البعد الوظيفي والدلالي للمكان في كتاب (إمضاءات) لشوقي عبد الأمير

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يأخذ المكان بُعده الوظيفي,والدلالي في كتاب (إمضاءات) لشوقي عبد الأمير حيث يشكل المكان في النص صورة تعكس وعي المؤلف للعالم، ولذلك نلحظ في سيرته حضوراً خاصاً للمكان,ولاسيما في مرحلة الطفولة، كان المكان يومئذٍ يعني من ناحية، حيز المعيشة الآنية، حيز الأكل, والشرب, والنوم، حيز علاقة حبل السّرة بين الولد ووالديه في غرفة صغيرة، ويعني من ناحية أخرى ذلك الفضاء الفسيح الهائل الذي كانت الغرفة الصغيرة، في تجربته الشخصية تقوم فيه وكأنها ليست أكثر من كهف في منسرح جبلي، حيث يقوم التضاد لذيذاً ومحفزاً بين الداخل,والخارج، بين المكان كرقعةٍ محدودة، والمكان كفضاء لا يحدّ إلاّ بأفق قصي جباله زرقاء متلألئة، وبسماء قصية غيومها بيضاء متناثرة .


أما البعد الدلالي الذي يؤديه المكان في كتاب (إمضاءات)، يظهر بجلاء, ووضوح في مشاهد وصف المكان التي تشكل وثائق تعكس واقع طبقة اجتماعية ينتمي السارد إليها، ووصف الدار يدل بوضوح على هذه الطبقة الاجتماعية الفقيرة,‏ وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن وصف المكان لا ينطوي على دور جمالي تزييني أخاذ، وبذلك تمتزج وظائف المكان لتؤدي أكثر من دور بآن .
ونلحظ ذلك عند شوقي عبد الأمير , فنراه يقول: تلك بعض من ملامح علاقة خاصة بي مع البحر,أنا العراقي الذي لم يعرف البحر طيلة صباه ,شأن الملايين من العراقيين الذين لم يروا البحر وهم يتصورونه مثل الغيب أو المجهول,العدم أو الموت, تضاريس أخرى في جغرافية الما وراء,ملمح من مشاهد القيامة, تجد صوره في كتب الشعر والجغرافية ثم جاء التلفزيون والسينما لتنقل بعض الصور الحية التي تظل على الجدران أو تبقى معلقة في الذاكرة كصورة شخص متوفى, ولهذا احتفظت الذاكرة الجماعية للعراقيين عنه ربما بصور كالمومياءات أو الاستعارات كيف يمكن تصور انطباعات شعب لم يلتق والبحر؟ أحيانا اشعر أنني مختنق مثل شعب لم يلتق ببحر.. فأتلاطم ببعضي واربد مثل ضفة تغرق, أن يتحول البحر بأهواله وسحره من وجود طبيعي إلى حالة تصورية خيالية أمر يصعب تحليله بسهولة والنظر إليه من زاوية واحدة خاصة في هذه النظرة السريعة ,ولكنني أتحدث عن انطباعات شخصية فقد عشت هذه الحالة طيلة عشرين عاما كنت خلالها أحيانا احلم بالبحر وأتصوره كما احلم بجسد امرأة انظر إلى الفرات فأراه يمتد, يتسع مع الصباحات ليصل عيني بالسماء وقدمي بالملا نهاية فأخاف كطفل يلعب بالمجاهيل, ولعل ولع شوقي بالأمكنة هو السبب، وأول ما نلحظه ذلك الحرص الشديد منه على تسمية الأمكنة، مما يشير بالتالي إلى حرصه على إضفاء بعد واقعي للمكان الذي تدور فيه الأحداث على أقل تقدير، وأول الأماكن التي تصادفنا في النص التالي هو حديثه، عن القاهرة في وصف دقيق جدا و رائع تحس وكان لديه كاميرا للحديث عن القاهرة، يعطينا معلومات إضافية عنها، وكأنه يفعل ذلك بقصد الدلالة على أنها مكان إجباري يكتفي منه بالهرب من الخارج، ولذلك فهو لا يشعر فيها إلا بالعزلة التامة عن الناس،ويسرد الحديث عن القاهرة وكأنها حبيبتة وتتحول هذه العزلة عنده إلى سجن يؤرقه كل تفصيل فيها, فنراه يقول لن تدخل القاهرة ليلا ولن تودعها فجرا هكذا تعلمت فالدخول إليها ليلا, هو الدخول إلى بهائها بغموضه ونوره الخفي,هو ملامسة جسدها يستريح إلى النيل, هو الاحتفال مع مصابيحها بالعيون الشاردة والأغاني التي تسبح كالبجعات, هو الالتقاء بأطيافها عابرة التاريخ, حافية إلا من مجدها وتفردها, هو الاحتماء بأبراجها ومآذنها المرصعة بالصلوات والتواشيح, هو التبخر مع دخانها المطيب من أفران الخبز وحارات العشب المصون , هو التوحد لها حيث تعرف وبكل هواها أن تتوحد لك, هو الاحتمال الذي يظل أبدا في مرآتك انك في مكان المكان وانك تمضي, تعود إليها ولن تخرج منها , لن تدخل القاهرة ليلا, المصابيح اذرع علوية تمتد لترفع جلباب الليل عن مفاتن الجسد المدنية فهي تعرى مع كل زخة نور وهي تنام بجوار نيلها وقد نبتت فيه الأشرعة والشهقات وعندما تفلت من يد النيل في حضرة هذا الليل المختوم بالإسرار منذ فجر الخليقة فانك تدخل إلى أسرة من الوجود والتجليات حيث المدينة لا تنام لترقد بل تحتفي بالعتمة لتلتقي وعتمات الروح التي لا تضاء إلا بالدموع والمواويل والذكر , أما القاهرة، هذه المدينة التي أحبها شوقي إلى حد يأسه منها، لكنه لا يتقبل فكرة هجرها، فإنها تجسد المكان كبطل، بحاناتها، ودور الدعارة فيها، ومقاهيها، وشوارعها التي تحولت بيتاً لقطاع الطرق واللصوص, وغيرهم من الشاذين والمهمشين والفقراء، وخسرت مجدها لأسباب كثيرة، منها السياسي ومنها الاجتماعي، والحياة ما زالت تدب في المدينة، لكن مجدها الذهبي ضاع، غادرتها ثروتها الذهبية لكن روحها باقية, لا أحد يتساءل كيف يمكن إنقاذها أسطورتها أقوى من تاريخها، امتيازها أنها لم تفقد كل روحها على الرغم من صدام الحضارات فيها, أسطروها بدون مهارة فميعوا ما تبقى لها من صلابة عراقتها, وبفعل هذا التركيز على المكان في كتاب(إمضاءات).

أتيح لشوقي إمكانية رسم لوحة تعكس عمق الفاجعة الاجتماعية التي تخفيها مدينة القاهرة في علاقات طبقة المهمشين فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين المكان والبيئة التي يعيشون فيها، وأتيح له أيضاً أن يشكل شخصيات نصه الممزقة ,والمتداعية نفسياً, وأخلاقياً بدلالة هذا المكان،وبهذا يسهم المكان بدلالاته في الكشف عن أبعاد الشخصيات، مثلما تكشف الشخصيات بدلالاتها بنية المكان ,وعلاقاته، فظهور الشخصيات ونمو الأحداث التي أسهمت فيها, هو ما ساعد على تشكيل البناء المكاني في النص , فنراه يقول: هناك حيث رأس الحسين على قامة المئذنة,رمح لتاريخ الجريمة المؤسسة لحضارة من الوجد والمراثي والجنوح المستمر لنعي الحياة هناك في ظل هذا الرأس المقدس الشريف الذي حمل من كربلاء في سواد العراق يقيم النعي مواسمه لدحض البهجة الأولى في الالتقاء بالحياة وكيف نلهو ورأس الحسين معلق على رمحه في انتظار أن يجيء احد أحفاده مهديا يحمل بيرق الخلاص ..! ولكن لا أحد ينتظر هناك لأن الانتظار قدرة على صهر الزمن وتصنيع معدنه بشتى الابتكارات ولا أحد يقدر على ذلك لأن الجميع في الحسين يعيش في مصهر واحد ينتج آلاف العينات, أما على الصعيد الفكري فإن شوقي في كتابه (إمضاءات) يناور في أفق البلاغة, والفلسفة, والسياسة, والتاريخ في آن معاً، فهو لا يغادر المكان على مستوى الواقعة، جغرافياً، إلا من أجل أن يعود إليه رمزياً ليحتويه ,ويعلن انتماءه إليه، وعدم تخليه عنه، والإمساك به حتى الرمق الأخير وهذا الانتماء الاختياري لهذه الأمكنة,أمكنة الطفولة والشباب يقف في موقع النقيض من وجوده الفعلي, وفي مكان آخر، أقرب ما يكون إلى المنفى، الذي يصفه شوقي بأنه:أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة, ولهذا فإن كتابته عن موطنه الأول،بغداد, وبقية الأماكن التي عاصرت مراحل تكوين شخصيته القاهرة، بيروت, اليمن, الجزائر, عمان تمثل فيما نرى استبطاناً لوجدان ,وذاكرة, وفكر شوقي، وهي كما أسلفنا كتابة تخلق من تظهير المكان حالة ترميم لذات متشظية, وتؤدي وظيفة رمزية نفسية ,وفكرية من ناحية، كما تساهم من ناحية ثانية في تشكيل معززات واقعية حسية للبنية المفاهيمية الرمزية التي يتأسس عليها فكر, وعقل شوقي, فنراه يقول: من منصة المسرح الروماني الصخرية وأصوات أبطالها المنبثة في شقوق حجارة الهيكل,من الأهلة الحجرية الضاربة كالأطواق في مدراج الجمهور المكتظة بحضور متميز,من نسيج ليالي بغداد ,من كهوف علي بابا ومن نافورات وقناديل البرك والجنان التي يحرسها السجان حامل القنديل السحري من أغنيات مطرزة وآهات مكتوبة ,ومن زغردات مرتمية كالشالات أو كالشلالات ,من لهب النسيج المتدفق فوق الجسد ومن ومض الإيماءات المتناثر على أكتاف العارضات اللواتي كانت الفساتين ترتديهن لا العكس,ومن ليل قائظ لم تعرفه عمان لقرن تقريبا , كانت ساحرة النسيج واللون والتكوين تهرب ليلة سرقتها من حوريات دجلة ومن أسوار القصور العباسية ابتكارات بين اللون والجسد ,بين ليل يتشظى نجوما تذوب في ثنايا القماش, وامرأة تحتمي بفستان من لهاث فضي أو تتوارى خلف ملاءات وعباءات, نوافذ للروح تطل على مرايا الجسد , أو توصد بإقفال صيغت من حجر كريم لتحمي وكر الطائر الأنثوي المعشوق ,والمكان في نص شوقي يفرض نفسه بطلاً قبل أي بطل آخر، في سرد يعادل في قيمته قيمة الوثيقة التاريخية التي تدون تاريخ مجتمع ومكان، وما ذكر أسماء الأماكن الحقيقية إلا تقنية استخدمها شوقي لتوفير أكبر قدر ممكن من الإيهام الذي يجعل المتلقي يؤمن بحقيقية النص, وأحداثه,وشخوصه، وبالتالي مضاعفة طاقة التأثير به , إن أهمية دراسة المكان في كتاب (إمضاءات) تنبع من ضرورة الوصول إلى تحديد طبيعة الفضاء السردي فيها، لأن الفضاء أكثر شمولاً, واتساعاً من المكان، فهو أمكنة الكتاب كله، فضلا عن علاقته بالزمن ,والحوادث ومنظور الشخصيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى