المتخيل السردي والمقاربة التوثيقية في رواية جذور القصب للكاتب رياض المولى
د. سمير الخليل
يظل الفن الروائي مشدوداً إلى التاريخ يقترب منه ويتماهى معه ويتشاكل مع بنيته لإنتاج بنية مشتركة لتوثيق الوقائع والأحداث ممزوجة بالرؤى السردية وصولاً إلى المعنى الكلّي الذي تتمركز حوله الرواية برمّتها، ومن البداهة القول بأنَّ المسافة بين الرؤية الفنية والحقيقة التاريخية تضيق وتتسع نسبة وتناسباً بحسب توجهات وقدرات الكاتب وتمكّنه من إيجاد مشتركات ومثابات تعيد انتاج هذه المشتركات وتضفي عليها مسحة جمالية تجمع بين التوثيق والمتعة والمتخيّل السردي، ووفق هذا التوصيف يجب التفريق بين طرق ووسائل المقاربة السرديّة للتأريخ فهناك الرواية التاريخية وهناك التاريخ في الرواية وهناك المعالجة الفنيّة للأحداث والمراحل، فالتاريخ هو نوع من السرد، بحسب تعبير (بول ريكور)، ويذهب الروائي المكسيكي (كارلوس فوينتس) أبعد من هذا التصوّر حين يقول بأنَّ المؤرخين الحقيقيين هم الروائيون على اعتبار أن التاريخ يصوّر ما هو جزئي بينما يجسّد الفن الروائي ما هو كلي.
والسرد حين يتصدّى ويتعالق مع التاريخ فإنّه يمزج بين الذاتي والموضوعي و(الرسمي) والإنساني والفردي والمجتمعي والآني (اليومياتي) وحركة الحقبة التاريخية، إلى جانب أنَّ من أبرز ملامح هذا النوع من الكتابة أنها توثّق التاريخ عبر المنظور الإنساني بعيداً عن حرفيّة التدوين المحض وإنّها تتعمق في دواخل الشخصيّات من دون التوصيف الخارجي بمعنى آخر وأكثر دقة أنها تكتب عن (روح) الوقائع وليس عن جانبها الإحصائي، ووفق هذه التصّورات تكتسب الكتابة المتشاكلة مع سيرورة الفضاء التاريخي أهميتها وجماليتها ومأثرتها على مستوى الشكل الفنّي والمحتوى الإنساني.
انثالت هذه المقدّمة الاستهلالية حين شرعنا بتناول رواية (جذور القصب) للكاتب رياض المولى الصادرة عن (دار قناديل- بغداد 2022) التي تستند إلى معالجة سرديّة، تضمّنت التصدّي والتوثيق لأحداث ووقائع تاريخية امتدّت لأكثر من نصف قرن من تاريخ العراق المعاصر أو أكثر من ذلك، ويمكن تحديد الفضاء التاريخي الذي تتحرك فيه بدءاً من الحرب العالمية الأولى ومخلفاتها وحتّى مرحلة الاحتلال الأميركي وحلفائه للعراق في نيسان عام 2003، وما شهده من تحوّلات دراماتيكية وافرازات مقيتة وفي كل ميادين وأبعاد الحياة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والسايكولوجيّة لكن ما يميز هذا الأثر أنَّ الكاتب لم يكن مدوناً تاريخياً أو مؤرشفاً محضاً بل زاوج بين المتخيل السردي ووقائع الحقب المتتالية والأحداث المتواترة، وسعى منذ البدء إلى خلق خطّين متوازيين، خط الأحداث والشخصيّات والخط التاريخي متمثّلاً بالوقفات والمنعطفات المؤثرة وأصبح التاريخ خلفية لمسار الأحداث وحركة الشخصيّات وهي تتصارع فيما بينها، وهناك صراع آخر هو الصراع التاريخي، ومن المنطق أن تتصارع أو تتأثر هذه الشخصيّات بما يترشح عن التاريخ من تحوّلات وسمات، ويمكن تحليل بنية العنوان التي تشير إلى النسق التاريخي بمفردة (جذور) أي أنَّ هناك (اركيولوجيا) سردية لمتابعة الأحداث والتوغّل في التاريخ وسرده مقروناً بسيرة الشخصيّات مما يضفي على الأثر جمالية التناول والصدق الموضوعي وإعادة اكتشاف ما هو واقعي وتاريخي وفق المنظور الإنساني وربط كلّ ذلك بثنائية الحاضر والماضي وتعالق الدلالة بينهما ومما يعمّق من معاني هذا التشابك هو أنَّ الإنسان يمثّل فيها الركيزة أو العلامة المركزية فالأحداث بصيغتها الفنيّة والتاريخية ترصد حركة الإنسان وصراعاته وتحوّلاته ومكابداته ومسرّاته وتفاعلاته عبر الخط الزمني.
