حجم القصة وعلاقته بالقص وموضوع القصة في مجموعة “سلم لي على السفارة” للكاتب منجد صالح
رائد محمد الحواري
هذه المجموعة الثالثة للقاص الفلسطيني منجد صالح، فبعد “ضاحية قرطاج، و “إيسولينا وعجة بالفلفل الأسود”، جاءت مجموعة “سلم لي على السفارة”، وإذا ما توقفنا عند عناوين المجموعات سنجدها متنوعة، فالأولى يبدو عنوانها كلاسيكي/ تقليدي، والثانية نجد فيه تجديدا، والثالثة نجد في عنوانها ما هو شعبي/ عامي، وأعتقد أن العناوين تشير إلى ما في القصص من أحداث/ شخصيات، وأيضا إلى شكل وطريقة عرض القصص، فالتجديد نجده في العنوان وفي المضمون وفي طريقة عرض القصة، وهذا التنوع بحد ذاته يحسب للقاص الذي يلبي كافة أذواق المتلقين للقصص.
تتكون هذه المجموعة من ثلاثين قصة، وإذا علمنا أنها جاءت في 180 صفحة نعلم أنها قصص قصيرة، تناسب وعصر السرعة والنت، لكن هناك بعض القصص جاءت طويلة مثل: “أطول رحلة لعائلة حمودة (14 صفحة) زميلتي العزيزة إيفت (16 صفحة)، شاي ساخن بالنعناع (12 صفحة) شكران المحامية المغدورة (12 صفحة)، شيراز الأدبية في حضرة الأدب (11 صفحة)، على باب الوزير (10 صفحات)”.
وإذا عدنا إلى الأحداث التي تناولتها هذه القصص سنجد فيها رحلات وسفرا وتنقلاً، وهذا له علاقة بما كتبة القاص في المجموعات السابقة، فغالبية القصص الطويلة في المجموعتين السابقتين تحدثت أيضا عن السفر والرحلات، بمعنى أن القاص لا يكتب قصصه وهو في حالة وعي، بل يكتبها وهو متماهي مع القصص، وبما أن الرحلات والسفر (طويل)، فقد انعكس ذلك على حجم قصصه، فهو يوصل فكرة الرحلات/ السفر من خلال حجم القصة الطويل، إضافة إلى ما تحمله أحداثها من أفكار.
ولتبيان التباين من القصص القصيرة والطويلة نأخذ بعض النماذج، في قصة “ابنة مهرة حرة مرة” وتتكون من ثلاث صفحات، تتحدث عن “جليلة” زوجة “سامح” التي خضعت لغريزتها ولنزوتها وسلمت نفسها (لأبو اليامن) وحملت منه وزوجها في الكويت، لكن ابنتها “دلال” يأتيها “يامن” ليأخذ حاجته منها كما أخذها أبوه من أمها من قبل، لكنه تصده “وأدمت أنفه بقضبة يدها” ص7، فهنا الحدث محدود وقصير ويتناسب وفكرة القصة، فبدا القاص وكأنه يختصر/
يختزل الحديث عن (الفضائح) ولا يريد الخوض فيها أكثر، وهو يشير إلى حشمته وابتعاده عن الرذيلة.
ونلاحظ أن القص جاء من خلال القاص العليم، الخارجي، بمعنى أن القاص ينقل لنا قصة، وبينما في قصة “شاي ساخن بالنعناع” التي تتكون من 12 صفحة، نجد فيها حديث التنقل التي يقوم به القاص نفسه، فالقص جاء بصيغة أنا المتكلم/ القاص، وهذا يستوجب وصف المكان: “البرد ما زال زمهريرا وشارع الإرسال بغالب نعاسه، وأنا أسير ببطء، في طريق العودة قفزت إلى ذهني صورة برد وثلج مدية بوزيان في بولندا شتاء عام 1979، وهو من أقسى الأعوام بردا وثلجا… وصلت إلى محطة القطارات في قلب مدينة بوزيان التي تقع في شمال بولندا بعد رحلة طويلة” ص123 و124، نلاحظ أن القاص يسترسل في حديثه عن المكان/ الرحلة التي قام بها، فتوقفه عند المكان وتفاصيله يأخذ حيزا من السرد القصصي، وهذا يجعل القارئ يشعر وكأنه أمام رحلة حقيقية/ واقعية، وتأكيدا على أن قصص الرحلات طويلة (ومرهقة) للقاص نجده يعبر عن هذا الأمر بقوله: “إذن يتوجب علي البقاء في محطة القطار، وألف وأدور وأدور وألف حتى تنقضي الساعة والنصف” ص128، هذه الفقرة تتماثل تماما مع مضمون القصة، وحجمها أيضا، فجاءت الفكرة والحدث والحجم متناغمة لخدمة مشاقّ السفر وما فيه من تعب وما يحتاجه من وقت.
