مخيم في الظلام
نور الهدى شعبان | سوريا
تقاطعَتْ أشلاءُ المدينةِ حينَ التهمها ضجيجُ المعركةِ ، واغتالَ الغبارُ حلمَ الحجارةِ بعدما طحنتها عجلاتُ الحربِ ومزَّقَتْ سكينتها، فباتَتْ خاويةً من الحياةِ تعجُّ بصدى الضحكاتِ وذاكرةِ النُّسوةِ عن غدٍ أجملَ بعدما وقعنَ خلسةً في أحضانِ التّشرّدِ والجوعِ و الحرمانِ في خيمٍ تصفعها رياحُ الغربةِ وحرارةُ الشمسِ .
خيّمِ اتّكأت على حدودِ وطنٍ يشتهي من الماضي بعض حنينٍ لدفءٍ وأمانٍ ، لم تسقطْ من عزيمةِ قاطنيها أملَ النّجاةِ من الكارثةٍ والعودةِ إلى المدينةِ ليصنعو من حطامها لوناً تتجدّدُ فيه الحياة ،
لم يمنعْ هذا الحلمَ الملطّخَ بالألمِ والفواجعِ سكانَ المخيّمِ من الاستمرارِ ، واصلو معركةَ البقاءِ وأسّسو من بناءٍ قديمٍ غرفتين كمدرسةٍ لتعليمِ الأطفالٍ تمنحهم حقَّ النّجاةِ من الجهلِ رغمَ المعاناةِ و قلّةِ الحيلةِ بأقلِّ الإمكانيّاتِ، كانَ أبو شاهر آذنُ المدرسةِ النّاهضةِ من تحتَ ركامِ الألمِ المشهورِ برقَّتِهِ واندفاعِهِ نحوَ الأطفالِ ومساعدتهم نموذجاً خالياً من الإنسانيّةِ كثعلبٍ ماكرٍ يرتدي زيَّ الخيرِ، حتّى شاءَتْ الأقدارُ لتكشفَ حقيقتَهُ الجشعةَ القابعةَ خلفَ شخصِهِ المثاليِّ ..
في أيامٍ أربعٍ مضَتْ على المخيَّمِ دونَ وصولِ المساعداتِ وقلَّةِ الطَّعامِ وندرَتِهِ كان أبو شاهر يحتفظُ بغرفةٍ خاصةٍ بالمساعداتِ الغذائيّةِ المقدَّمةِ لأهالي المخيّمِ ، ويخفيها عنهم ليقومَ بالمتاجرةِ بها خلسةً لكسبِ المالِ.
في أحدِ الأيّامِ بينما يتراكضُ الأطفالُ إلى المدرسةِ وناي الطّفلةُ الرّقيقةُ تجلسُ مستندةً إلى حائطِ المدرسةِ يذهبُ إليها صديقُها أمجد .
أمجد: صديقتي ناي تعالي نلعب .
ناي: حسناً ماذا سنلعب ..
أمجد: أنت أختبئي وأنا أبحثُ عنك ما رأيك؟
ناي : أجل أحبُّ لعبةَ الغميضة كنْتُ ألعبها مع أصدقائي في الحيّ سابقاً ..
أمجد : إذاً هي تعالي أنا أعدُّ للعشرةِ وأنتِ اختبئي
ناي : هيَّ
ذاكَ الشَّغفُ الطُّفوليُّ لم تمنعْهُ قسوةُ الحياةِ من شغبِه وضحكاتِه ، ذهبَتْ ناي واختبأَتْ خلفَ المدرسةِ لم تكنْ تعلمُ أيُّ مكرٍ عظيمٍ ينتظرُها وعائلتُها من لعبةٍ طفوليّةٍ بريئةٍ، وبينما أنهى أمجدُ العدّ بدأَ يبحثُ عنها فوجدها خلفَ جدارِ المدرسةِ وبدأَتْ قهقهاتهما الطّفوليّةُ تشقُّ أبوابَ الحزنِ وتناجي الفرحَ المترامي على حافّةِ الغربةِ والحرمانِ، والمفاجئةُ كانت عندما وجدا باباً خلفَ المدرسةِ لغرفةٍ مهجورةٍ، فضولهما الطّفوليُّ لم يمنعْهما من البحثِ والاكتشافِ، وجدا البابَ مغلقاً قليلاً يتوصّدَهُ الظَّلامُ و بعدَ اتفاقٍ بسيطٍ قرَّرا اكتشافَ المجهولِ، لم يكونا على علمٍ بأنَّ معاناتَهم من قلّةِ الطّعامِ والحرمانِ تغطّيها خباثةُ إنسانٍ ماكرٍ يختزنُ حقَّهم بالحياةِ من طعامٍ ولباسٍ في هذا المكان، فكانت المفاجأةُ كبيرةً بذاك الكمِّ الكبيرِ من المساعداتِ المخزَّنةِ في هذه الغرفةِ .
فجأةً تشهجُ خلفَهما صرخةٌ هزَّتْ الرُّعبَ ببراءةِ روحيهما من الآذنٍ الّذي كان يكتسي زيَّ الودِّ والمحبَّةِ ليتحوَّلَ إلى وحشٍ مفترسٍ هائجٍ .
أبو شاهر: أيُّها الغبيّان ماذا تفعلانِ هنا اخرجا الآن إليّ .
أمجد و ناي بصوتٍ مرتجفٍ خائفٍ: لا شئ عمو أبو شاهر كنّا نلعبُ واختبأنا هنا
أبو شاهر : وهذا مكانُ اللّعبَ أيّها الغبيّان تعالا إليّ .
فتقدّما إليه بخطىً متردّدةً وخائفة
أبو شاهر : قولا لي ماذا رأيتما
أمجد : لم نرَ شيئاً المكانُ مظلمٌ
أبو شاهر : مظلمٌ إذاً أيُّها المغفَّل إن كرَّرتما الأمرَ سأعاقبكما أمامَ الجميعِ أتفهمان اذهبا من هنا بسرعةٍ .
هرعَ الطّفلانِ بعيداً وعلامات الخوفِ والاستغرابِ تعتري وجههما البريء.
ناي: أمجد ماذا بِهِ العمّ أبو شاهر ماذا فعلنا؟
امجد : لا أعلمْ إنَّها المرَّةُ الأولى الّتي أراهُ بها بهذا التَّوحُّشِ والغضبِ
ناي: ولكنْ لما يخفي كلَّ هذا الطَّعامِ عن أهلِ المخيَّمِ ويتركنا نعاني الحرمانَ والجوعَ .
أمجد: لا أعلمْ صدِّقيني ولكنِّي أصبحْتُ أخشى منه لقد هدَّدنا هيّا بنا نذهبُ ..
أمضَتْ ناي الّليلَ وهي تهذي وتعاني الحرارةَ المرتفعةَ والمرض شدَّةَ خوفِها من أبو شاهر .
تلكَ الأحلامُ البريئةُ بأقلِّها في الحياةِ كانت موصدةً بجشعِ الإنسانِ رغمَ مرارةَ الحالِ على الجميعِ، أنيابُ الغربةِ تلكَ تلسعُ الأمنيّاتِ البسيطةِ بحقِّ النّجاةِ وعقاربُ السّاعةِ لم تكنْ ترأفُ بالأشلاءِ المتراميةِ بينما تحتسي غبارَ المعركةِ و رمادِ الدّمارِ الّذي لحقَ بالأرضِ كانَ أكثرُ رأفةً من رمادِ الدّمارِ الّذي لحقَ بالنُّفوسِ