المقترب النقدي للمكان في كتاب (يوم في بغداد) للشاعر شوقي عبد الأمير

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 ظلت عملية سرد الوقائع لا تبدأ إلا بعد تصوير الإطار الذي تتم فيه هذه الوقائع شائعة, ولزمن طويل في القصص التقليدي,أي وصف المكان,وتحديد موقعه,ووصف الزمان, وتحديده, والتجديد الذي عرفته الكتابة الروائية, وقد جعل منها كما يقول ريكاردو مغامرة الكتابة أكثر مما هي كتابة مغامرة – جعل أيضا من مغامرات الأشياء الموصوفة مغامرات وصف[1] لذا فان وصف الأمكنة, والأشخاص, والأشياء, لايقل أهمية عن سرد الأحداث والأفعال, وتختلف حاجة الكاتب,وهو يصف الخلفيات الخاصة لشخصياته, وأحداثه إذ قد يحتاج في بعض الأحيان إلى وصف خلفية موسعة, أو يركز في أحيان أخرى على جزئيات صغيرة, وهذا كله يستلزم معرفة الكاتب لبيئته التي يصفها حتى يحقق أهدافه من هذا الوصف في عمله فالإحساس بالمكان لدى الكاتب,وفي تعبيره عنه يفترض أن يجعل القارئ يحس بالانطباع, والنكهة, والأصوات والجو المألوف الخاص به, وان يستطيع مراقبة الشخصية في عملها, وفي حياتها وان يرى ما تراه الشخصية في عملها, وفي حياتها,وان يرى ما تراه الشخصية من وجهة نظرها, وان يحس ما تحس به تجاه هذا المكان,[2]والمكان يعني بدء تدوين التاريخ الإنساني,والمكان يعني الارتباط الجذري بفعل الكينونة لأداء الطقوس اليومية للعيش,للوجود,لفهم الحقائق الصغيرة,لبناء الروح للتراكيب المعقدة, والخفية لصياغة المشروع الإنساني,[3]ويعيش المكان العراقي واحدة من لحظات وجوده المؤثرة,لحظة امتدت عقودا من التراجع والاندحار, وهاهي تصعد إلى الذروة غير المأمولة للحدث,مدونة على مشهد الخراب الواسع كلمتها القاهرة,ساعية لتفكيك ما ينطوي عليه هذا المكان من علاقات إنسانية تشكلت عبره ,ووجدت ملاذها فيه,مثلما تشكل,بدوره,عبرها,ووجد مأواه فيها,ليغتني مع كل علاقة إنسانية جديدة تنشأ في ظلاله,ويتشرب بما لاينتهي من المعاني,والدلالات مسقطا عنه شبهة الحيادية,والجمود,[4]ولقد أدرك الإنسان منذ القدم الأهمية المتميزة للمكان,وعلاقته بوجوده,وكان لفكرة المكان أثر أساسي في الفكر الإنساني قديما,وحديثا,وتطورت هذه الفكرة مع  تطور الفكر البشري في تعامله مع العالم الخارجي المحيط به,[5]ويبدو أن المكان يأخذ حظه الأوفر في (يوم في بغداد), إذ نجد الشاعر شوقي عبد الأمير يتفقد أماكن عرفها في السابق, وهو يسرد لنا تفاصيل الأحزان, والموت وهي كثيرة , وغريبة , ورهيبة, إلا انه استطاع اختصار الكثير بهذا القول: ((بغداد ترد بالحب, والعشق, والوفاء على كل مفردات الدمار , والموت, والرعب, بغداد تواصل أمام مرآة الحقيقة ترميم وجهها الذي مزقته وحوش كاسرة وإرادات عدمية جاحدة للفن, والحياة, والإنسان, تدربوا على هذه المسرحية في الشارع, في نفس المكان, أعدوها , وأخرجوها بقدر ما تسمح به الحال فقد تحملوا تكاليفها, ونذروا كل ما يملكون لإنتاج هذا العمل أقاموا كتل الديكور الذي كان بالألوان , والأشكال, والمناظر , والمؤثرات الطبيعية, لم يحتاجوا إلى فانوس سحري أو ألوان أو حيل فنية كما هو معروف  اللون الأسود المتفحم والركام والأشلاء هي هي وكل ما تركته القنبلة وراءها ظل في أرضية المسرح))[6] . استطاع الشاعر شوقي عبد الأمير أن يعطينا صورة ناطقة عن بغداد

