هل نحن أحفاد الكرومانيين؟ قراءة إنثروبولوجية في التهاجن

د. عماد خالد رحمة | برلين 

من خلال دراساتنا الأنثروبولوجية التي تبحث في عمق وجذر الإنسان العاقل على كوكبنا، وجدنا الكرمانيين الذين يمثلون أول إنسان عصري قديم من العصر الحجري القديم الأوروبي، وهو اسم غير رسمي لأول إنسان عصري قديم. أي (الإنسان الأول) من العصر الحجري القديم في أوروبا. إنّ معظم الكتابات العلمية الحديثة في أوروبا على وجه التحديد ،تفضل استخدام لفظ الإنسان الأوروبي الحديث الأوروبي (EEMH) عن مصطلح (الكرومانيون) الذي اختلف علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأثنولوجيا حول وضع تصنيفي رسمي له، إذ يشير إلى نوع رئيسي أو فرعي في السلالات البشرية. وليس المرحلة أو الثقافة الأثرية التي تحدّث عنها معظم العلماء أصحاب الاختصاص. وأقدم البقايا المعروفة للبشر الشبيهين بالكرومانيون يرجع تأريخها حسب قياسات معمل الكربون المشع 14 إلى 43,000 سنة قبل وقتنا الحاضر. الجدير بالذكر أنَّ متحف الإنسان في باريس يحتفظ بـــ (عجوز من الكرومانيون أصلي).
والكرومانيون كانوا أقوياء الشكيمة. أشدّاء، مفتولي العضلات ،ويتمتعون بصحةٍ جيِّدة. وكانت أجسادهم بشكلٍ عام ضخمةً وبنيتهم صلبة، وعضلاتهم قوية لا تلين. كما كانت رؤوسهم كبيرة الحجم، وجبهتهم مستقيمة وطويلة، وحواجبهم خفيفة. وشفاههم رقيقة. والكرومانيون هم أول بشر (جنس هومو) تكون لديهم ذقن ناتئة وليست طويلة . تبلغ قدراتهم الذهنية نحو 1,600 سنتيمتر مكعب (98 بوصة3)، أي أكثر من متوسط منا نحن الإنسان المعاصر. ومع ذلك تشير الأبحاث العلمية المتخصصة الحديثة إلى أنّ القياسات البدنية لمن يُسمون (بالكرومانيين) لا تختلف كثيراً عن الإنسان المعاصر وتحديداً الإنسان الأوروبي وليس الهجين بالقدر الذي يسوغ إعطاءهم اسماً منفصلاً. فالأوروبيون بشكلٍ عام طوال القامة وأكتافهم عريضة، وأصحاب أجسام كبيرة تتناوب بين الضخامة والوسط.
لقد أشارت بعض الدراسات الحديثة عن حالة التهاجن بين البشر والعديد من الأنواع البشرية العتيقة. فقد أثبتت اللقى الأثرية والمكتشفات للإنسان العتيق أنَّ هناك أدلّة واضحة على التزاوج بين البشر القدامى والحديثين خلال العصر الحجري القديم الأوسط ،وأوائل العصر الحجري القديم الأعلى. فقد تحدثت الدراسات والأبحاث الجديدة عن حدوث التزاوج في العديد من الأماكن المستقلة التي شملت إنسان نياندرتال ودينيسوفان، بالإضافة إلى وجود العديد من أشباه البشر غير المعروفين لدينا بشكلٍ كامل .
في أوراسيا التي تشكل كتلة أرضية مساحتها 54,000,000 كم² وهي مكونة من قارتي أوروبا وآسيا، تشكلت أوراسيا قبل حوالي 350 مليون سنة بعد اندماج القارات سيبيريا وكازخستان وبلطيقا والتي اندمجت مع لورينتيا التي تمثل الآن أمريكا الشمالية لتشكل أورأمريكا. في تلك الكتلة حدث التزاوج بين إنسان نياندرتال ودينيسوفان مع البشر المعاصرين مرات عدة. وتشير التقديرات الممكنة إلى أنَّ أحداث الانطواء في الإنسان الحديث قد جرت منذ حوالي 47000-65000 سنة مع إنسان نياندرتال فلسطين وإنسان نياندرتال جاوه وحوالي 44000-54000 سنة مع إنسان دينيسوفان.فقد تم العثور على الحمض النووي المشتق من الإنسان البدائي الأوّل في جينومات معظم المجموعات السكانية المعاصرة أو ربما كلها، متفاوتة بشكلٍ ملحوظ حسب المنطقة التي يقطنون فيها. يمثل 1-4 ٪ من الجينوم الحديث للأشخاص خارج القارة الإفريقية جنوب الصحراء الحارقة، على الرغم من اختلاف التقديرات وتناقضها أحياناً وتشابك المعلومات بشكلٍ كبير، أو ربما تصل إلى نحو 0.3 ٪ – فقط وفقاً لبحث اعتبر بحثاً هاماً ظهر حديثاً – لأولئك الموجودين في القارة الإفريقية. ويبدو أنه الأعلى في شرق القارة الآسوية، ومتوسط في الأوروبيين، وأقل من ذلك في جنوب شرق آسيا. وفقاً لبعض الأبحاث والدراسات والتقارير المتخصصة، فهو أيضاً أقل بقليل بشكلٍ واضح لدى سكان ميلانيزيا مقارنةً بكل من شرق القارة الآسوية والأوروبيين. ومع ذلك، وجدت دراسات وأبحاث وتقارير أخرى تبيِّن اختلاط نياندرتال أعلى في الأستراليين الميلانيزيين، وكذلك في الشعب الأمريكي الأصلي، مقارنة بالأوروبيين .
الجدير بالذكر إنَّ السلالة البشرية المشتقة من الدينيسوفان غائبة إلى حدٍ كبير عن السكان الحديثين في القارة الإفريقية وغرب أوراسيا. تم العثور على معدلات أعلى، إلى حدٍ بعيد، من خليط غير منسجم مع دينيسوفان في أوقيانوسيا وبعض سكان جنوب شرق آسيا ، مع ما يقدر بنحو 4-6 ٪ من جينوم سكان ميلانيزيا المعاصرين مشتق من دينيسوفان. في حين أنَّ بعض مجموعات Negrito في جنوب شرق آسيا تحمل أيضاً خليط دينيسوفان، إلّا أنَّ البعض الآخر لا يمتلك أياً منها ، مثل Andamanese. ليس هذا فحسب بل يمكننا القول أنه بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على آثار منخفضة من أسلاف مشتقة من الدينيسوفان في قارة آسيا وحوافها، مع أسلاف دينيسوفان مرتفع في سكان جنوب القارة الآسيوية مقارنة بسكان البر الرئيسي الآخرين.
في القارة الإفريقية، عثر العلماء على أليلات قديمة تتوافق وتنسجم مع العديد من أحداث الاختلاط والتماذج المستقلة في شبه القارة الهندية. من غير المعروف في وقتنا الحالي من كان هؤلاء البشر الأفارقة القدامى.
لقد أخذ هذا البحث العلمي العميق جهوداً كبيرة، واستحوذ على اهتمام الكثيرين من أهل الاختصاص. وكثرت الدراسات والأبحاث المتخمة بالمعلومات، لكن على الرغم من أن سرديات التطور البشري غالباً ما تكون مثيرة للجدل، إلا أن أدلة الحمض النووي تظهر بشكلٍ جلي أنه لا ينبغي النظر إلى التطور البشري على أنه تقدم يسير وفق خطٍ مستقيم أو متفرع بسيط، بل مزيج من الأنواع والأخلاط ذات الصلة. في حقيقة الأمر، أظهرت معظم الأبحاث والدراسات الجينومية أن التهجين بين السلالات المتباينة والمختلطة إلى حدٍ كبير هو القاعدة ، وليس الاستثناء ، في التطور البشري. علاوة على ذلك، ولا يمكن التغاضي عنه أنه يُقال أن التهجين والتزاوج بين البشر كان قوة دافعة أساسية في ظهور الإنسان الحديث الذي نعرفه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى