رايات الفرح
سهيل كيوان | فلسطين
نشأت الرَّاية لضرورة إنسانية، سواء لأغراض سلمية أو عسكرية، فهي تلبي رغبة إلى وجود رمز تتمسَّكُ به مجموعة من البشر ويمثّلها، فترفعها في فرحها وتنكّسها في حزنها، ويستبسل الجنود في المعارك لرؤيتها عالية وفي مواقع متقدمة.
في الأعراس التراثية الفلسطينية كان الحادي يُنشد خلال المسيرة إلى بيت الفرح «يا رايات الفَرْح سيري/ واقطعي أرض الجزيرة».
رأى العرب الألوان الأربعة، الأسود والأخضر والأبيض والأحمر، تمثّل حقَباً مختلفة من تاريخهم، فتبنّوا الألوان الأربعة كعلم للثورة العربية،
ومصدر الفكرة بيت شعر لصفي الدين الحلي، من حلّة العراق!
بيضٌ صنائعنا/ سود وقائعنا
خُضرٌ مرابعنا/ حمر مواضينا
بعض الدُّول تفرض أحكاماً قاسية جداً على من يهين العلم، وبعضها يدفنه إذا ما بلِي، ويمنع إلقاءه في القمامة.
يحتفل الإسبان في العشرين من تموز/ يوليو من كل عام بالنّصر الكبير الأول على العرب، يستعرضون في الاحتفال راية المسلمين التي استولوا عليها في معركة العُقاب عام 1212، التي هُزم فيها السّلطان محمد الناصر قائد جيش الموحدين، وهو مشهد تاريخي مثير للمشاعر.
بلا شك أنه مشهد مُفرح لمئات ملايين الأوروبيين وخصوصاً الإسبان، ولكنه في الوقت ذاته محزن لملايين العرب والمسلمين.
كل راية تحوي رموزاً، فالشيوعيون رأوا في اللون الأحمر ما يرمز إلى فكرتهم الأممية، ورأى المثليون بألوان القوس قزح، تمثيلاً للتعدّدية الجنسية للمثليين والمثليات والمتحوّلين.
كان يمكن لعلم دولة إسرائيل أن يكون غير هذا المعروف، لو أنه تم قبول اقتراح بنيامين زئيف هرتسل مؤسس الصهيونية السياسية وصاحب فكرة دولة اليهود!
كان هرتسل قد اقترح في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 علماً لدولة المستقبل، سبعة كواكب ذهبية على رقعة بيضاء، لا وجود للون الأزرق في العلم المقترح، ولكن الفكرة الثانية هي التي نجحت، وهي مأخوذة من شاعر يهودي زار القدس في القرن التاسع عشر، ولاحظ انتشار اللونين الأزرق والأبيض فيها! أما النّجمة السّداسية فهي شكل هندسي مثل المربع والمستطيل والمخروط وليست ملكاً لأحد، إلا أن الحركة الصهيونية تبنت النجمة لأنها كانت شعار الملك داوود، وهكذا حيثما عثروا على نجمة سداسية، اعتبروا أنها وما يحيط بها تابعاً وعلى صلة باليهودية، أما النّهران فهما النيل والفرات، وهو ما تفتق عنه فكر الحركة الصهيونية كرمز لحدود هذه الدولة.
«مسيرة الأعلام» في القدس ابتدعها الرابي المتطرّف (تسفي يهودا كوك) من الصهيونية الدينية، بمناسبة الإعلان عن توحيد المدينة، وقد كانت في بداياتها بأعداد قليلة منذ 1968، ثم صارت تضم عشرات الآلاف.
في هذه المسيرة الكثير من الاستفزاز والإذلال للعرب، فهي ليست سلمية، ولا يقصد بها التعبير عن الفرح بتوحيد القدس، بقدر ما هي مناسبة لسكب الكراهية والحقد على العرب الذين ما زالوا متمسّكين بمدينتهم.
يعبّر المستوطن من خلالها عن كراهيته للفلسطيني الرافض للرحيل عن بيته ومدينته، وهو ليس عمًلا فردياً أو عمل مجموعات متطرّفة، بل إنه يجري تحت رعاية وحماية الدّولة، ويتطابق مع استراتيجيتها المعلنة، وممارساتها الهادفة إلى تفريغ المدينة من العرب.
