الزكاة باب نزول البركات
إبراهيم محمد الهمداني | اليمن
اقترنت فريضة الزكاة بفريضة الصلاة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، بما يدل على طبيعة التلازم الشرطي بينهما، مكانةً وحضوراً وأهميةً، وما لهاتين الفريضتين من دور كبير في تهذيب النفوس وتزكيتها، وتطهير القلوب وتخليصها من النفاق والرياء والعجب، وغيرها من الأمراض النفسية، التي قد تصيب الإنسان المسلم في صميم تدينه، دون أن يشعر.
حين أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، عطف أمره بإيتاء الزكاة، دلالة على واحدية درجة الوجوب، وواحدية مقتضيات الأداء، وضرورة تحقق الإخلاص والإحسان عند القيام بهما، لتظهر بعد ذلك الصورة الحقيقية لمعنى العبودية لله تعالى وحده، المتجلية من خلال مواضعات ودلالات الربط العلائقي بين الصلاة بوصفها طقساً تعبدياً روحياً وسلوكياً، يصل العبد بربه مباسرة، والزكاة بوصفها طقساً تعبدياً نفسياً وسلوكياً، يصل العبد بربه، من خلال الإحسان إلى عباد الله من بني البشر، وإذا كانت الصلاة هي التعبير بلسان الثناء والحمد لله، فإن الزكاة هي التجسيد الحقيقي للامتنان والشكر لله، وبين ارتقاء الروح في مقامات البهاء، وتربية النفس وتهذيبها، باستشعار لذة العطاء، ترسم علاقة الارتباط التلازمي بين الصلاة والزكاة، نماذج من الكمال والسمو الإنساني، بما يحمله من صور الطهارة الحسية والمعنوية المتحققة، وإذا كانت الصلاة هي مصداق حمد الله والثناء عليه، فإن الزكاة تعد تجسيد شكره، وأداء حقه عملاً بعد إخلاص، كما في قوله تعالى:- “اعملوا آل داوود شكراً وقليل من عبادي الشكور” . صدق الله العلي العظيم.
رغم تعدد معاني الزكاة، إلا أنها تكاد في مجملها تلتقي في معنيين رئيسيين، هما:- الطهارة والبركة، وكلاهما مرتبط بصاحبه، تربطهما علاقة سببية، أو ارتباط السبب بالنتيجة والعكس، فتطهير المال بإخراج زكاته، ينتج عنه بركة وزيادة ونماء في ذلك المال، وتزكية النفس بتطهيرها وتخليصها من الشح وحب المال والدنيا وحب السلطان، ينتج عنه الفوز والفلاح المؤكد في قوله تعالى:- “قد أفلح من زكاها” ، بأعمال البر والإحسان، والمسارعة إلى طلب رضى الواحد الديان، وتنفيذ أوامره بالتسليم والتصديق والإذعان، موقنين بأن “في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” ، وهنا تحصل البركة في العمر، وصلاح الذرية، والتوفيق إلى الطاعات، والنجاة من مصارع السوء، وكل شر ومكروه.
إن الحضور التلازمي لفريضتي الصلاة والزكاة في النص القرآني، قد جعلهما بمثابة الفريضة الواحدة، ويمكن القول إن الدلالات السياقية، تكاد تجمع على ضرورة تطابق المنجز الإدراكي مع المنجز الفعلي، والاعتقاد مع السلوك، وأن يكون العمل هو ترجمان الإيمان، ومصداق حصوله، فمن أحنى جبهته لله تعالى، إيماناً بربوبيته وألوهيته ووحدانيته، وتسليما لمشيئته وخضوعا لسلطانه، وجب عليه تصديق ذلك، وترجمته فعليا في جميع عباداته ومعاملاته، وتحقيق معنى عبوديته لله وحده لا شريك له، وتجسيد حقيقة استخلافه، بأداء حق مستخلفه، والإحسان إلى خلقه.
إن إيتاء الزكاة انطلاقا من الإيمان المطلق بكونها حق الله تعالى، الذي افترضه لمستحقيه من عباده، يعود بالكثير من الفوائد والآثار الإيجابية على الفرد والمجتمع، ومنها على سبيل المثال:-
١- إنها تبلغ بصاحبها درجة كمال الإيمان واليقين.
٢- إنها تهذب الروح وتزكي النفس، وتخلصها من حب الدنيا، الذي هو رأس كل خطيئة.
٣- تزيد المال بركةً ونماءً، وتُقبل بها الأعمال، وتصلح بأدائها الذرية.
٤- تُشعر الإنسان بلذة العطاء، وترسخ في نفسه حقيقة الاستخلاف، وأن المال مال الله.
٥- يستحق المزكي بعد تحقق طهارته وتزكيته، صلاة النبي – صلى الله عليه وعلى اله وسلم – عليه، كما أخبر بذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى:- ” خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم” . صدق الله العلي العظيم.
٦- تعزز معاني التكافل والتراحم والإحسان بين أبناء المجتمع المسلم، وكما تتطهر نفس المزكي من حب المال والشح والطمع، تتطهر – أيضا – نفس المستحق من أمراض الحسد، ومرارة الشعور بالحرمان، والحقد على الأغنياء.
٧- بأدائها يستحق المجتمع نيل رحمة الله، ونزول بركاته وخيراته من السماوات والأرض، كما أن منعها يحجب رحمة الله وبركاته، ويحبس القطر في السماء، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم .
٨- تعد الزكاة شرطاً لاستحقاق نصر الله وتمكينه في الأرض، حيث يقول جل وعلا:- ” الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ” ، وبها تتحقق الأخوة الإيمانية بين المسلمين.
٩- جعلها الله تعالى من أبرز صفات عباده المؤمنين، في كمال إيمانهم، وهم يعمرون مساجد الله، في قوله تعالى:- ” إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَـمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ” .
وهي أيضا من صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس الأعلى، الذين عرَّفهم الله بقوله:- “والذين هم للزكاة فاعلون” ، صدق الله العلي العظيم.
١٠- إن أداء الزكاة على الوجه الذي يرضي الله تعالى، يعود على المجتمع بالزكاء النفسي، والارتقاء الروحي، وتعزيز روابط الأخوة الإيمانية، وتماسك البنيان المجتمعي، بما من شأنه تحقيق التطور والازدهار والنماء، والتقدم في السياق الحضاري الإنساني.
ذلك وغيره من الآثار الإيجابية، هو ما لمسناه مؤخرا في ظل المسيرة القرآنية المباركة، خاصة بعد إنشاء الهيئة العامة للزكاة، التي وجه بإنشائها السيد القائد حفظه الله ورعاه، وكلفها بأعادة النظر في أوعية الزكاة ومصارفها، وتفعيلها كما يجب أن تكون، بوصفها حقاً لله، يؤخذ من الأغنياء ويُعطى للفقراء، وقد تجلت بوادر النجاح، وعظمة الإنجاز ، خلال فترة قصيرة من بداية الإنشاء، وبلغت جهود القائمين عليها والعاملين فيها، جميع أبناء المجتمع، حيث شعر الفقير بالأمان والرضى، وشعر الغني بالاطمئنان والثقة، حين رأى أن الزكاة لم تعد – كالسابق – غرامةً تجبى لغير مستحقيها، وقد أصبحت فريضة دينية حقيقية، بما للفريضة من معنى، يؤديها الغني بطيب نفس، ليصل خيرها ونفعها إلى مستحقيها الفعليين، وبذلك استحق هذا المجتمع نيل رحمة الله وبركاته، وهو ما شهدناه مؤخرا من الأمطار الغزيرة، التي منَّ الله بها على بلادنا، والخيرات الوفيرة من المحاصيل الزراعية وغيرها، بعد أن كاد الجدب والمحل يقضي على الناس والحيوانات، وبهذا يمكن القول إن أداء الزكاة كما أوجب الله، وعلى الوجه الذي يرضيه، شرط أساس لقبول الأعمال، واستحقاق النصر والتمكين على الأعداء، وسبب لدوام النعم، واتصال الخيرات وزيادة البركات.