أين الرواية الفلسطينية؟!
المحامي إبراهيم شعبان | فلسطين
لطالما تساءلت من عقود طويلة عن وجود الرواية الفلسطينية للأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في مواجهة الرواية الإسرائيلية الغوبلزية الوحيدة المستأثرة بأجهزة الإعلام الأجنبية على اختلافها من غربية وعربية وإسلامية، وحتى المحلية تقتبسها وترددها وتكون صدى لها للأسف. ولولا تضافر عوامل مختلفة ومتعددة من مهنية وجنسية ودينية وإنسانية في موضوع استشهاد المرحومة شيرين أبو عاقلة لما خرجت الرواية الفلسطينية عن إطار المحلية الذي انحصرت فيه وحصرت غيرها فيه.
درجت آلة الإعلام الإسرائيلية بكل دواليبها من عام 1967 فيما يخص الأرض المحتلة ( قدس وقطاع غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان ) على غسيل الدماغ العربي وتشويه الحقائق وإقحام مصطلحات انهزامية مستكينة للعقل العربي، عبر تقديم رواية غوبلزية صهيونية منمقة تدعي الإنسانية وتكفر بسفك الدماء، وتقديم الفلسطيني المدني بشكل عام، كإرهابي يعشق الدم وقتل الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين ولا يقيم تفرقة بين كل هؤلاء فهو عنيفٌ بطبعه، محبٌ للدم وسلطان الشهوة بالفطرة.
وفي هذا الإطار أقامت السلطة الإسرائيلية أجهزة تنفث سمومها داخل المجتمع الإسرائيلي وخارجه. وللأسف لم تجد هذه الأجهزة الحاقدة من يتصدى لها بشكل منظم سواء على صعيد العالم أو الإقليم أو على صعيد الفكر والفلسفة. صحيح أن هناك مبادرات فردية تمثلت في صيحات هنا وهناك ومراكز أبحاث متناثرة تقيم بشكل موضوعي وعلمي للأحداث مثل تقرير كارب في الثمانينات، لكن بقيت الرواية الإسرائيلية الكاذبة معتمدة مصدقة سواء من الغرب أو من الشرق وتم الخلط فيها بين اليهودية والإسرائيلية، وفي الزاوية المظلمة بقيت الرواية الفلسطينية إن وجدت، تدق أبواب العالم على استحياء شديد . وخشي الكثيرون من المفكرين والكتاب، من تهمة اللاسامية الحارقة في الغرب أو هكذا خيل لهم أو وسيلة لعدم المواجهة مع المال والإعلام اليهوديين.
من عام 1967 وإلى يومنا هذا، تتكرر ذات الإسطوانة الإسرائيلية المشروخة حول قتل الفلسطينيين الإرهابيين الذين يناضلون لنيل حقهم في تقرير مصيرهم، ولا يجدون سوى الرصاص الحي من الجيش الإسرائيلي أو التصفية الجسدية بدون محاكمة عادلة أو رفض إجراء تحقيق أو عدم وجود شبهة جنائية في القتل أو تبرير القتل الخطأ، في آلاف حالات القتل التي جرت في الضفة والقطاع والقدس. وإذا ما فتح ملف على سبيل الإستثناء لتحقيق ما، سرعان ما يغلق لأسباب سخيفة أبرزها عدم كفاية الأدلة. وهذا أمر اعترفت به الرواية الإسرائيلية ذاتها وأقرت به ولكن دونما رادع أو محاسب. وبعد هذا لا تستغرب أن يخرج هذا القميء الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أن يكرر ذات الكلمات الخالية من أي مضمون ويشنف آذاننا بأخلاقيات جنودهم وطهارة سلاحهم وهم يتجاهلون أبسط قواعد استعمال السلاح الحي بين المدنيين المسالمين وقواعد القانون الدولي الإنساني.