يتخلّل مسيرة الأعلام شتائم للنبي محمد (ص)، فالحبُّ للمدينة يبقى ناقصاً بدون شتائم لرسول العرب، ثم الدعوات إلى موت العرب بهتافات جماعية هستيرية، فكلّما عبّرت عن رغبتك في إيذاء العرب كان هذا تعبيراً رائعاً عن حبّك للقدس، كذلك فلا بد من شعارات تدعو إلى إشعال النار في القرية الفلسطينية أو أحد أحياء القدس مثل هتافات «شعفاط تحترق»، يتخلّل هذا تخريب للممتلكات، كيف لا، والهدف هو إفقار الفلسطينيين، والتسبُّب بأكبر ضرر ممكن لهم، ثم إرهابهم من خلال الطَرق على النوافذ والأبواب وقلب البسطات في الأسواق وتحطيمها.
هذه المسيرات لا تحدث إلا في الأنظمة المظلمة، المؤسَّسة على كراهية الآخر وممارسة العنف ضده، وإذا كان للعالم مشاكله وقضاياه ومشاغله، فإن هذا أمرٌ يمسُّ أمّة العرب كلها، ولا يعفيها من مسؤولياتها تجاه المدينة ذات الثقل والرمز التاريخي. كذلك فهي تعني الكثير للمسلمين بشكل خاص وإلى المسيحيين من أبناء الطوائف العربية الأخرى، الذين يتعرضون لمثل ما يتعرض له المسلمون وإن كان أقل حدّة، بسبب ادعاء وجود الهيكل في مكان المسجد، وليس لأي سبب آخر، فكراهية الآخر متجذّرة ومتفاقمة وأيديولوجية راسخة.
في الوقت ذاته، تثبت هذه المسيرات من جديد، بأن المدينة مُحتلة رغم مرور أكثر من نصف قرن على إعلان توحيدها، وما رافق هذا من إجراءات أمنية واقتصادية وعمرانية، تسعى لجعل الاحتلال واقعاً مفروضاً ومسلّماً به.
مسيرة الأعلام تفعل العكس تماماً، فهي تستفز مشاعر الفلسطينيين أوّلاً، ثم مشاعر كل من يجري في عروقه دم عربي ثم إنساني، تُذكّر المسلمين بأن أحد أهم مقدساتهم منتهك، وهذا يلفت انتباه كثيرين من كل أقطار العالم ممن يتابعون شأن المنطقة العربية، وذلك لما تشكّله هذه المدينة من ثقل تاريخي، وشحنات قابلة للانفجار.
المسيرة تذكّر المهزومين بهزيمتهم، والمقهورين بقهرهم، والأمَّة بضعفها، والعالم بانتهاك القوانين التي وضعها لنفسه.
لو كانت القدس موحّدة بالفعل، لما كانت هناك ضرورة إلى حواجز ومسيرات أعلام، ولا حالة لاستنفار الشرطة وحرس الحدود والحواجز والمستعربين والمستعربات، ولا مناشدات دولية لتخفيف التوتّر، فكلها تشهد بأن المدينة منقسمة.
أي سائح أجنبي يستطيع أن يعرف الحدود بين القدس الغربية والشرقية، فالإهمال المنهجي للجانب الشرقي لا تخطئه العين.
هذه المسيرة تذكّر الإسرائيلي كذلك، بأنّه فارض الأمر الواقع بقوة السّلاح، وأنه ما زال بعيداً عن أن يكون مطمئناً، وعليه أن يبقى مستعداً وعلى كتفه بندقيته لأجيال قادمة، وأنه حتى لو وقّع مع كل دول العالم، وجرى التطبيع مع كل الأنظمة العربية وغير العربية، فصاحب البيت ما زال هنا، وما زال حياً، ولن يتقبل الاحتلال.
هنالك حياة يومية، قبل وبعد مثل هذه المسيرات، هناك معاناة ومخاطر يومية في كل خروج ودخول من المنزل، هناك معاناة لا تظهر على السّطح في التعامل مع مؤسسات البلدية والدولة المحتلة، في كل وثيقة يحتاجها المواطن معاناة كبيرة ومستمرّة، وخصوصاً لأولئك الذين يطلبون تثبيت مواطنتهم المقدسية!
ليست مسيرة الأعلام سوى تتويج لعنصرية وعداء يمارس على مدار الساعة طيلة الأعوام والعقود، فهل يعتقد من يمارسونها أنهم سيكونون أشدّ مناعة من غيرهم! لقد اشتاقت شعوبنا إلى رايات الفَرح، ولكن الطريق ما زال طويلاً.