ومن خصائص هذه المعالجة أو المقاربة أنها ترتكز على إقامة بنية سردية قوامها المكان والزمان، وتحوّلاتهما، فهما الركنان اللّذان يشيد الكاتب عليهما بناءه الفني، وإذا كانت مفردة (الجذور) تشير إلى البعد التاريخي فإنَّ مفردة (القصب) تشير إلى دلالة أخرى هي القوة والرقة في الوقت نفسه وهي إشارة إلى الإنسان بوصفه المرتكز المركزي الذي تتمحور حوله أحداث الرواية، ولقد تجلّت وظيفة العنوان ودلالاته انطلاقاً من أنه نص مواز وعتبة كاشفة وإضاءة عمودية وأفقيّة لمجمل العمل أو الأثر الإبداعي، فالعنوان شفرة أولية أو ثريّا النص كما يصفه محمود عبد الوهاب ويمكن تحليل العتبة الأخرى ذات الدلالة الكاشفة حين كتب الروائي عتبته المهمة، “لم نستخدم الوطن إلاّ للموت أو الهجرة منه” (الرواية: 5). وهذه المقولة للشاعر السوري لقمان ديركي، وحين تتناول الرواية الإنسان فإنّها لابدّ أن تتعمّق في مفهوم الوطن وشكله وتحوّلاته وتاريخه، بوصفه الحاضنة المكانية – رمزاً وواقعاً- التي يعيش فيها ويرتبط بالمصير المشترك، والنهايات والانعطافات بالإنسان والوطن ويصبح الإنسان تاريخاً للوطن، ويصبح كذلك الوطن تاريخاً للإنسان.
تشير رواية (جذور القصب) في فضاء سردي تتابعي لرصد حياة ثلاثة أجيال متعاقبة لأسرة (فرهود العواد) ثم تتابع حياة ابناءه وأحفاده والمزج بين ما عاشوه وبين الحقب، والفواصل التاريخية فكل جيل كان بمواجهة نمط من التحولات التي أثرت في حياته ومصيره وطريقة تواصله، وتبدأ الرواية من ذروة النهاية لتتوغل في السير باتجاه البداية أي أنّها تبدأ من الحاضر متمثلاً بسقوط النظام عام 2003، وتنحدر بسرد (استرجاعي) باتّجاه الماضي وتحدّد البداية في عنوان الفصل الأول والإشارة إلى الزمان والمكان: “لواء العمارة، قلعة صالح، قرية ماهود 1929… كان ينتظرها عند باب بستان الشيخ للهروب من القرية إلى مكان آخر وقد أحكم لثام كوفيته حاملاً بيمينه عصا غليظة يتعكز عليها تارة ويلوح بها طوراً، يأخذ المكان جيئة وذهاباً وصوت نباح الكلاب، التي أحاطت بسور البستان الطيني يمزّق هدوء الليل مبدّداً صمت الترقّب والانتظار، وبين الحين والآخر يأتيه صوت بعيد آتٍ من بيت الشيخ يعلو ويخفت” (الرواية: 19).
