من الرق لما ولُد إبراهيم جاء جبريل إلي رسول الله وقال السلام عليك يا أبا إبراهيم فقال رسول الله إنه ولد لي الليلة غلام وإني سميته باسم أبي إبراهيم ثم حمل وليده بين يدية في غبطة وسماه ” إبراهيم ” تيمنا بأسم جد الأنبياء إبراهيم عليه السلام وتصدق النبى علي مساكين المدينة بوزن شعر الوليد فضة وتنافست نساء الأنصار أيتهن ترضعه أحبوا أن يفرغوا مارية للنبي لما يعلمون من هواه فيها فاختار مرضع ولده وجعل في حيازتها واحدة من الماعز كي ترضعة بلبنها إذا شح ثدياها وراح يرقب نموه يوما بعد يوما ويجد فيه أنسه ومسرته ويود لو شاركته دنياه كلها في هذا الإنسان وكان رسول الله حفيا بولده قرير العين به رضي النفس له مطمئن الفؤاد لمولده فصار يختلف إلي منزل مارية يطالع كل يوم أفق مشروع هذا الغلام ينعم بابتسامته البريئة الطاهرة ويفيض عليه كثيرا من حنان الأبوة وطهارة النبوة ويغمره وخيل لمارية أنها بلغت مناها فهذه هي تلد للنبي ولد كما ولدت ” هاجر ” لإبراهيم أبنه إسماعيل وهذه هي محنة الغيرة لم تنته علي خير .
ولم يسعد مارية شئ قدر ما أسعدها أن تهب النبى علي اليأس غلاما تقر به عينه ويتعزي به عمن فقد من أبناء السيدة خديجة أم المؤمنين الأولي رضي الله تعالي عنها وأرضاها لكنها لم تنج من غيرة نساء النبي والغيرة طبعا من طباع النساء عموما.
حمله يوما بين ذراعيه إلي عائشة فبلغ من شدة ما تجد أن كادت تبكي ولكنها أمسكت عبرتها مغيظة وأدرك علي الفور مدي ما تكابده فأنصرف بولده وهو يرثي لعائشة .
روت عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله تعالي عنها وقالت ” ما غرت علي امرأة إلا دون ما غرت علي مارية فكانت جارتنا فكان كثيرا ما يكون عندها فحولها إلي العالية وكان يختلف إليها هناك فكان ذلك أشد علينا زادت و رزقها الله الولد وحرمناه ” .
علي أن غَيْرَةَ أمهات المؤمنين رضي الله عنهن لم تنل مارية ما نالتة شائعة سوء أرجف بها مرجفون من أهل المدينة ولم يتخل الله تعالي عنها في محنتها بل أتاح لها دليلا قاطعا علي براءتها من الريبة وأنزل الله جبريل عليه السلام ببراءتها .
وفي حديث صحيح عن أنس بن مالك رضي الله تعالي عنه أخرده مسلم في صحيحه براءة حرم النبي أم ولده إبراهيم من الريبة
كان عبد مصري جاء مع مارية من المقوقس يدخل علي أم ولده فقال النبى لعلي إذا رايته فاضرب عنقه فأتاه فإذا هو في ركية يتبرد فيها فقال له اخرج فخرج فناوله يده فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف عنه ثم أخبر صل الله عليه وآله وسلم .
دخل النبى علي مارية وهي حامل بإبراهيم فوجد عندها نسيبا لها فوقع في نفسه شئ فخرج فلقيه عمر فعرف ذلك في وجهه فسألة فأخبره فأخذ عمر بالسيف فكشف عنه نفسه فرآه مجبويا ليس بين رجليه شئ فرجع عمر إلي رسول الله فأخبرني أن الله تعالي قد برأها مما وقع في نفسي وإن في بطنها غلاما مني وأنه أشبه الناس بي وأمرني أن أسمية إبراهيم وكناني أبا إبراهيم ويجمع بين قصتي عمر وعلي بأحتمال أن عمر مضي إليها سابقا عقب خروجة النبى فلما رآه محبوبا اطمأن قلبه وتشاغل بأمر ما وتأخر إرسال علي قليلا بعد رجوعه صل الله عليه وآله وسلم الي مكانه ولم يسمع بعد بقصه عمر فلما جاء علي وجد الخصي قد خرج من عندها إلي النخل يتبرد في الماء فوجده كما أخر عمر ويكون إخبار عمرو وعلي معا لكن سعادتهما بابنهم إبراهيم لم تطل سوي عام وبعض عام ثم كانت المحنة الفادحة والثكل المر مرض إبراهيم ولما يبلغ عامين من عمره فجزعت أمه ودعت إليها أختها وقامتها ساهرتين حول فراشه تمرضاه ونفساهما تذوبان عليه من لهفة وقلق لكن الحياة أخذت تنطفئ فيه رويدا رويداً فجاءه أبوه معتمدا علي يد عبد الرحمن بن عوف لشدة ألمه فحمل صغيره من حجر أمه وهو يجود بنفسه ووضعه في حجره محزون القلب ضائع الحيلة لا يملك إلا أن يقول في أسي وتسليم ” إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا ثم ذرفت عيناه وهو يري ولده الوحيد يعالج سكرات الموت ويسمع حشرجة احتضاره مختلطة ببكاء الأم الثكلي والخالة المفجوعة حتى قال صاحب النبى إسماعيل الأسد ى ما رأيت أحدا كان أرحم بأبنائه من رسول الله كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة فكان يأتيه ونجئ معه فيدخل البيت وإنه ليدخل وكان ظئره قَيْنَا فيأخذ إبراهيم فيقبله
توفي إبراهيم عليه السلام عشر من شهر ربيع الأول سنه عشر من الهجرة
عن ” أنس بن مالك قال دخلنا مع رسول الله وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك يجود بنفسه و عنيا رسول الله تدمعان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يارسول الله هذا الذي تنهي الناس عنه متى يراك المسلمون تبكي يبكوا قال فلما غريت عنه قال إنما هذا رحمة وإن من لايَرحم لا يُرحم، رسول الله بكي علي ابنه إبراهيم فصرخ أسامة بن زيد فنهاه النبي فقال رأيتك تبكي فقال رسول الله البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان إنما أنهاكم عن النياحة وأن يُندَب الرجل بما ليس فيه وانحني الأب الثكال على جثمان فقيده فقبله والدمع يفيض من عينيه ثم تمالك نفسه وقال ” إبراهيم ” لولا أنه أمر حق ووعد صدق أن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنا هو أدوم من هذا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب
ثم نظر إلي مارية في عطف ورثاء وقال يواسيها
” إن إبراهيم ابني وانه مات في الثدي وإن له لظئرين تكملان رضاعة في الجنة ” .
