قراءة في رواية ماليندي للكاتب اللبناني محمد طرزي
عفيف قاووق – لبنان
رواية “ماليندي” الصادرة عن الدار العربية للعلوم-ناشرون.في طبعتها الأولى عام 2019.يمزج فيها الروائي والكاتب اللبناني محمد طرزي بين الحقائق التاريخية التي استقاها كما ذكر منثلاث مخطوطات نادرة ومفقودة الأولى هي «خزينة الأسرار في قواعد علم البحار» للرّحالة أحمد بن ماجد التي ظهرت لأول مرة في مزاد علني أقامته دار كريستيز في لندن في عام 1998. والثانية هي «الحروب الصليبية كما لم يرها العرب» للعلّامة وقاضي القضاة أبي منصور الصقري، أما المخطوطة الثالثة فهي «مذكرات لموسى بن عطّار» المولود في غرناطة العرب عام 1475م. والذي ظهر بشخصية الأمرد في هذه الرواية.
بالرغم من أنّ الكاتب أشار إلى هذه المراجع الثلاث التي اعتمدها إلاّ انّه وبما يملك من ملكةِ الكتابة والقدرة على التخيُل وتطويع اللغة، استطاع أن يقدم لنا رواية من التاريخ المتخيّل الممزوج بالحقائق التاريخية،وبلغة متناسقة وسهلة تجذب القارىء وتستفزه لإجراء بعض الإسقاطات أوالمقارنات للأحداث التي لحظتها والتي نعيش مثيلاتها في دولنا ومنطقتنا في حاضرنا هذا. فقد عمل الروائي على الحفر في تاريخ تلك الحقبة الزمنية التي تعود لأواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن الذي يليه، لينقل لنا تاريخ إمارة ماليندي والتناحر ما بينها وبين الإمارات المجاورة وتحديدا إمارة منبسي والتي تعرف اليوم بمدينة مومباسا إحدى كبريات المدن الكينية.
تتمحور الرواية تحديدا حول السعيّ الدائم للبحث عن طرق بحرية جديدة يمكن من خلالها الوصول إلى الهند أو اكتشاف مناطق جديدة كما كان الرحالة العربي أحمد بن ماجد يُمنِّي نفسه بإكتشاف جزر جديدة، ولذا لجأ إلي شيخ إمارة ماليندي يوسف بن مروان طلبا للمساعدة ومدّه بالرجال والمراكب البحرية.وتزامن هذا الطلب مع مجيء الرحالة البرتغالي فاسكو دي غاما الى إمارة ماليندي والطلب من شيخها أن يقوم بإقناع صديقه ابن ماجد بمرافقتهم إلى الهند ليكون دليلاً لهم، مشترطين اصطحاب سيف الإبن الأصغر للشيخ لضمان عدم خيانة ابن ماجد لهم، مقابل منح الشيخ عشر بنادق تضمن له الانتصار على أعدائه.
الروايةوإن كانت كما ذكرنا تتطرق إلى تاريخ تلك الإمارة إلا أن الكاتب وبحرفيّة عالية ومتقنة تتطرق فيها إلى عدة قضايا ومحاور لا نزال نشهد مثيلاتها في حاضرنا الاجتماعي والسياسي وهذا ما يُسجّل للكاتب قدرته على تقديم هذه الروايةوجعل القارىء إذا أراد في أن يُجري بعض الإسقاطات والمقارنات على واقعنا المُعاش من خلال بعض ما أثارته هذه الرواية. وسنحاول التطرق إلى بعض المحاور التي يمكن إستخلاصها.
1- العَصَب القومي: يظهر الولاء القومي جلياً في الرواية وخاصة في موقف الشيخ يوسف ردًا على اقتراح القاضي أبو منصوربضرورة التحالف مع الحبشة لأجل محاربة عرب منبسي:” أتريدني أنا الشيخ يوسف بن مروان أن أمد يدي لأعداء العرب، انا لست ممنْ يحالفون الغرباء لقتال ذوي القربى”.18 مذكراً الحضور بواقعة تاريخية مشهورة عندما كتب قيصر الروم لمعاوية عارضا عليه المساعدة العسكرية في حربه مع علي بن أبي طالب وكيف كان رد معاوية حاسما بالرفض لأي تدخل أجنبي وغريب في نزاع الإخوة. هذا الموقف يمثل دعوة صريحة للوحدة العربية الحقّة التي نفتقدها بعد أن طغت سياسة المحاور على المنطقة العربية بحيث تشتتت هذه الدول والبلدان العربية في محاور متنافرة حينا ومتناحرة أغلب الأحيان .
في موضع آخرعندما لوَّح أحمد بن ماجد للشيخ يوسف أنّه لم يبقَ أمامه سوى عرض مشروعه الاستكشافي على “كيلوا” الفارسية متذرعا بأنهم مسلمون في النهاية، كان ردَّ الشيخ حاسما عندما قال “ليس الأمر أمر دين، ولكنّ التّاريخ لن يرحمنا لو وصلتَ الى تلك الجزر بمساعدة الفرس بعدما قصدتَ إمارات العرب،(28)،وفي هذا الموقف أيضا نجد ان الرابط القومي الذي يجمع بين الدول ذات التاريخ واللغة والجغرافيا المشتركة يطغى بل يجب أن يتفوق على الرابط الديني.ولا يجب الإستقواء بالخارج والسماح له بالتوغل إلى حد التغوّل في الشؤون الداخلية حتَى وإن كان الدين هو المشترك الوحيد بيننا، وهذا ما نشهده وللأسف في بعض بلداننا.
2- الحروب والتناحر ما بين شعوب العرب شكلتالمحور الثاني الذي تتطرق له الرواية، وللأسف هو محور قديم جديد في إشارة إلى الحروب العربيَّة العربيَّة التي دارت رحاها في القرن الخامس عشر بين إمارتَي «ماليندي» و«منبسي» الواقعتين في أفريقيا (تحديداً في «كينيا» اليوم. وأيضا أشار أحمد بن ماجد إلى هذا بقوله لشيخ ماليندي انه قصد قبل ذلك سلطنتيْ سُفالة وزنجبار طلبا لتبني رحلته الإستكشافية ولكن إنشغال كل منهما بحروب العرب فوق أرض الزنوج حال دون تلبية الطلب.27. هذه الحروب والخلافات المستدامة والمصطنعة بين الشعوب العربية حالت دون الالتحاق بركب الحضارة ومواكبتها، لنصل إلى معادلة تقول”إنّ ما حلَّ بالعرب ما هو إلا نتيجة تبدلات حضاريّة لم يواكبوها بسبب انشغالهم بصراعات صغيرة فيما بينهم”.
3- السياسات المتبعة: أبرزت الرواية البعض من الأساليب السياسية المتبعة في إدارة شؤون الإمارة أو البلد ويبدو أنّ الكثير من هذه الأساليب لا يزال معتمدا في الكثير من الدول الحاضرة واهم هذه الأساليب خلق ما يسمّى بالعدو الوهمي لشد العصب والتوحد حول القيادة .
وتبرز الرواية أيضا المواصفات الواجب توافرها في القائد الحقيقي أو القائد الفذَ كما وصفته بأنّه يحرص على حياة الجند، بقدر حرصه على حياته هو، وخيرٌ للملك أن يخسر الحرب على أن يخسر احترام جنده وشعبه.هذا يدعونا للتساؤل هل نحن في زمن القائد الفذَّ أم أنّ وهج السلطة والحكم تجعل القائد يبتعد عن التحلي بمثلِ هذه المواصفات؟.
أيضا لقد نجح الكاتب في توظيف لعبة الشطرنج لتمرير ما يريد قوله محاولا إسقاط شروط هذه اللعبة على لعبة الحياة السياسية اليومية، فكما جاء على لسان الوزير الحبشي “مطيع” متوجها إلى “سيف ابن الشيخ بالقول ” أنَّ أخطر شرك يواجهه الإنسان – في الحياة كما في الشطرنج – هو خوفه من شرك لا وجود له، كما أنَّ حركة خاطئة واحدة في لعبة الشطرنج كفيلة بإهدار ثلاثين حركة صحيحة فهذا ما يحدث تماما في الحياة السياسية إذا ما اتخذت خطوة ناقصة تطيح بكل المنجزات التي تحققت. فالانتصار يتحقق غالبا ليس بسبب الكثرة بل بسبب الذكاء البشري فإذا كانت الكثرة تغلب الشجاعة لكنها لا تغلب المنطق وان تفرّد به رجل واحد. وفي سياق متصل تشير الرواية إلى أنّ حب السلطة غالبا ما تدفع بالصديق للإنقلاب على صديقه، وألأخ للتآمر على أخيه، هذا ما حدث مع الأشوَل الصديق الأقرب لسيّف بأن وشى به لدى الأمرد، وإعلامه خطّة سيّف لدخول القصر والتخلص من الطفل حتى تنتفي أية حجة لمطيع وابنته بمصادرة عرش ماليندي. مقابل أن يقوم الأمرد بتزويد الأشول بالبنادق للتخلص من أخيه. ولم يغفل الكاتب عن ذكر ما يحدث من تزييف لكتابة التاريخ عندما أشار إلى حقيقة ثابتة وهي أنَ المنتصر هو من يكتب التاريخ ولكن يقوم بتزييفه، والشواهد تؤكد أنّ التّاريخ الأصح هو ما يكتبه المهزوم.
4-النقاش المستمر ما بين العلم والإيمان:قضية أخرى لا تزال تُمثل إشكالية ليومنا هذا أشارت لها الرواية وهي النقاش المستمر ما بين العلم والإيمان،وهذا ما ظهر عندما أفصح أحمد بن ماجد بحضور قاضي القضاة عنإيمانه بكروية الأرض وهذا ما لم يستحسنه الشيخ يوسف معتبرا أنّ ما تفوَّه به بن ماجد يناقض كلام الله في القرآن الكريم.. وفي موضع آخر يقول أحمد بن ماجد مخاطبا سيف ابن الشيخ يوسف “لا تكن ممن يرفضون رأياً علميّاً لأنّه غير متماشٍ مع الكتاب، أو ممن يشكُّون في الكتاب لأنّه بدا غير منسجم مع المفاهيم العلميّة. فلا شيء يمنع أن يصبح ما هو مسلّم به اليوم موضع شكّ في الغد. 87. وقد أجاد الكاتب خلال تعرضه لهذه المسألة في توظيف بعض الآيات القرآنية والاستدلال بهافي النقاشات التي دارت بين سيف ومُعلّمه ومن هذه الآيات :وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ، سورة الحجر 19). وأيضا الآية 19 من سورة نوح: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا.وللدلالة على كروية الأرض يستدلّ ابن ماجد بالآية الخامسة من سورة الزمر “خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ”. ليستمر النقاش بين العلم والإيمان ليومنا هذا .
5- الحرب الاقتصادية وأوجه التدخل الأجنبي ومصالحه الاقتصادية:
سعي الغرب وتحديدا البرتغاليون لاكتشاف طريق بحريّ يجنبهم التعامل مع العرب كوسطاء تجاريّين وبالتالي عهد إلى الرحالة فاسكو دي غاما بتحقيق هذا الحلم للاستغناء عن طريق الحرير، وتبرز الرواية الأساليب الملتوية التي يعتمدها الغرب في إستمالة الشعوب والنفاذ من خلال الصراعات القائمة بينها لإحكام السيطرة وهذا ما عرضه فاسكو دي غاما على الشيخ يوسف بقوله ماذا لو قدّمت لكم البرتغال ما من شأنه أن يحسم أي حرب لصالحكم بغض النظر عن عدد وكفاءة مقاتليكم؟(ص109). ويستمر فاسكو دي غاما في ابتزاز الشيخ والضغط عليه لانتزاع موافقته ويقول له: “جبنا البحار والممالك بحثا عن أحمد بن ماجد، حظًّكَ جيّد أنّنا وجدناه لديّك، ولو وجدناه لدى أعدائك لكانت آلة الموت التي قدمناها لك من نصيبهم الآن.115 .
وكما يحدث في عصرنا الحالي فإن أكذوبة “الوسيط النزيه” سقطت حيث لم تُسعف أهالي ماليندي بنادق الإفرنج في شيء، لأن البرتغاليّين ما لبثوا أن زاروا إمارة منبسي في السّر وباعوهم البنادق نفسها 218.وعندما وقع محمد ابن الشيخ يوسف أسيراً لدى إمارة منبسي تدخلت البرتغال للتوسط بين الإمارتين العربيتيّن لتحرير الأسير، ولكن كان الثمن الذي حصدته باهظاً، بأن سمحت ماليندي للبرتغاليين ببيناء الثكنات العسكرية ووضعت موانئها بتصرفهم، كما سمحت لهم ببناء المعابد الخاصة بهم ليكون هذا السماح بمثابة اللبنة الأولى في التدخل والتواجد العسكري الأجنبي على أرض ماليندي.
6- اليهود وتحايلهم :من القضايا التي تطرقت لها الرواية أيضا،اليهود وتحايلهم للإمساك بسلطة القرار في الإمارات العربية وتحديدا إمارة ماليندي، يقول الأمرد اليهودي”نصحني الوالد قائلاً” تعلم لغتنا واعرف دينهم ولكن لا تتبع غير دينك”. ويستمر الأمرد في تضليله للإفرنج عن طريق دسه في بريد بابا الفرنجة رسالة منسوبة إلى يوحنا الملك يطلب فيه العون، وكان الهدف جراء هذا التصرف هو صرف أنظار الإفرنج عن الحبشة وتوجيههم للبحث عن هذا الملك في المكان الأبعد . يقول الأمرد:”دسسْتُ رسالة عفّرتها بالتراب في بريد البابا، زاعما بأنّها مرسلة من قبل يوحنا الكاهن.كانت تلك الرسالة طريقتي المثلى لدفع الكنيسة إلى البحث عن وهم.243.
الشخصية اليهودية الثانية التي لعبت دورا مهما في مجريات الأمور كانت الوزير اليهودي مطيع وبما أنّ ابنته أصبحت الوصيّة الوحيدة على عرش ماليندي بعد وفاة زوجها محمد ابن الشيخ في ظروف غامضة، فقد استطاع هذا الوزير حكم البلاد والعباد بعد توطيد علاقاته مع الإفرنج وجعل ماليندي محمية برتغالية تنطلق منها الحملات ضد العثمانيين والعمانيين العرب.
7- التسامح الديني ونبذ التعصب والدعوة الى السلام:
أظهر الكاتب في هذه الرواية أهمية السلام والتعايش بين الشعوب ونبذ العنف والأذى فعندما التحق سيف بالحجّاج شعر بأنّه يخوض مغامرة فريدة، فهو يحجّ على نفقة إمام لم يسمع به، وعندما تحسّس جيوبه وجد فيهما تمثال لآلهة هندوسية، وخصلة شعر من امرأة يهودية وسبق له وأن باركه راهب بوذيّ وفي قلبه نور أشعلته زنجيّة موشوم على معصمها صليب(212). وهذا يؤكد لنا أن الجميع متساوون في الإنسانية بغض النظر عن معتقداتهم الدينية التي يجب أن تجمع ولا تفرق. ناهيك عن رغبة سيف العربي المسلم بتعلقه وهيامه بابنة اليهودي رفقة.
ختاما نبارك للكاتب محمد طرزي هذا الإصدار الذي لا شك سيجد مكانه المستحق في المكتبة العربية والاهتمام الأكيد من القراء والنقّاد على السواء.