ويبدو أن الرواية الفلسطينية قد دخلها وتخللها الروتين المكتبي الحكومي المتكرر، والذي غدا شاهدا على الحدث أو صدى له، أو تحليلا له، أو وصفا له، أو تسبيبا وتعليلا له، بدل صنعه أو تفعيله، واستكانت وتفشت فيها التبعية وعدم التجديد والبحث عن الحقيقة المجردة، وتعرية الرواية الإسرائيلية وكشف زيفها من خلال الوثائق والصور والأفلام والأغنية وتقديم التراث الفلسطيني. وكأن الرواية الفلسطينية استسلمت لغزو الرواية الإسرائيلية والتطبيع العربي، واحتلالها لمنابر مدن عربية كثيرة واستضافة وجوه صهيونية في برامجهم بحجة الرأي والرأي الآخر، وغدت تنقل المقالات الإسرائيلية كاملة في صحافتنا العربية وأجهزة إعلامنا. ولو كان الجميع قد قبل وروج وسوق لهذا الوضع، ما كان يجب لروايتنا الفلسطينية للأحداث أن تستكين وتسلم. هل نجلد ذاتنا، ليكن.
الغريب أن الصحافة الإسرائيلية على اختلاف توجهاتها لا تنقل مقالات الفلسطينيين التي تعكس الرواية الفلسطينية، حتى رواية من مالأهم ونافقهم، ولا تجاري الصحافة العربية في هذا المجال. كذلك تفعل التلفزة الإسرائيلية ومقدمي برامجها وضيوفهم، فهي تتجاهل تماما الآراء العربية والرواية الفلسطينية ولا توردها ولا تناقشها وإن أوردتها فهي توردها بشكل مشوه وكذب صريح أو تحريضي على الجمهور العربي، مثل اقتحامات الشرطة الإسرائيلية الأخيرة للمسجد الأقصى المبارك وفنائه بحجة ملاحقة رامي الحجارة، بينما أجهزة المخابرات الإسرائيلية العسكرية أو المدنية تتابع بشكل دقيق، جميع المنشورات والتعليقات العربية، ولم تخل منها أجهزة التواصل الإجتماعي، بل غدت جريمة يحاكم عليها المواطن الذي يعلق تعليقا غير مقبول أو يشتم منه أية ما يسمونه تحريضا أو عنفا. وتحاول الرواية الإسرائيلية دائما وأبدا أن تجتزىء الحقيقة وأن تبتعد عن جذور المشكلة الفلسطينية واعتبار الدم الإسرائيلي متقدما على غيره من دماء العالم ومنهم دم الفلسطيني. حتى عندما يستضيفون أحدا للحديث عن القضية الفلسطينية يستضيفون مستشرقا أو إسرائيليا كخبير مزعوم للقضية أو جنرالا مدعيا بمعرفة هؤلاء الفلسطينيين الأدعياء.
سياسة ذكية استولت على مقاليد ومفاتيح الإعلام في العالم الغربي والشرقي، وغدت الرواية الإسرائيلية بدون منازع الغالبة في السوق. فحيثما وجهنا ناظرينا نرى رواية إسرائيلية زائفة ولكنها مقنعة للأجنبي الذي لا يلم بالقضية. ولن أدخل في تعداد الصحف العالمية والتلفزة الإعلامية ومراكز الأبحاث ومراكز التواصل الإجتماعي التي تعتمد الرواية الإسرائيلية.
ولا يفوتني أن أشيد هنا بتلك المحاولات الفردية التي تحاول هدم الرواية الإسرائيلية وتقديم رواية فلسطينية، بدون موازنات سلطوية أو من المنظمة أو أجهزتها، وتعتمد الجهد الفردي والدافع الذاتي. وهذا نشاط يجب أن تقوم بجزء كبير منه أو جلّه السفارات الفلسطينية وبلغات مختلفة واتصالات رسمية وغير رسمية وأن لا تترك الساحة للرواية الإسرائيلية تصول وتجول وكأن الرواية الفلسطينية خالية الوفاض.
يجب أن توكل الرواية الفلسطينية للشباب المتحمس المثقف المتعلم الجريء، وأن يجلس كبارنا في مقاعد المتقاعدين ففكرهم أصيب بالتكلس ، ولقد راينا ذلك مثلا في قضية الشيخ جراح. ويجب أن تضخ الأموال بكرم حاتمي على هذه الرواية الفلسطينية والقائمين عليها بدل الصرف في مواقع أخرى غير منتجة وهي كثيرة، وإن يكن الصمت من ذهب فما أغنى الخرسان!