بهذا المشهد الاستهلالي المركز تبدأ رواية الأحداث الماضية التي تنطلق من حدث معاصر هو استذكار (أحمد غازي فرهود العواد) وهو يعيش في الغربة هروباً من استبداد وعنف النظام السابق، ولحظة سقوط النظام يجد نفسه في حيرة السؤال، هل سيبقى في مدينة الضباب والمنفى.. أم يعود إلى وطنه الأم وأسرته؟ وحين يغرق في هذا الموقف أو تداعياته، سيتذكر مع صديقه المعارض اللّيبرالي (فارس كريم) واقعة جدّه (فرهود) وقد هرب مع عشيقته (فدعة) التي يتبناها الشيخ (ماهود) ويتهيأ لليلة زفافها من ابنه (نصيف)، لكن الجد (فرهود) يقرر الهرب بها ويتحمّل كل مخاطر هذه المغامرة في زمن يتحكم فيه الشيوخ بمقدرات البشر ومصائرهم، على الرغم من أن (فرهود) يعدّ غريباً لأنه وافد إلى قرية الشيخ (ماهود) من أحراش الأهوار، ويقرر (أحمد غازي) حفيد (فرهود) أن يعود إلى الوطن للانتقام من كل العذاب والمكابدة والمطاردة، ومحاكم الأمن العامّة واتهامه بالعمل في أحد التنظيمات المناوئة آنذاك، ويقول لصديقه (فارس كريم): “أنت تعيب تصرفي بالانتقام وعدم نسيان الماضي، ويجب عليّ أن أتنازل وأعفو عمّن ظلمني، حسناً هل تعلم يا صديقي عندما أخبرت (أماندا) أن جدي فرهود العواد قتل جنديّاً انكليزياً في بستان الشيخ ماهو بعد أن داهمته دوريّة وهو في طريقه للهروب مع عشيقته فدعة، أؤكد لك أنّها تركت قصّة عشق جدّي لجدتي فدعة، بتفاصيلها الأسطورية وامتعضت كثيراً لمقتل الجندي، الحادثة ربّما مضى عليها أكثر من سبعين عاماً لكنّها تعصبت لابن جلدتها واستنكرت موته على يد عراقي بائس، فالعرق يحن لبعضه البعض بالرغم من البعد الزمني بين الاثنين” (الرواية: 15).
وهذا الاستذكار يؤشر دلالة في معناه ويشير إلى عمق التمركز الاستعاري والنظرة التمييزية للإنسان والتاريخ وهي إشارة إلى نرجسية ومركزيّة الثقافة الغربية بصيغتها -الكولونيالية- وأنّهم يميزون بين (إنسانهم) المتميّز الاستثنائي وإنسان الشرق الذي لا يعدو أن يكون مجرد كائن مهمش أو رقم إحصائي، والبنية الدائرية للسرد الروائي والبداية من النهاية باتّجاه البداية يؤشر استثماراً ذكياً للدخول إلى التاريخ وتحوّلاته من نقطة التأزم ومن ثم إجراء هذه الرحلة الاستكشافية لجذور الواقع التاريخي.. وتأزماته وتداعياته.. وهي على المستوى الفني رؤية ارتكزت على تقنية (الاسترجاع الخارجي) البعيد الذي يبدو بعيداً عن إطار المحكي (المعاصر) وهي بالتعبير السينمائي عملية (فلاش- باك) أو العودة إلى الماضي من نقطة متمركزة ومأزومة في الحاضر، ومن ثم تبدأ صياغة سردية للأحداث المتداخلة زمنياً وصولاً إلى (النهاية- البداية) وعلى الرغم من هذه المعالجة على مستوى التقنية، والشكل الفني فإنّها لا تخلو من دلالة على مستوى الفكرة والمعنى فكأنَّ الرواية توحي لنا بمجمل هذه التقنية وتداعياتها بأنَّ التاريخ كفكرة قائمة على أنّه يعيد نفسه في كلّ مرة وأن توافرت الظروف تنتج النتائج نفسها والتاريخ بحد ذاته وفق هذا هو بنية دائرية قائمة على تكرار شكل وماهية الصراع بين القيم الثنائية المتناقضة والمتصارعة (القوة والضعف والبراءة والظلم، العنف والسلام، الضحية والجلاد، الشعب والاستعمار، العاطفة والعقل ، الماضي والحاضر… الخ)، وهذه القيم ينتظم وينصهر فيها الفهم والمنظور الفردي والجمعي على حدّ سواء.
عبر هذه الفرضيّات يشيد الكاتب بناء روايته عبر تتابع زمني يمتدّ على مدى سبعين عاماً ويتسم الإيقاع السردي بالمراوحة أو المزاوجة بين تسريع الأحداث أو الإبطاء بها، ونجده يشير صراحة إلى المنعطفات كموت الملك (فيصل) وتسلّم ابنه المملكة، وقد سمّي فرهود ابنه غازي تيمّناً بالملك ويذكر ويصف أحداث يوم 14 تموز 1958، وصوت عبد السلام عارف وهو يعلن الثورة على الملكية وتجمهر الناس في الشوارع والمقاهي وأعمال الشغب والسحل التي شهدتها بغداد في تلك الصبيحة، وذلك الحدث التاريخي المفصلي الذي نقل البلاد من حال إلى حال ومن مرحلة إلى مرحلة أخرى تختلف تماماً عن الماضي وهو تحوّل (دراماتيكي) أثّر في الشخصيّات وتحديداً أسرة (فرهو العواد)، “في ذلك اليوم التاريخي من شهر تموز احتشد على كراسيها المعمولة من سعف النخيل وتخوتها المتضعضعة عشرات الأشخاص وهم يصيخون السمع لمذياع المقهى الكبير، والمعلق على جدار المقهى، والجميع يحدّقون في تفاصيله وأزراره وهو يبث بياناً هامّاً صادراً عن القيادة العامّة للقوات المسلحة وبصوتٍ بدا مألوفاً وربّما عرفه البعض وأنكره آخرون، إنه صوت عبد السلام عارف وهو يتلو بيان الثورة ضد من أسماهم الطغمة الفاسدة التي لعبت بمقدرات الشعب لفترة طويلة والتي جاء بها الاستعمار ونصبها على رقاب أبناء الوطن منهياً بذلك الحقبة الملكية ومعلناً بذات الوقت بدء حقبة جديدة تحمل شعار الجمهورية العراقية” (الرواية: 104-105).
فالزمن في الرواية انشطر إلى متّجهين زمن (سايكولوجي) وهو يرتبط بإحساس الشخصيّات ودواخلها، وزمن طبيعي (خارجي- فيزيائي)، وبضمنه الزمن المؤطر بالإشارات والإحالات التاريخية (كحركة مايس 1941)، والحرب العالمية.. (وثورة 14 تموز 1958)، و(الحرب العراقية الإيرانية)، وقبلها أحداث داخليّة مثل ظاهرة (أبو طبر 1973..) وغيرها من الأحداث والمواقف والوقائع، وهذا الملمح هو الإشارة إلى البنية المشتركة بين تاريخ أسرة (فرهود العواد) بأجيالها الثلاثة وبين الخلفية التاريخية والحقب المتواترة، أما على مستوى البنية المكانية فإنّها اتسمت بالنسق الدائري أيضاً، فالأحداث أو الاستهلال الروائي بدأ في لندن وانتهى فيها حين قرر (أحمد غازي) العودة إلى المنفى كنوع من الرفض لما حدث من إفرازات وفوضى الاحتلال، وكانت الأمكنة المركزية في الرواية قد شملت (لواء العمارة) أو (محافظة ميسان)، والبصرة التي هاجر إليها (فرهود) مع عشيقته (فدعة) ومن ثم الهجرة إلى بغداد ولندن ونلاحظ أن الأمكنة لم تكن مستقرة كما هي الأحداث أو هي إشارة إلى عدم استقرار الواقع وتداعياته.
ونجد هذا (المونولوج) أو التداعي الداخلي لشخصية (أحمد)، “بقيت صاحياً طول الليل وأنا اقرأ وأتمعّن اقرأ حوادث وكوارث وحروب وقتل ودماء وبكاء وضحك وفرح وحزن وحرية وظلام ونور وجهل.. أجيال وأجيال.. حقب زمنيّة طويلة ذات صفحات مصطبغة بالأحمر والأسود وقليل من الأبيض.. فالخير شحيح والموت والشر كثير، والأشدّ ظلاماً هو المستقبل والأحلك سواداً واحمراراً هي صفحات المستقبل .. موت وهم” (الرواية: 300)، نلاحظ أنَّ الحفيد (أحمد) لم يستقر كما لم يستقر أبوه (غازي)، وهو قلق وعدم استقرار وهجرة ومعاناة تناسلها من الجد (فرهود العواد) وعدائه مع الشيخ (ماهود) وهجرته إلى البصرة وقتله للجندي الإنكليزي، ونجد حياة الحفيد أحمد وقد استأثر بفصول الرواية، واقترنت حياته بالأحداث والحروب والحصار والهجرة إلى الشمال ومن ثم الهجرة إلى لندن.
وتبدو سيرة (أحمد) هي سيرة مثلت المساحة المهمة في الرواية من خلال هذه الشخصية التي تفتح وعيها بعد انتقال الأسرة من (صرائف) وعشوائية (الشاكرية) والانتقال إلى مدينة (الثورة) عقب توزيع (عبد الكريم قاسم) الأراضي على الفقراء الساكنين بجانب الكرخ في عشوائيات بائسة وهم أغلبهم قادمون من الجنوب، ومنفيون إلى بغداد بعد ظلم الشيوخ وسيادة الاستغلال في أرياف الجنوب.
ونجد المعاناة الطبقية متجسدة في شخصية (أحمد) وهو يتسلل ويتجوّل في أحياء الأثرياء كنوع من التنفيس عما يعانيه في بيوت المدن الفقيرة، والوجود الشاحب، ويتعرّف على شخصية (بلقيس) ويرتبط بها بنوع من الاهتمام العاطفي.. ويكتشف أنّها ابنة ضابط الأمن الكبير (عبد الكريم فرحان) الذي يزج بأحمد في سجن الأمن لاتهامه بالانتماء إلى حزب (الدعوة) يتعرف عليه ويستذكره، “لم أنس بلقيس عبد الكريم الفرحان فاسمها بقي محفوظاً بين طيات ذاكرتي لوقت طويل، وجهها وحضورها لم يغيبا عن مخيلتي رغم الابتعاد وعدم الذهاب إلى هناك رغم ترددي بين حين وآخر إلى حيّ الأثرياء” (الرواية: 155).
ونتيجة تفتح الوعي عند شخصية (أحمد) بسبب معاناته بالاعتقال لأنه تعرّف بصديقه القادم من النجف وزجّه في معتقل الأمن العامة. حدث نوع من التمرد والانسلاخ فاتّجه إلى الحالة النقيض وبدأ يرتاد النوادي الليلية ويتعرّف على فتاة جمّيلة من الشمال ويعشقها بشكل غريب ويصطدم مرّة أخرى بوجود ضابط الأمن الكبير ووالد المرأة التي اقترب منها كثيراً (بلقيس)، وهو يرتاد أيضاً النوادي الليلية، وفي لحظة غريبة ومتمردة تمَّ الزواج من (هيام) وقرّر الرحيل معها إلى الشمال، ومن هنا تبدأ رحلة المنفى والابتعاد عن الوطن حتى استقرّ معها في مدينة (لندن) ثم يحدث تغيير النظام في العراق أو الاحتلال في نيسان 2003، وتعرّفه على أحد المعارضين واسمه (عزّام الآغا) الذي يعمل في المعارضة العراقية للنظام في (لندن)، وهنا تتعمق علاقته بشخصية مهمة هي (أماندا) وهي أرملة خمسينية، إذ يتعرّف على ابنتها (روز)، وهي باحثة في التاريخ ويعلمها بوجود مخطوطة حصل عليها جدّه (فرهود العواد) إبّان أحداث (1941)، وهي تعود لشخصيّة يهودية اسمه (زلخانسيم) الذي عمل عند الجد وفي النهاية يعطيها هذه المخطوطة للإفادة منها في دراستها، ويرصد الكاتب بل يوثّق الكثير من كواليس ووقائع ظروف العراقيين في الخارج وهم ينتظرون ما تسفر عنه أحداث الاحتلال والتغيير، وما حدث هناك من نظام سياسي باسم القوى والأحزاب المناهضة للنظام المستبد ويوثق جانباً من مؤتمر لندن، “كان مؤتمراً كبيراً خرجنا من خلاله ببيان ختامي ضمّ توصيات وقرارات مهمّة أكدت على دور المعارضة في عملية التغيير، ورسم خارطة العراق السياسيّة وشكل الحكم بعد الإطاحة بالنظام، وتطرّق إلى حفظ حقوق الأقليات واحترام القوميات ومعالجة القضية الكردية وغيرها من النقاط الحساسة والمهمة، “كنت اطمئن بين حين وآخر على أهلي الذين باتوا ينتظرون منيّ الرسائل لكني عمدت إلى استخدام الهاتف لسهولة الاتصال على الرغم من كلفة مكالماته” (الرواية: 264).
ينزلق الكاتب إلى تفصيلات تسجيلية كثيرة أضعفت جرف الرواية الفني، وقد استثمر الكاتب تقنية الحوار في الكشف عن دواخل الشخصيّات وتقديمها والكشف ضمناً عن الكثير من المواقف والأحداث، فالحوار هو فعالية اتصاليّة تتسم بتعدد الوظائف البلاغية والإبلاغية، ويمثل شكلاً من أشكال التعبير والكشف ودفع حبكة العمل إلى الأمام ورسم ملامح وهوية الشخصيّات ونوازعها، وشعورها وتفاعلها مع المواقف الخارجية ويمكن معاينة وتأمّل حوار الزوجة مع (أحمد) وهما في (لندن) وفي ذروة الصراع (السايكولوجي) بين البقاء أو العودة إلى الوطن، وهي أزمة عاشها البطل كسائر الذين انتابهم هذا الموقف، وفي مفترق لخطة تتطلب الحسم ” وقد لاحظت هيام ذلك منذ زمن لكنها لم تتدخل احتراماً لمشاعري وحنيني لبلدي، لكنها جلست بقربي ذات يوم، قالت بصوت هادئ:
– “هل ما زلت متعلقاً بذلك الوطن ؟!
– ماذا ؟؟ .. كيف تقولين هذا ..؟!
– عليك أن تعي أن وطنك الحقيقي هو (بريطانيا) هذا البلد الذي احتضنك وصرف عليك أموالاً كثيرة ووفر لك سكناً وجعلك محترماً، .. أخبرني ما الذي أعطاه لك العراق غير الذل والظلم؟ ثم قذف بك على أعتاب جبهات القتال وجعلك حطباً لحرب عبثية ولولا لطف الله لكنت الآن مدفوناً تحت التراب” (الرواية: 222)، وقد انشطر اهتمامه بين (هيام) و(اماندا) وظلتا الشاغل لاهتمامه وتوزعه بينهما، فلقد وجد فسحة عند كل منهما ليس لها وجود عند الأخرى وكان يتواصل بمختلف أشكال التواصل مع (اماندا) ونمط هذه العلاقة بين الرجل الشرقي والمرأة الغربية تتكرر في الرواية العربية وتعبر عن إسقاط سايكولوجي للانتصار والتفوق كإحساس لمواجهة الهيمنة الغربية وإثبات وجود الرجل الشرقي إزاء تحديات الغرب ولو على المستوى الشخصي، إنه إحساس باطني لاثبات الهوية ومحاولة النيل من الغرب على المستوى السايكولوجي، والرمزي نجد مثل هذه الطقوس في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح ونجدها في رواية توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) وغيرها الكثير ، “رجعت إلى أماندا مساء بعد فراق دام بضعة أيام احتضنتني بقوة ودفنت وجهها بصدري وتمتمت بصوت خفيف أنها تشعر باشتياق شديد تجاهي، ورغبة جامحة” (الرواية: 250). ومن ثم تتوطد علاقته بابنتها روز وقد اهتمت كثيراً بموضوعة المخطوطة كونها تعمل باحثة في التاريخ ولاسيما تاريخ الشرق وهي إشارة إلى اهتمام الغرب بالتاريخ والتفاصيل والحفريات التي تمثل جانباً مهماً من المعرفة والاكتشاف وهو الذي يمنحهم القدرة على التحكم ودراسة الظواهر بشكل علمي ولعل من أهم معطيات هذا العمل الروائي وتعالقه مع أحداث التاريخ والظواهر والتحولات كشفه الكثير عن المسكوت عنه وتوثيق جوانب السلب والإيجاب وفي كل مرحلة تصدى لها وكشف عن دواخلها ودوافعها ومظاهرها، بدءاً من أوضاع الريف والظلم الذي كان يكابده الفلاحون تحت وطأة المهيمنة الطبقية التي كان الشيوخ يمارسونها ضدهم ومن ثم كشف الواقع الاقتصادي والاجتماعي والمظاهر المتناقضة في المدن بين الصراعات الطبقية وبين ممارسات السلطة على مختلف أشكالها وصورها وتوجهاتها من سلطة الملكية والتظاهرات والانتفاضات والفقر والبطالة والأمراض وحتى حدوث (ثورة) 14 تموز وما شهدته من تأزم وصراع جديد على السلطة وقد أفردت الرواية فصولاً تناولت بها أهم مراحل تاريخ العراق منذ السبعينيات وحتى انهيار النظام وبداية مرحلة الاحتلال والتوقف عند الكثير من المظاهر وأشكال الصراع والمعاناة، ومن ثم مرحلة الحروب العبثية والحصار البغيض الذي كان موتاً حقيقياً واقتصادياً وكل هذه الظواهر أدت إلى الغزو والاحتلال، والأدب العراقي -ولاسيما الروائي على وجه التحديد- يحتاج إلى مثل هذا التوثيق والتحليل والإشارات والكشف عن تحولات الإنسان العراقي تبعاً للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وبذلك تتحول الرواية إلى جانب كونها عملاً أدبياً فيه متعة التعبير والتأمل فإنها أيضاً تمثل بؤرة لكشف المسكوت عنه في تاريخ المجتمع العراقي. ويعبر الكاتب على سبيل المثال عن الواقع الهش ومساحات الغموض والفوضى والتشتت وانعدام الرؤية لمرحلة ما بعد السقوط أو (انهيار النظام) والكيفية التي تعاملت معها الأحزاب والقوى الصاعدة وعلاقتها بالمسار الذي رسمه المحتلون.. تلك هي اللحظة التاريخية الملتبسة والمهمة والتي تصدت لها الرواية بذكاء وصدق وعفوية “كانت نقطتنا الأخيرة هي المنطقة الخضراء وكان مجمع القصور الرئاسية هو المقر الرئيس لقوات التحالف فضلاً عن بعض أحزاب المعارضة، اتفقت القيادات الأمريكية حكمنا معهم طويلاً حول الوضع بشكل عام والخطوات القادمة الأمر الغريب أنهم لم تكن لديهم خطة للمستقبل القريب، لم تكن لهم رؤية واضحة لقادم الأيام، بل كل شيء كان يعج بفوضى كبيرة وهم الآن منشغلون بإسكات جيوب (المقاومة) والمسلمين الذين أصبحوا مصدر إزعاج وخطر على قواتهم العسكرية، اتخذنا من أحد القصور موقعاً لإدارة شؤوننا الداخلية ووضع برنامج سريع يعيد الوضع إلى السيطرة، حيث كان الانفلات على أوجه، كل شيء كان مستباحاً وبشكل مخيف… انهيار مؤسسات الدولة خلّف وراءه كماً هائلاً من الاضطراب”. (الرواية: 270).
مما يجعل رواية (جذور القصب) مرجعاً مهماً ووثيقة تاريخية حفلت بالكثير من حوادث ووقائع التاريخ وعلى مدى سبعين عاماً ومأثرة هذا العمل هو القدرة على التدفق والسيطرة على السرد وفي هذا الفضاء الشاسع إلى جانب المساحة التعبيرية والسردية لتجسيد حركة وصراع وتحولات شخصيات الرواية وصولاً إلى المعنى الإنساني الكلي الذي تمركزت حوله وعبرت عنه بصدق وعفوية عميقة ودالة.
استاذنا الكبير..
د. سمير الخليل…
لم يرسم الراوي املا لوطن مستباح…
لقد ظل يردد تذمره على مهد (وطن) قلق واستسلامه لحضن (المهجر) غريب..
مع ملاحظة ان الحضن كان سببا في قلق المهد وضياعه دوما.
دام قلمكم سيالا بالأروع دوما.