 ومن هنا يقترب كتابه من تلك النصوص التي تقرأ بتغيراته , وليس بوصفه , بتحولاته لا بثباته , بل بانهدامه لا برسوخه , ومن هنا أيضا لانجده يتحرك في هذا الكتاب بطريق مستقيم بين شارع السعدون , وشارع الرشيد , أو بين ساحة الميدان , وساحة الطيران , ولا بين شارع النهر , وشارع أبي نؤاس , أو بين صوبي الكرخ والرصافة , حركته داخل النص حركة انزياح , وتمدد دائري يشابه إلى حد بعيد جغرافيا العاصمة المدورة, ويضارع الزمن المتداخل , والمتدفق مثل نهرين يقتربان , ولا يلتقيان عند خاصرة بغداد [7], يتحرك في ثبات تمثال الرصافي , واختفاء تمثال السعدون بنسخته الأصلية , وعودته بأخرى مقلدة , وفي اختلاط أفق النخيل بالتماثيل والنصب , بين المكتبات والمقاهي, من مقام الحلاج أو ضريحه المفترض إلى مرقد موسى الكاظم, وبين الاعظمية  والكاظمية, وامتزاج المقابر بالمستشفيات, إذ تتحول مدينة الطب أهم معقل صحي في الشرق قبل عقود إلى مشرحة كبيرة لعلها الأكبر في العالم حاليا , ونحن نتفق مع الأستاذ محمد مظلوم فيما ذهب إليه بان نص الشاعر شوقي عبد الأمير متشظي المساحات بقدر تماسك بنائه , يقرأ المكان بعين المرثيات ,مرثيات خراب المدن التي هي جزء كلاسيكي في تاريخ الأدب الرافديني, بيد أن الخراب الحالي هو خراب عصري على الأقل من خلال تعبيراته في المشهد, المولدات الكهربائية بصوتها, ودخان عوادمها , الكراسي المتحركة في بلد المعاقين, الجدران الكونكريتية التي ترسم جغرافيا العزل , الجسور فوق نهر دجلة الجاف مرثية تتعدى غرضها التقليدي لتخرج إلى الهجاء , هجاء متعدد الجهات لكل من ساهم في إيجاد هذا العالم السفلي الذي حل بديلا غير مناسب لأحلام الخلود,  فنراه يسرد لنا بعض الأحداث بقوله: (( أتذكر تلك الليلة لأتأمل ماذا حل بالعراقيين اليوم, هل عقود ثلاثة من السنوات كافية لتمسخ شعبا, ولتحيل ساحات ومرابع عاصمة إلى متاريس وخنادق وسراديب؟ هي سنوات لا أعرف حسابها بأي تقويم لاميلادي ولاهجري ولا سواهما, سنوات جاءت من زمن طوفاني اسود غمر الأيام وسد فجوات الحياة وأباد الحرث والنسل سنوات سيدفنها العراقيون وسيغسلون بماء أنهارهم العظيمة أدرنها  اعرف ذلك وأكاد اقتنع بكل ذرة في أعماقي به ولكنني لا اقدر بل لا أريد تبريره فالعراق قامة عظيمة دامية أيضا 000 لم أنس هذا المشهد حتى اليوم وقد استعدت صورته عندما هجم آلاف العراقيين على دوائر الدولة, ومراكزها ونهبوا كل شيء حتى الفلين في سقوف العمارات نزعوا حتى المعدن والرصاص في الأسلاك الكهربائية ليصهروها ثم تباع من جديد في أسواق العراق وخارجه, ظاهرة نهب وسلب الدوائر الحكومية التي كانت أولى صور سقوط النظام الدكتاتوري ودخول القوات الأجنبية المحتلة بغداد , اعترف أنها فاجأتني كثير في بادئ الأمر وصارت تساؤلات واستغراب واستهجان داخل العراق وخارجه ))[8],نلحظ مما تقدم أن السارد أعطنا صورا متعددة عن العراق, قبل, وبعد الاحتلال الأمريكي , بل هو نقل ألينا بأمانة علمية الأحداث التي وقعت في العراق قبيل ,وبعيد سقوط الصنم في العراق , ونهاية الحكم الدموي الغاشم , وسيتضح ذلك

