عبور الأجناس الأدبية
د. نادية هناوي | ناقدة وأكاديمية عراقية
لأن الآداب والفنون والعلوم تتطور وتتداخل، ما عاد بالإمكان غض النظر عن فاعلية التجنيس من ناحية رسوخ صفته كجنس أدبي أو بقائه متموضعًا في إطار النوع. والكتابة المبدعة هي التي تتحرر من دون أن تنفلت من قالب ذي مبتدأ وختام، لتظل خاضعة لنظام تواصلي ثابت ومغلق مما سماه ياكبسون( الأدبية) التي تجعل الأدب متحققاً كشكل جديد من أشكال الكتابة والكلام. وحضور الأدبية هو شرط الأدب، أمّا غيابها فيعني غياب الحدود بين لغة الفن الجمالية ولغة الحياة الواقعية الرتيبة والمعتادة، التي بغيابها يطمس كل تمايز بينهما.
ولقد تعدت النظرية الأدبية الانغلاق في رؤاها، ولم يعد الأدب بلا تاريخ أو بلا أنظمة أو تعدد أو حقيقة أو انتهاء، وربما هو بلا معقولية ما دام يمتلك المقبولية، لا سيما حين يُساء فهم (المعقولية) فينظر لها على أنها مجرد انعتاق من القيود والقوانين أو كنتيجة لما هو غير سببي أي غير منطقي.
وما دام التطور التاريخي في الأشكال أمر حاصل، يصح القول إن لا طفرات في الأدب أعني لا ابتداع لنوع أدبي ما، إن لم يكن هناك مخاض تاريخي عاشه المبدع مع مجموعة مبدعين فأنتجوه أدبا، غير أن تفسير ظهور النوع الإبداعي وتفرعه واندماجه أعمق من أن نقارنه عضوياً بالأحياء، لأن لكل حي قابلية على العيش زمنًا ثم الذواء الذي نهايته التلاشي والانقضاء، بينما النوع الإبداعي يتعدى ذلك إلى أن يكون قابلا للاندماج والتجسد، سواء بالحلول في غيره أو بالتبدل والعودة إلى أصوله. وهي بالطبع مزايا لا يستطيعها غير الأدب، بل هي خوارق بالنسبة للقانون الاحيائي.
وإذا كانت نظرية الأجناس تعتد بالشمولية في توكيد أحقية نوع كتابي بالتجنيس، فإن نظرية العبور لا تعتد بها، لأنها لا تركن إلى الكم ولا تعترف بالتعدد بعيدا عن التاريخ الذي ينبغي أن يقطعه ذلك النوع كي يتأهل للمطالبة بالتجنيس، وفي الوقت نفسه لا تقر بالتاريخ وحده من دون التفرد الكمي في الإبداع الذي به يتحول النوع الإبداعي إلى أن يكون جنسًا لوحده، وهو ما استطاعت فعله القصة القصيرة بجدارة.
وما بين الاختيار والاصطلاح مرحلة من الزمن هي بمثابة اختمار تاريخي داخل حاضنة مجتمع ما، لينضج منتسبا إليها كوليد شرعي، لكنه وليد ناضج من الجذور، ما دام قد امتلك موجبات الاصطلاح التي تسمح له بالعبور. وحقيق بكل اختمار إبداعي يريد أن يكون ناضجاً كجنس له مبرراته داخل نطاق الشعر أو السرد أن يكون متميزا وذلك بانعدام وجود قسيم إبداعي له يشابهه ويضاهيه. ومسألة اللاقسيم في الإبداع هي التي تستوجب التقنين في قوالب تجنيسية، تقطع الطريق على مثل هذا الأمر من المشابهة أن يحصل، ومع ذلك يظل الأدب محضنا للتوليد والتجديد بعيدًا عن النظرة الانغلاقية.
وهذا ما يجعل القوالب ذاتها قابلة للهضم والانشطار والاندماج مع المحافظة على اجناسيتها الأصلية، لا أن يكون مؤديًا إلى اثنين لا ثالث لهما هما الشعر والنثر، بل تظل في كل عملية شطرٍ، عملياتٌ من الابتكار الكتابي والابتداع الشكلي والاجتراح النوعي داخل الأجناس المؤصِلة في انتاجيتها للكيفية المستمرة أنواعا وصيغا وأنماطا.
ومما هو مؤكد أنّ نظرية الأجناس كانت قد سارت باتجاه عقلاني من الإبتكار إلى الإختمار، ومن الإستقلال إلى الاندماج ومن التنويع إلى التجنيس، وبهذا فسحت الطريق لنظريات جديدة تريد إعادة تقنين الأجناس وتحديد الأنواع، تقنينًا لا طارئية فيه ولا اعتباطية، وإنما هو قصدية معرفية تمخضت على اثر نزاع نظري كان قد طال جنس الرواية متعلقا بطرائق تكوينها وترابط مبانيها شكلًا ومضمونًا، باحثا في نشأتها نمطًا، مدققا تبلورها جنسا عابراً.
ومثل ذلك يقال مع قصيدة النثر التي استطاعت أن تثبت قدرتها على العبور جامعة فنيا الشعر بالسرد وصاهرة حدود النثر في حدود الشعر، جاعلة قالبها محافظا على استقلاله وارتكازه كجنس شعري عابر للاجناس لتكون بذلك جنسا مستقلا وقائما بذاته ممتلكة بجدارة مؤهلات العبور.
ولعل لقصيدة النثر أنواعا شعرية وأشكالا وصيغا ستنضوي فيها مستقبلا أيضا، ونحن اليوم إذ نتحدث عن قصيدة ومضة وقصيدة هايكو وقصيدة قصيرة وقصيدة بصرية وقصيدة مؤنثة وقصيدة درامية وقصيدة منفى وقصيدة حوارية، فإنها كلها قابلة لأن تكون منضوية في جنس واحد مستقل هو قصيدة النثر بوصفها جنسا شعريا، شأنها شأن القصيدة التقليدية العمودية والتفعيلة التي هي أجناس مستقلة تضم بين حدودها حدود أنواع شعرية أخرى وبأشكال وصيغ شتى.
لكن هل يحصل في بعض الأحيان أن تظهر أنواع إبداعية قابلة لأن تنضوي في جنسين عابرين للأجناس مثل الرواية وقصيدة النثر ؟
إن من ميزات الأدب أنه دائم التجدد والتنوع فلا يظهر نوع إلا ويباغته ظهور نوع جديد وهكذا هو الإبداع دائما يبحث عن الجديد والمستجد، لكن ذلك شيء، ومحاولة قولبة هذا التنوع وتحييد هذا التجدد شيء آخر. فالأول مرهون بالعملية الإبداعية نفسها والثاني مرهون بالعملية النقدية. وما يُقر به إبداعيا هو غير ما يُعتد به نقديا.
ويظل المبتدع الجديد مجرد شكل أدبي إلى أن يثبت قدرته على تجاوز الشكلية إلى القولبة. أما أن تشترك هذه القولبة بكل حدودها مع قالب آخر، فذلك ما يفنّد مصداقية أحد القالبين أو كليهما. لأن أهمَّ شرط في القولبة الاستقلال، ومن ثم يغدو تساؤلنا الآنف غير عملي البتة. وخير مثال على ما تقدم الحوارية أو الحواريات التي نظّرتْ لها نقديًا ومثلتْها إبداعيًا الفرنسية ناتالي ساروت، وتأثر بها كتّاب غربيون وعرب.
ومبدئيا تعد الحوارية شكلا روائيا يأخذ عن المسرحية عنصر الحوار ويبني عليه دراميا الفعل السردي، وهو ما تفعله القصيدة التقليدية أيضا التي بإمكانها أن تبني على الحوار شكل مهجنا بالتداخل الاجناسي هو القصيدة الممسرحة. فإلى إي جنس تنتمي الحوارية، أم أن الحوارية جنس مستقل لا ينتمي لأي منهما ؟
الجواب أنّ ما تنماز به الحوارية من تجسيد تخييلي للواقع النصي يظل في حدود القالب الاجناسي للرواية، كما أن سعته التمثيلية وتنوعه الدراماتيكي يمنعانه من أن يكون منضويا في القالب الشعري لقصيدة النثر.
وقيام الكاتب بدور الناقد يترك بالتأكيد أثرا مهما في الترويج لما يؤسس له من أجناس أو التدشين لما هو غير مشرعن أو مقبول في العرف الأدبي من أنواع وأنماط..
ولا يحسم التنظير النقدي الخلاف حول إشكالية ثنائية كتابية ما لم تحدد مزايا التذوتن أو التفرد بموضوعية ووعي عاليين، وهو ما فعله ادجار الن بو حين أصدر كتيبا نقديا وضع به حجر الأساس لاجناسية القصة القصيرة. ولولا هذا التنظير وتلك الممارسة المداوِمة باتقان على النوع لظلت الإشكالية قائمة إزاء تجنيس القصة القصيرة.
وما كان لمساهمات النقد الشكلاني ومن بعده النقد البنيوي وما تلاهما من نقود وتنظيرات ما بعد بنيوية، لتلغي ما كان ادجار الن بو قد أسس له، لولا أنها أضافت مزيدا من التنظير الذي يعضد إبداعيا جنس القصة القصيرة ويكون متهيئا لما قد يطرأ عليها بين الفينة والأخرى من أنواع وأشكال جديدة.
وقد لا يكون غريبا القول إن تدشين نظرية في الأدب يتوقف على انجاز مسائل التجنيس ومتعلقاتها من مفاهيم وأوصاف وإجراءات وكل ما يدخل تحتها وحولها وفيها من مواضعات وآليات وحيثيات. ولقد خاض النقد الغربي جدلا طويلا حول الجنس أو النوع الأدبي الذي مصطلحه واحد في الانجليزية وهو Genre ، ووجد أنْ لا خلاف في أنهما واحد في عالم الأدب يحتكران أنماط الكتابة فيه. أما إذا شابه شكل شكلًا أو ماثل نوع نوعًا، فعند ذاك يبقى الجنس جنسًا بينما ينضوي النوع المشابه أو الشكل الشبيه مهجنا مذابا في الجنس الأصل.
وإذ تريد نظرية التداخل الاجناسي من الأدب تهجين نوع وجنس أو بين نوع ونوع، بقصد أن يتقارب معه، مشابهاً له في الامكانيات أو مشاركا إياه في السمات، ككتابة متعددة تتجاوز الحدود والدوال، متسمة باللا نهائية، فيها النص متسم بإعادة الانتاج والتناص والانفتاح والحوار والتعالق..الخ… فإن ما تريده نظرية ( العبور بين الاجناس) التي اجترحناها ـ في بكتابنا الموسوم( نحو نظرية عابرة للاجناس) الصادر مطلع هذا العام في عمان بالاردن ـ هو توكيد أن هذا الانفتاح ما بين الحدود النصية لا بد أن تكون له قوالب بها (يحافظ أو لا يحافظ) الجنس على حدوده منصهرا ومذابا في جنس هو أقدر منه، ليكون الاول معبورا والثاني عابرا عليه ضاما إياه في قالبه، وبهذا تنتفي دعوتان وتصبح واهيتين وهما: دعوى موت الاجناس واستيلادها ودعوى اللاتجنيس.
وقد دللنا عليه في كتابنا أعلاه بوضوح نظري وتمثيل اجرائي على أن في اللاحدود (التي جاءت بها نظرية التداخل) حدودا بها يثبت الجنس رسوخه وقد تقنن قالبه صاهرا جنسا او نوعا كان قد تعالق معه فعبر هو عليه.فالجنس العابر هو الصاهر والمذيب لأنواع دونه أو أجناس أضعف منه لا تقدر على مقاومة جاذبيته التي بها تتوكد حديته ورسوخه واختلافيته فيتقنن كجنس عابر.