إنها القدس أيها الجنديّْ
خالد جمعة | فلسطين
إنها القدس أيها الجندي، القدس التي لا تعرف أنت عنها شيئاً عدا عما قرأته في الكتب، القدس التي تشعرك بالضآلة أمام من مروا من نفس الشارع، وربما خطوا فوق نفس البلاطات التي تخطو أنت فوقها، كلُّ هذا العدد من الأنبياء والقادة والعظماء والشعراء والكتاب والمؤرخين في مكان صغير كهذه المدينة، فهل تجد مكانك؟ أين يذهب ظنك بنفسك إذا وجدت كتابات تعود إلى آلاف الحضارات؟
هنا، في القدس، ذابَ الصوفيونَ في حضرةِ الرَّب، هنا تعلَّمَ النشءُ أن الحياة أكبر من أن تحدَّها فكرةٌ عابرة، وهنا تقدَّستْ كلُّ ديانات الأرضِ وخلعَت كلُّ الملوكِ تيجانَها تواضعاً أمامَ المدينةِ التي لم تشبهها مدينةٌ أخرى، مدينة تستحق أن تكونَ سرَّةُ العالمِ وحبلُها السرّي مربوطٌ بالله مباشرةً دونَ وساطاتٍ من أي نوع…
مطرٌ من التاريخِ يهطلُ على شعرك وقميصك حين تمر من هناك، مطرٌ من المجد والكينونة المتفرّدة، مطر من النبوّات والأحلام والتوحُّدِ في المطلق البعيد وفي ظلال الآلهة التي سكبها التاريخ في حقلٍ لا تُنبِتُ تربته غير عَظَمَةٍ من بنفسَجْ.
إنها القدس أيها الجندي، والجنود الذين ظلّوا هنا، هم فقط أولئك الذين ظلوا ليحرسوا هواءها من أنوف الغرباء، أما الباقون، فقد زالوا، لم يرحلوا، بل زالوا…
إنها القدس أيها الجندي، لن تنزل على ركبتيها أمام بوابة من حديد، أو أمام عَلَمٍ غريب، لن تخشى رصاصةً من بندقيتك الملقمة بالأساطير، فكثيرة هي الأساطير التي مرت في ساحاتها، وكثير هو الرصاص الذي حاول خدش حجارتها، وكثيرون هم الجنود الذين مروا كسوّاحٍ على طرقاتها، بقي فيها فقط من عرف كيف يحبُّها، كيف يرى صورة وجهه في الصباح في مرآة حجارتها، أما من حاول تطويعها لتصبح شبيهة به، فقد زال إلى الأبد.