 وعلى الرغم من أن الكاتب والشاعر شوقي عبد الأمير حاول إلى حد معقول تقديم شهادة ثقافية اعتزالية متوازنة عن حال البلاد إلا أنه وقع أحيانا تحت طائلة بعض عبارات الفتنة, وفي تضمين القناعات السياسية الصادمة ليساق الخراب ,ولو بقي الكتاب في حدود المشاهدات, واحتفظ بلغته الأدبية الرفيعة لنجا مما لحق به من غبار أهل السياسة, وعندما سأل الكاتب عن ربطه للسياسة في كتابه يوم في بغداد أجاب قائلا: من هنا أسميت الكتاب (يوم في بغداد) , وهو بالفعل كذلك أردت أن أنقل صورة يوم بغدادي بامتياز إلى العالم لأنني لم أتعرف على بغدادي هذه ولا في أي كاميرا ولا لدي أي تعليق تلفزيوني أو صحفي هذه بغداد التي أحب, أما اقتران الكتابة بالفكر والفلسفة أمر اعتبره طبيعي  لان ذلك يعني أنني لا استطيع مشاهدة الأشياء ونقلها مجردة من ظلالها, وانعكاساتها في الخيال الإنساني من ناحية, وأمام الأسئلة الساقطة فوقنا مثل النيازك, كان بيكت يقول لايمكن أن نقول صباح الخير من دون سياسة وهو المعروف بمسرحه العبثي, فكيف لي أن أتحدث عن نهر بغداد دون أن أقول هذا النهر الذي شطر الكون إلى نصفين قبل أن يقسم بغداد إلى شطرين, كيف يمكن الحديث عن انهيار ملامح بغداد المدنية دون السؤال الذي يجره وراءه حطام الرموز الحضارية العراقية, وكيف حدث هذا ؟ وهل هي مجرد مشاهدات صامتة لكاميرا بشرية إنني أرى بغداد بعدسة السؤال الكوني الذي خرجت هي من رحمه كما خرجت أنا من رحمها, ولهذا فان علاقة الرؤية بالرؤيا في نص كهذا متداخلة, وقد تركت لها كل الأفق اللازم لتتجلى))[9] , فنراه يسرد لنا بقوله: (( إن أشكال الصراع السياسية التي تتوزع أمامها الأحزاب الحاكمة اليوم والتي تنشق عنها قوى المعارضة بما تعلنه طوائف سنية وشيعية أو عرقية كردية وتركمانية أو وطنية كلها مجتمعة تواجه سؤالا محوريا يطالبها بموقف عميق وجذري وهو الموقف من المجتمع المديني العصري وبناء أسسه داخل الذات الجمعية العراقية وصيانة رموزه ومنجزاته في ماضي العراق , وبناء الدولة العصرية اليوم انطلاقا من مفاهيم الفرد والجماعة على أساس المواطنة وحدودها وواجباتها كما في كل دولة عصرية بعيدا عن قواعد وأسس البناء العشائري والقبلي والديني الطائفي بالضرورة , لأننا إذا أردنا الخروج من الطائفي سيتحين علينا تحديد المفهوم الديني وحصره في أداء ودور لا يرجع على كفة إدارة الدولة ومؤسساتها ))[10] , نلحظ مما تقدم أن السارد استطاع إن يعطينا صور المكان المتعددة , ويربط بين الكلام العادي , والكلام السياسي بلغة أدبية رقية جدا.

     نقول بالطبع كان الموضوع السياسي المهيمن عند الكاتب , ولكنه لم يريد له إن يكون الوحيد أو الطاغي وإلا لأزاح  الماضي , وأزاح الكاتب مع هذه المدينة التي كان يلهو فيها, ويسمر فيها بعيدا عن مأساتها السياسية اليوم , وكان يقصد العودة إلى تلك الأيام مع بغداد ليرى نفسه فيها , وليراها في نفسه , كما التقيا أي قبل قرابة خمسة عقود , فنراه يسرد لنا الأحداث التاريخية لبغداده مع بعض القضايا السياسية التي شغلته بالماضي , والحاضر: (( إن الصراع السياسي الداخلي أولا ومن ثم الصراع بين الدول العظمى والدول الصغيرة, ومفهوم الاستعمار ونهب الثروات وما إلى ذلك من فكر سياسي , وممارسات سياسية مدانة ولا إنسانية كل هذا هو الذي فجر في الأذهان حلقات الصراع بين الأوطان الصغيرة والدول العظمى كما يقال وأخيرا شق الكرة الأرضية بين مشرق ومغرب , إما فيما يتعلق بالفكر والفن والإبداع بكل صوره فقد كانت هذه المناطق غير قابلة للتأثر بفكرة الصراع واقل منها بالحروب والدماء))   [11], نلحظ مما تقدم إن السارد أراد أن يعطينا صورة عن  أفكاره السياسية , ممزوجة بآرائه الأدبية .

المراجع:

[1] الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا:184

[2] البيئة في القصة:وليد أبو بكر:63 0

[3] إشكالية المكان في النص الأدبي:ياسين النصير,

[4] المكان العراقي جدل الكتابة والتجربة:تحرير وتقديم:لؤي حمزة عباس:11

[5] الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا:167

[6] يوم في بغداد : 14

[7] ينظر كتاب العراق : 6

[8] يوم في بغداد : 52

[9] مقالة كلنا نكتب التأريخ : عناية جابر :9

[10] يوم في بغداد : 56

[11] يوم في بغداد : 129

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى