كيف كنا نأكل البطيخ؟
توفيق أبو شومر
اخترتُ هذا اليومَ قصة مُعلَّبةً في ذاكرتي عن طريقة أكل البطيخ، كما كنتُ أفعلُ، في خمسينيات وستينيات القرن السالف.
أمي كانت هي التي تشتري لنا البطيخ من السوق، وتحمله في سلةٍ موضوعة فوق كعكةٍ من القماش فوق رأسها، مسافة أكثر من كيلومتر، وما إن تدخل البيت حتى نُهرع لرؤية محتوياتها.
إذا كانت هناك بطيخةٌ كبيرة، أو بطيختان، فإنني كنت أشعر باللذة لوجبة الغداء، فأنا أظلُّ مسكونا بطعم البطيخ الحلو، بشرط أن تُصاحبَه الخطوات التالية:
أن أتولى شخصيا شقح البطيخة بالسكين المنزلي، ذي النصل الخشبي غير الموضب، والذي صنعه والدي من فرع شجرة برتقال، كنتُ أحتكرُ عملية الشقح، لا، لأنني بارعٌ فيها، بقدر ما أطمحُ إلى تذوق القطعة الدائرية الأولى، وهي عنقها، ولأكتشف أنني كنتُ مُصيبا حين حكمتُ على نضجها، هل هي ناضجة حلوة؟ أم وردية اللون؟ أم قرعاء، بيضاء؟
بعضُ أنواع البطيخ، مخلوقٌ، وعلى غلافه الخارجي دليل إلهيُ، يُبيِّنُ طريقة شقحه، مرسومة بخطوط واضحة، كنتُ أجد لذةَ، وأنا أتابعُ حركة السكين، وفق الكاتلوغ الإلهي للبطيخة.
أما إذا كانتْ البطيخة بلا كاتلوغ خارجي، بأن تكون كلها خضراء لدرجة السواد، كنتُ أصنع لها خطوطا تمهيدية بالسكين، وحتى لا يغضب والدي، المحتجِّ دائما على كِبر الشقحات، لأن عدد الشقحات لا يتناسب مع عدد أفراد الأسرة التسعة، فقد كنتُ أتجنب نقده، وأقوم بترقيق الشقحات!
وما إن أنتهي من الشقح، حتى تبقى أهم قطعة في البطيخة، وهي قلبها، وهو الأكثر حلاوة، وهذا أيضا يحتاج إلى تقسيم آخر قبل أن أُبعد السكين من الصينية الحديدية للمائدة البطيخية، كنتُ أقوم بخطة سريعة فأحجز نصيبي من الُّلب.
في الغالب كان الأبوان يتركان اللب الأحمر الناضج لنا، نحن الأبناء، وكان الاثنان يتركان مائدة البطيخ في وقتٍ مبكِّر، كنا نظنّ أنهما شبعا من البطيخة، أدركت خطئي عندما كبرتُ، وصار لي أبناء، فالآباءُ يُضحون بلذائذهم، ويسعدون عندما يرون أبناءهم يلتذون، حتى وإن كانوا يشتهون!
ليس من المبالغةِ القولُ؛ إن وليمة البطيخ، هي الوحيدة، التي اعتدنا أن نراجعها مرةً أخرى، ففي المرة الأولى يحتاج الآكل إلى السرعة الفائقة، حتى يظفر بنصيبٍ كبير، لأن كل جيلنا لم يكن مؤمنا بالتقسيم، بدءا من تقسيم فلسطين، وحتى تقسيم البطيخة، لذا فإننا كنا نمارس طقس مراجعة ما جرى أكله من الشقحات، فهناك من الإخوة الصغار، مَن يتركون كثيرا مِن اللباب، وهذا يخضع أيضا لمراجعة الكبار، كما أن لكل بطيخة عصيرا يبقي في قعر الصينية، كنا أيضا نتسابق على شربه!
لا تنتهي قصة البطيخة عند هذا السرد، فللقصة تتمة أخرى، عندما تستلم الأم بقايا البذور، والقشر.
للأمِّ أُسَرٌ أخرى، تخدمُ أسرتَنا، ولها نصيبُ في كرنفال البطيخ.
تخضع البذور أولا، لإعادة التدوير، تنتقي الأم البذورَ الناضجة، وتعزل البذور البيضاء، غير الناضجة، ثم تُغسل الناضجةُ بماء صافٍ، وتوضع في الشمس للتجفيف، تمهيدا لقليها وإضافة الملح لها، لتستخدم للتسلية، وبخاصة في سهرات المساء!