وأقبل ابن عمه ” الفضل بن عباس ” فغسل الصغير الميت وصلى عليه أبوه صل الله عليه وسلم وكبر أربعا ثم سار وراءه إلي البقيع وأضجعه بيده ورجع المشيعون واجمين وقد غم الألوف وانكسفت الشمس فقال ” إنها أنكسفت لموت إبراهيم ” .
وبلغت الكلمة مسمع النبي فصلي بالناس صلاة الكسوف وخطبهم قائلا إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ولا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ” .
وطوي جرحه في قلبه الكبير صابرا مستسلما لقضاء الله تعالي التقت عند رسول الله محاط العظمة واشتبكت لديه وشائج القربي من آله والحظوي في الدنيا والآخرة وتطلعت إليه نظر الخليقة أجمعين وينسمون اريجا من شذاه ويرمقون زهرة من جناه فهو ملء السمع والبصر ومحط العين والفؤاد
أن رسول الله قال في ابنه إبراهيم لما مات لو عاش ما رق له خال و لرفعت الجزية عن كل قبطي.
اعتكفت مارية في بيتها تحاول أن تتجمل بالصبر حتى لا ينتكئ الجرح في قلب رسول الله فإذا عز الصبر خرجت إلي البقيع فاستروحت لقرب فقيدها والتمست راحة في البكاء .
ولكن أيامه صل الله عليه وسلم لم تطل بعد موت إبراهيم في السنة العاشرة للهجرة فما أهل ربيع الأول من السنة التالية حتي شكا رسول الله ثم لحق بربه الأعلي وترك مارية من بعده تعيش خمس سنوات في عزلة عن الناس ولا تكاد تلقي غير أختها سيرين ولا تكاد تخرج إلا لكي تزور قبر الحبيب بالمسجد أو قبر ولدها بالبقيع .
فلما ماتت سنة ست عشرة من الهجرة أخذ أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالي عنه يحشد الناس لجنازتها ثم صلي عليها ودفنها بالبقيع ”
وصية النبي صل الله عـليه وسلم بقبط مصر
كل نفس ذائقة الموت فحسب ” مارية ” أنها دخلت في حياة النبي وأن آثرها الله تعالي بأمومتها لإبراهيم وارتبطت ذكراها بذكري هاجر في وعي التاريخ وضمير الأمة ووعت الأجيال ما بينهما من صلة حميمة منذ جاءتا الحجاز فتاتين من مصر هديتين من ملكاها هاجر أم ولد إبراهيم ومارية أم ولد محمد وفي وصيته بأهل قبط مصر محفوظه موثقة مدونة في صحيح الحديث في ” وصية النبي باهل قبط مصر ” قال رسول الله
( إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمي فيها القيراط فإذا فتحتموها فأحسنوا إلي أهلها فإن لهم ذمة ورحما أو ذمة وصهرا ” .
وفي رواية ” استوصوا بأهل مصر خير فإن لهم نسبا وصهرا “النسب من جهة هاجر أم إسماعيل عليه السلام جد العرب العدنانية والصهر من جهة مارية القبطية أم إبراهيم ابن محمد صل الله عليه وسلم .
ففي أهل مصر خئولة ولد إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة السلام . و فتحت مصر وبعد تسع سنين من وفاة الرسول فكانت الوصية من وثائق الفتح ذكرها عمرو بن العاص رضي الله تعالي عنه في مفاوضات الصلح بينه وبين مندوبي المقوقس قال لهما فيما قال ” وقد أعلمنا نبينا أنا مفتتحوكم وأوصانا بكم حفظنا لرحمنا فيكم وإن لكم إن أجبتمونا ذمة إلي ذمة ومما عهد إلينا أمير المؤمنين ” أستوصوا بالقبطيين خيرا لأن لهم رحما وصهرا ”
وكذلك أخذت بلدة ” حَفَن ” من أنصَنْا الأثرية القديمة من صعيد مصر موضعها من كتب المؤرخين والجغرافيين والبلدانيين في ” النجوم الزاهر. وقد وضع عنهم عن أهل حفن من قريه أنصنا معاوية بن أبي سيفان الجزية إكراما لقبر إبراهيم ابن الرسول من مارية القبطية . وكلم الحسن بن علي رضي الله عنهما معاوية لأهل حفن فوضع عنهم معاوية خراج الأرض ” .
وكان ممن شهد فتح مصر وبحث عن تلك البلدة وسأل عن موضع بيت مارية بها فبني به مسجدا
” قال الحمد لله وسلام علي عباده الذي اصطفي ”
ابن رسول الله صل الله عليه وآله وسلم تسليما