وإذا ما توقفنا عند لغة القصص سنجدها لغة شعبية، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه أمام قريب له يسرد له قصة سفره، وهذا أيضا له علاقة بحجم القص، فالقص الشعبي يدخل في التفاصيل ويأخذ وقت طويل من المتحدث.
في قصة “شكران المحامية المغدورة” التي جاءت من خلال القص العليم/ الخارجي، وبحجم صفحتين فقط، تحدثت عن عملية قتل محامية “شكران” التي تمردت على تقاليد الأسرة وتزوجت من زميل لها في البرازيل، فرغم أن مكان القصة “البرازيل”، وأن (أبو شكران) وصفه القاص بـ: “من أول الغداء وحتى آخره لم يضع أبو شكران فاصلة واحد في حديثه المتواصل دون انقطاع، رشاش 500 ذو مخزن لا ينضب” ص130، إلا أن القصة قصيرة جدا، وهذا يعكس امتعاض القاص من عملية القتل وإدانته لها، فجاء حجم القصة يعطي القارئ إشارة إلى أن القاص لا يريد الخوض في تفاصيل الجريمة، ونهايتها تؤكد هذا الأمر: “أما أبو شكران فقد حمل وتحمل وزر “فضيحته” وحمل من يومها لسانه خارج فمه، واتخذ من الثرثرة مهنة
جديدة” ص131، فكتم القاص (لثرثرة) أبو شكران رغم طول لسانه وعدم إعطائه فرصة في القصة ليتحدث كما يريد، حتى أنه اختزلها بصفحتين فقط، يشير إلى نفوره من الجريمة وسخطه على القاتل وغضبه من الطريقة التي تمت بها لملمة الجريمة: “حمل أخوها “المفعوص” الغشيم القضية، وحكم عليه بالسجن 18 عاما” ص131، من هنا يمكننا القول إن هناك علاقة بين موضوع القصة وحجمها، وبين حجمها وصيغة القص، فعندما تأتي القصة بصيغة الأنا تكون طويلة، وعندما تأتي بصيغة القص العليم/ الخارجي تأتي قصيرة.
وهذا يأخذنا إلى القصة الطويلة: “شيراز الأديبة في حضرة الأدب” التي يتحدث فيها القاص عن رحلته هو من رام الله إلى طولكرم، متناولا العديد من الأماكن التي مر بها: “بعد أن تعدينا مخيم الجلزون وقبل أن نصل بلدة دورا القرع عرجنا على النبع الذي ظهر من الحفر في الجبل لبناء فيلا أو عمارة… ونزولا استمرينا في سفرنا لنكون بعد دقائق في حضرة قرية عين سينيا تستقبلنا بأحضان دافئة كما كانت تستقبل ثوار عام 1948 وعلى رأسهم المجاهد الكبير الشهيد عبد القادر الحسيني” ص 134، فموضوع القصة متعلق بسفر القاص لحضور لقاء أدبي، فكان تركيزه على المكان وما فيه من معالم وما جرى فيه من أحدث، محاولة منه لتجاوز الأزمة/ الخلاف الذي حال دون جعل اللقاء طبيعياً، وكأنه من خلال تناوله المكان/ الطبيعة يحاول التعويض عن النقص/ الخلل الأدبي، وهذا يأخذنا إلى عناصر الفرح/ التخفيف التي يلجأ إليها الأديب التي تتكون من: الطبيعة، الكتابة، المرأة، التمرد، فالقاص عندما فقد الكتابة/ اللقاء الأدبي استعاض عنه بالطبيعة/ المكان، من هنا أسهب واسترسل وتوقف عند غالبية البلدات والقرى التي مر بها من رام الله إلى طولكرم.
وإذا عدنا إلى المجموعة سنجد أن القاص ركز على اللغة المحكية والأمثال الشعبية، ولم يقتصر هذا الأمر على متن القصة فحسب، بل طال أيضا العناوين أيضا، فقصة العنوان “سلم لي على السفارة” نجدها شعبية، وقصة “غيرة الضرة مرة” نجدها مثلاً نردده فيما بيننا، وهذا يشير إلى أن المجموعة كتبت لنا نحن المتلقين، وما تناولها في جلسة واحدة إلا تأكيد على سلاسة اللغة وقدرة القاص على إمتاع القارئ بما يقدمه له، إن كان من خلال مواضيع المجموعة، أم من خلال حجم وطريقة عرض القصة واللغة المستخدمة فيها.
* المجموعة من منشورات الرعاة للدراسات والنشر، رام الله، فلسطين، وجسور للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2022