كنتُ أنا أُخبئُ كمية من البذورِ المقلية، استعداد لأمسية سينما وكالة الغوث الدولية، التي كانتُ تعرض لنا أفلاما مصرية شهرية في الهواء الطلق، كنتُ أعتقد أن مشاهدة الأفلام السينمائية، بدون قزقزة البذور، يحرمني من لذة متابعة أحداث الفيلم، فالقزقزة أثناء المشاهدة، تفريغٌ ضروري لإحداث الانسجام.
أما عن القشر، فهو غذاءُ رئيس لسرب البط، الذي يسكن دارنا، ويعيش فيها، قبل ولادة آخر أخوين لي، وأيضا لعائلة الدجاجة التي أفقستْ بيضها منذ أكثر من شهرين، وخرجتْ صيصانها العشرون، ذواتُ الألوان الزاهية الجميلة، فقد كنت أرى والدتي، وهي تقوم بخرط قشر البطيخ في مستويين، المستوى الأول، حيث القطعة الكبيرة للبط، أما الخرط الثاني الصغير فلصيصان دجاجتنا الأليفة، وكذلك بذور البطيخ غير الناضج، سعادة أمي بالتذاذنا بأكل البطيخ، تشبه سعادتها بالتذاذ البط والدجاج.
لم تنتهِ قصة أكل البطيخ، فقد كنتُ مغرما بأكل البطيخ أيضا، ولكن في مكانٍ آخر، غير البيت، في سوق يوم الثلاثاء، فقد اعتاد بائع البطيخ أن يحضر للسوق بعربة الكارو المملوءة بالبطيخ، ثم يفرد بطيخه على الرمل، في انتظار الشارين، بائعُ البطيخ هذا ليس كالبائعين الآخرين، فقد كان بائعو البطيخ كثيرين، غير أن البدوي، سالم، له بسطة بطيخ مميزة، بطيخُه، لا يشبه بطيخ الآخرين، بل كان بطيخا مشوَّها في صورته الخارجية، صغيرا، أو ملفوحا بالشمس، أو ليس مستويا، أو ينزُّ من جرحٍ في غلافه الخارجي، ولا يجذب الشارين، فاخترع سالم طريقة أخرى لبيع محصول بطيخه غير المعتاد، بطريقة أخرى، فأفسح مكانا مُظلَّلا ببطانية خاكي مربوطة بالكارو ومرفوعة بفرع من شجرة لوز جافٍ، خلف بسطته في السوق، لتصبح مطعما لتناول البطيخ، فقد اهتدى أن بطيخة لن يُباع، وما في أحشاء البطيخ من بذور أغلى بكثير من البطيخ نفسه، فربحه من البذور، أكبر من ربحه من بيع البطيخ.
كنتُ أنا وصديقٍي محمود، زبونا دائما عند سالم، وكان لي سعرٌ خاصٌ، لأنني حفظتُ شروط سالم، بطيخة كاملة كبيرة مشوهة من الخارج، فكان يبيعها لي بنصف قرش، أي (تعريفة)، ومن شروط سالم؛
أن تؤكل البطيخة في المكان، ولا يجوز أخذها للبيت، أو أكلها في مكانٍ آخر، وأن يقوم الآكل، أنا، بعد الانتهاء من أكل لُبِّها بفرز بذورها، وفرده في الشمس مع البذور الأخرى المفرودة فوق التراب، فالبذور تصبح من حق البائع، وليس من حق الشاري، ثم أُنفِّذ آخر الشروط، وهي وضع القشور في كيس من الخيش، يحمله سالم معه غذاءً لقطيع أغنامه!
كنتُ في مراتٍ عديدة، عندما أفرد بذور بطيختي في الشمس، آخذ بعض البذور الناشفة السابقة على وجبتي، أضعها في يدي وأشرع في قزقزتها عندما أغادر المكان، بلا تحميص، أو تمليح، ولم أكن أستأذن سالم، ولكنني كنتُ أعلم أنه يعرف ذلك.
بطيخ الحاج سالم، ما يزال يسكنني حتى اليوم، لا للذته فقط، بل لأننا كنا أفضل الأصدقاء لبيئتنا، فبعد انتهاء السوق لا نجد أثرا للنفايات، فقد كان جيلنا جيلا بلا نفايات، يُعيدُ تدويرَ كلِّ شيء!