تصورات مثالب المجتمع المدني

بقلم: عفاف عمورة | ألمانيا

ما يزال العالم يطمح لتحقيق المجتمعات المدنية في العالم لأنها تتضمن الأنشطة التطوعية التي تسعى الجماعة إلى تنظيمها حول قيم ومصالح وأهداف مشتركة.مثل دعم التعليم المستقل وتقديم الخدمات، والعمل على التأثير على السياسات العامة المتبعة داخل الدولة .كما يتمكن المواطنون من الاجتماع خارج دائرة العمل الحكومي لنشر الأفكار والمفاهيم والآراء حول السياسات وممارسة دورها وعلى الأخص حالة الضغةط عليها من أجل تعزيز المنهج السياسي أو محاسبة السياسات ومعاقبة صانعيها أو مكافآتهم .
هناك ثمة اجتهاداتٍ متنوعة في تعريف مفهوم ومدلول المجتمع المدني التي تعبِّر عن تطور الجدل والمفهوم حول أشكاله وطبيعته وأدواره. فالمعنى العام المشاع للمفهوم هو المجتمع السياسي الذي يحكمه التشريع والقانون تحت سلطة الدولة وحكمها. لكن المعنى الحقيقي الأكثر شيوعاً وانتشاراً هو تمييز المجتمع المدني عن الدولة وأجهنزتها ومؤسساتها، بوصفه مجالاً واسعاً لعمل الجمعيات والاتحادات مثل جمعيات رجال الأعمال والنوادي الرياضية، وجمعيات حقوق الإنسان ، وجماعات الرفق بالحيوان ، واتحادات العمال والفلاحين والطلبة وغيرها. أي أن المجتمع المدني يتكون مما أطلق عليه المفكر السياسي الإيرلندي إدموند بيرك وهو من رواد الفكر المحافظ (الأسرة الكبيرة) .
في الدرجة الأولى يهتم المرء بسبل حياته المعيشية وعمله ونتاجه اليومي، ليكفي حاجته وحاجة أسرته بالغذاء والدواء والسكن وغير ذلك من لوازم الحياة المعيشية. ولكن يمكننا أن نجد بجانب ذلك أشخاص كثيرون لهم اهتمام كبير بالمجتمع الذي يعيشون فيه ويكونون ترابطاً خاصاً، ويكونون على استعداد كبير للتطوع وإفادة المواطنين الآخرين. أي أن المجتمع المدني ينمو ويتطوّر بمقدار استعداد أفراده ومواطنيه على العطاء التطوعي الجاد بدون مقابل لإفادة الجماعة. في هذا السياق يبرز موقف أخلاقي مفاده أنّ هذا السلوك يعتبر من (الإيثار العام). وفي المجتمعات الديموقراطية يتم تشجع الحكومات على ذلك النشاط .
لقد ارتبطت الجهود المكثفة حول استعادة مفهوم المجتمع المدني ومدلوله في النظريات السياسية الحديثة والمعاصرة بسياق التغيير والتحوّل الذي عرفته دول أوروبا الشرقية مطلع السبعينيات ونهاية الثمانينيات من القرن العشرين الماضي، حيث كان للحركات النقابية المتعددة والحركات التي قامت بها الجمعيات دور بارز في تأطير وصناعة التحولات والتغييرات الثورية الجارية في وقتها.أما في مجتمعاتنا العربية فإنها تشهد أمراً قريباً لما حدث في أوروبا الشرقية من تقلبات وتغييرات إثر الحراك الشعبي العربي في بداية عام 2010 م وتحديداً تلك التي انطلقت في تونس في السابع عشر من شهركانون الثاني عام 2010 م .
وتشهد مجتمعاتنا العربية اليوم أمرا شبيها بتلك التقلّبات إثر ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في تونس في 17 كتنون الأوّل عام 2010م، بعد أن أحرق الشاب بوعزيزي نفسه، وتحوَّلت الديمقراطية والحرية فيها إلى مطلب جماهيري وشعبي هام وبارز، واجهه النظم الشمولية الاستبدادية العربية بعنفٍ كبير. لكن في هذا السيق يمكننا أن نلاحظ في هذا الحراك الجماهيري غياب شبه تام لأدوار المجتمع المدني ومهامه الاجتماعية والسياسية بل شهدت الجماهير سلبية المجتمع المدني إزاء التغيرات والتبدلات الحاصلة في بعض الأحيان، إذا استثنينا الظروف التي مرَّت بها تونس،وفاعلية الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان له دور كبير وبارز. وهو ما يتطلب إعادة التفكير في مجتمعنا المدني العربي وماهيته ودوره الذي تم اختزاله في منظمات عديدة غير حكومية ميزتها الرئيسية الجمود والاستكانة خارج إطار السياسة وعدم الاهتمام للعملية السياسية الجارية بخاصة في مثل تلك الظروف التي تعيشها البلاد.
إنّ حالة الحراك الساخنة التي عاشتها بعض بلداننا العربية دفعت العديد من المفكرين لأن يؤكدوا على أنّه طالما كان المجتمع المدني دون أن يخوض في المجال السياسي وخارج المعركة والحراك الدائر من الحرية والديمقراطية هو عملية وأد وإجهاض .وهذا دافع كبير لتبيان حالة التوجه إلى تحليل الظاهرة التي تحمل بعدين إثنين أساسيين : الأول هو حالة النشأة المشوهة للمجتمع المدني في ظل الدولة العربية الحديثة والمعاصرة وتسخيره بقوة كأداة من أدواتها الفاعلة. والبعد الثاني يتطلب إعادة النظر في مجريات السياسات العربية ومراجعة المواقف العربية من المجتمع المدني ومقاصده وأهدافه ومهامه والتي اتسمت بطابع نقدي وجدلي، أسهمت بقوة بقصد أو بغير قصد، في الوقوف مع الدولة العربية ودعمها للمجتمع المدني كحالة خاصة ، لها منهجها الخاص بها كونها تتخذ موقفاً محايداً إزاء كل ما هو سياسي ويخدم جموع المواطنين وليس فئة محدّدة . ولتجاوز هذه الحالة الانفصامية لما يعيشها حالة المجتمع المدني العربي، لا بد من عملية تفكير عقلاني ونقدي جاد في المفهوم والمدلول والماهية وفي تاريخيته وسياقات نشأته وتطوره وتمفصلاته السياسية والاجتماعية من أجل فهم آلية علاقة المجتمع المدني بالدولة والجماعة والمجتمع ، وميوله التي أوصلته إلى هذه اللحظة الحاسمة التي تم استخدام المجتمع المدني لوصف حيز كبير خارج إطار الدولة وقوانينها الناظمة .
لقد تمت المقاربة والمقاربة بين فلسفة العقد الاجتماعي وما يتوافق معها من المجتمع المدني للدولة لمجتمع له أبعاد سياسية. ففي المنظور الفلسفي نجد أنّ العقد الاجتماعي في سياق الفلسفة الأخلاقية والسياسية هو نموذج لتبلور حالة ما في عصر التنوير وهو نظرية هامة، تم الاهتمام بها ضمن شرعية سلطة الدولة على المواطنين. هذه النظرية تنادي العقد الاجتماعي بالتحديد بأن بعض المواطنين يقبلون بشكلٍ ضمني أو صريح أن يتخلوا عن بعض حرياتهم الشخصية ويخضعوا لسلطة الدولة أو الحاكم أو لقرار الأغلبية الساحقة مقابل حماية بقية حقوقهم التي يحتاجونها. ومن ثم فإنَّ العلاقة بين الحقوق الشرعية والطبيعية هي في العادة مبحث هام له خصوصيته من مباحث نظرية العقد الاجتماعي. وقد أخذ المصطلح اسمه من الكتاب الهام للكاتب والأديب والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ( العقد الاجتماعي) الذي يعتبر من أهم كتَّاب عصر التنوير الذي ناقش فيه هذا المفهوم.
بالعودة لتراث فلسفة العقد الاجتماعي باتجاهيها الدولي مع الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (5 نيسان 1588 – 4 كانون الأوّل 1679) م, في بعض الكتب القديمة توماس هوبر من ملمزبيري, و الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإنكليزي جون لوك وهو ليبرالي ديمقراطي، يتبين أن المجتمع المدني لم يكن منفصلا عن الدولة أبداً ، أوأن يكون منفصلاً عن المجتمع السياسي القائم، فهو تعبير عن حالة نقلة نوعية من مجتمع طبيعي بلا دولة إلى مجتمع مواطنين للدولة ومن داخلها، على اختلاف وتناقض بينهما في تصور طبيعة ذلك الاجتماع في حالة الطبيعة العامة ، حيث يعتبره الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز مثالاً لحالة حرب الكل ضد الكل دون هوادة، بينما يعتبره المفكر السياسي الإنكليزي جون لوك مثالاً لمجتمع مدني حر، قائم بذاته لكنَّه حالة خاصة لا يمكن أن تستمر. لقد ساهم الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل، الذي يعتبر أهم مؤسسي المثالية الألمانية، والفيلسوف وعالم الاقتصاد السياسي والمؤرخ والمنظّر السياسي الألماني كارل هاينريش ماركس لأول مرة، بحصر المفهوم في تحديدات وأطر اجتماعية واقتصادية خاصة بهما. فعند جورج فيلهلم فريدريش هيغل سيصبح المجتمع المدني تعبيراً عن لحظة السَّلْب بما تحمله من اختلاف وتناقض للمصالح الخاصة والعامة، فالمجتمع المدني عند جورج هيغل هو مجتمع المواطنين المنقسم على نفسه، ويعتبر علاقاته النموذج المثالي لصورته ونظام السوق، ولذلك لا يُعتبر المجتمع المدني عند جورج فيلهلم فريدريش هيغل غايةً في حد ذاتها، وإنما هو توطئة وتمهيد لفترةٍ تمر بها الدولة التي تتضمن مكاسبه وتتجاوز أخلاقياته ومثالبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى