من ملاحقة القتلة إلى محاكمة الاحتلال
نهاد أبو غوش | فلسطين
يتأكد يوما بعد يوم، صدقُ الرواية الفلسطينية المطلق بشأن جريمة اغتيال الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، والمسؤولية الكاملة لجيش الاحتلال عن هذه الجريمة النكراء بالاستهداف المتعمد للشهيدة شيرين عن سابق تصميم وإصرار، وهو ما لخّصه تقريرُ النيابةِ العامّة الفلسطينية، وأكده تحقيقان مستقلان لكل من شبكة سي إن إن الأميركية، ووكالة أنباء اسوشيتيد برس، ولا يمكن التشكيك في إمكانية انحياز هذين المصدرين الأخيرين بالتحديد للفلسطينيين، أو معاداتهما لإسرائيل.
كفلسطينيين، لم نكن بحاجة إلى كل هذه الشهادات والبينات، وإلى شهادات خارجية وخبراء الصوت والأسلحة ومحللي البيانات، لكي نقتنع بمسؤولية إسرائيل عن الجريمة، فنحن نثق بشهادات زملاء شيرين وزميلاتها، وفريق الجزيرة وإدارتها، وبشهود العيان والمصادر المحلية التي صوّرت الجريمة ووثّقتها. وفوق ذلك نحن جميعا شهود على جرائم يومية يرتكبها الاحتلال، واعتاد على الإفلات من تبعاتها كما جرى مؤخرا مع الشهداء ثائر يازوري في البيرة، وأمجد الفايد في جنين، وغيث يامين في نابلس، وزيد غنيم في بيت لحم وكلهم أطفال وطلبة مدارس دون السابعة عشرة من عمرهم، واستشهدوا جميعا بعد شيرين ابو عاقلة بعمليات إعدام ميداني، وقرارات قتل أجازتها حكومة إسرائيل رسميا على لسان رئيسها نفتالي بينيت القائل ” كل من يرفع يده على جندي إسرائيلي فدمه مهدور”، وحوّلها جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية إلى أوامر عمليات يومية، وغطّاها الكنيست والقضاء الإسرائيلي وكل منظومة الاحتلال التي ما زالت تتصرف وكأنّها في منأى عن أية محاسبة.
أكيدٌ أن ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب ومحاكمتهم ليست بالأمر السهل في ضوء موازين القوى الدولية القائمة، وسطوة الولايات المتحدة على النظام الدولي ومؤسساته، وصلاحيات المحكمة الجنائية الدولية ومجالات اختصاصها، ومعلوم أن هذه المحكمة ومثلها المحاكم الخاصة للتحقيق في جرائم الحرب مثل المحكمة التي شُكّلت لمتابعة الجرائم في يوغسلافيا السابقة، لا تستقوي إلا على الضعفاء من العالم الثالث، ولم يشهد العالم حتى الآن أية محاولة جدية لمحاكمة قادة أميركا والغرب الذين كذبوا على الجميع واستخدموا حججا مُلفّقة لكي يشنوا حروبا دموية أوقعت ملايين الضحايا في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا ويوغسلافيا، لكن ذلك لا يقلل من أهمية ما أنجز من قبل الجهات المختلفة وخاصة من قبل زملاء شيرين والنيابة العامة الفلسطينية والطب العدلي وقناة الجزيرة ونقابة الصحفيين الفلسطينيين والاتحاد الدولي للصحفيين، والسلطة التي رفضت الانجرار إلى فخ التحقيق المشترك وتسليم الرصاصة القاتلة، وعموم الشعب الفلسطيني الذي توحّد في حُبّ شيرين والحزن عليها والوفاء لروحها الطاهرة كما لم يتوحد منذ سنوات طويلة.
يمكن للجهود التي تبذلها نقابة الصحفيين والاتحاد الدولي للصحفيين، وقد سبق لهما أن أعدا ملفات متكاملة، ووكلا فريقا مهنيا من المحامين الدوليين بتقديم إشعارات وملفات للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أن تحقق نتائج ملموسة فتحشر الموقف الإسرائيلي في الزاوية وتضطره لمحاكمة أو على الأقل مساءلة المسؤولين المباشرين على الأقل، أو اتخاذ تدابير انضباطية ووقائية تحد من استباحة أرواح الفلسطينيين. كما يبذل ائتلاف من ثلاث منظمات حقوق إنسان فلسطينية مرموقة جهودا مماثلة لملاحقة المجرمين الإسرائيليين على جرائم الحرب المتمثله في الاستهداف المتكرر والمنهجي للسكان المدنيين من دون تمييز، ومن المؤكد ان لدولة فلسطين بوصفها عضوا في ميثاق روما والمحكمة الجنائية الدولية فرصة لتحريك دعوى وتقديم شكوى مباشرة، وليس مجرد إشعار أو بلاغ للعلم والخبر يبقي المسألة في عهدة المدعي العام للمحكمة.
قيل الكثير عما حققته الشهيدة شيرين أبو عاقلة في حياتها المهنية وفي طريقة استشهادها ومراسم تشييعها الملحمية، نضيف هنا أن التحقيق في جريمة اغتيالها كفيل بأن يُسلّط الضوء على سلسلة جرائم القتل والإعدامات الميدانية التي مرّت على مدى الأيام والسنين من دون أن يتاثر العالم بما يجري في بلادنا على الرغم من الويلات والحسرات التي ما زالت تسكن قلوب أهالي الشهداء. لقد راهنت إسرائيل من قبل على معادلة بسيطة قوامها “لكم روايتكم ولي روايتي”، وكانت تظن أنها الأقدر على مواصلة الكذب وتبرير جرائمها اليومية ضد الفلسطينيين، وهي حاولت اتباع مثل هذا الأسلوب حتى في جريمة اغتيال شيرين وانسجمت معها بعض وسائل الإعلام الأميركية مثل صحيفة نيويورك تايمز. لكن إسرائيل وقعت في شرّ أعمالها، وتضافرت عدة عوامل من بينها شخصية شيرين المميزة، ومهنيتها وشعبيتها الجارفة على مستوى العالم العربي، وقوة وتأثير قناة الجزيرة، وكون الشهيدة من القدس ومسيحية وتحمل الجواز الأميركي، ما خلق ردة فعل عالمية وصل صداها لمجلس الأمن الدولي والكونغرس وبرلمانات كثير من الدول، ولا عجب أن قضية شيرين أبو عاقلة استحوذت على اهتمام العالم لما مثلته من تكثيف لمظلومية الفلسطينيين التاريخية من جهة، والمخاطر التي تحدق بالصحفيين من جهة ثانية، وبشاعة الغطرسة والقوة المستندة إلى مبدأ الإفلات من العقاب من جهة ثالثة.
تكشّفت حقيقة إسرائيل مثل قاتل متسلسل، سبق له أن ارتكب مئات الجرائم وافلت منها، ولكنه ضُبط أخيرا مُتلبّسا بالجرم المشهود، وبالتالي حقّ عليه أن يحاكم على كل ما اقترف وليس على الجريمة الأخيرة فحسب.
بتماسك الموقف الفلسطيني الرسمي والأهلي، وتضافر الجهود السياسية والدبلوماسية والجماهيرية والقانونية، يمكن لملاحقة مجرمي الحرب أن تتحول إلى محاكمة للاحتلال وجرائمه الكبرى ضد الشعب الفلسطيني بتشريده واقتلاعه من وطنه وسلب ما تبقى من أراضيه والتنكر لحقوقه الوطنية.
فالمجرم الحقيقي ليس فقط ذلك الوغد العديم الضمير، الذي ضغط على زناد بندقية القنص من نوع ميني روجر، ومن غطى عليه وربما هنّأه على سوء صنيعه من الضباط والقادة، بل هو كل من يسمح لكل هذه الجرائم أن تمرّ من دون عقاب.