وكدتُ أموت من السُعال !

صبري الموجي | مصر

لا أُنكر أن قسوة أبي عليّ أيام الطفولة والصبا عندما كان يبدُر عني خطأ هي سببُ استقامة حالي فيما بعد، وحقا: قسا ليزدجروا ومن يك حازما يقسو أحيانا علي من يرحم .

كنتُ كبقية أقراني في صغري مثل قطعة الصلصال التي يُمكن تشكيلها قبل أن تيبس وتجف، فإذا جفت صار من الصعب تطويعها وأعيت صاحبَها حيلُ تشكيلها .

كانت حالُ أبي معي في الطفولة، قسوة في غير قهر، وتدليلا في غير إفراط، لأظل مُستمسكا بمعاني الذوق والأدب والأخلاق.

كانت أفراحُ القرية أنشودتنا ونحن صغار، فما إن ننطلق من بيوتنا، كعصافير خرجت من أعشاشها، حتي نندس في حِلق الحريم، اللائي تجلس إحداهُن من ذوات الصوت الندي القرفصاء في بيت العروس تُغني، وحولها بقية النساء يُصفقن ويغنين وراءها.

كان لهذه المرأة عددٌ من الأغنيات تكررها في كل فرح مثل: (ادحرج واجري يارمان، وتعالي علي حجري يا رمان، ويالي ع الترعة حود ع المالح، وعند بيت أم فاروق)، وغيرها من أغنيات ترددها بمصاحبة كورال السيدات وأطفال الحتة الصغار كـ(نقوط) يجاملون به عروس المنطقة.

بينما كان الحالُ مع عريس الناحية مُختلفا، إذ يفرش أهله أمام البيت أو في (دوار) الناحية حصيرا مصنوعا من السمار يجلس عليه المدعوون، يستمتعون بالمزمار البلدي، ويدخنون الشيشة، وعلي باب الدوار يجلس (حلاق) الناحية علي كرسي خيزران يستقبل المدعوين ويرحب بالضيوف، فما إن يفد علي الفرح وافد، حتي ينتفض واقفا، كما لو كان مسه تيارٌ كهربي، أو لدغته عقرب، ويقول : وعمي فلان – ذاكرا اسم القادم – عُقبال عنده، وأحيانا أخري يقول : وشوبش علي حياة العريس مقابل قرش تعريفة، وكلما نفحه القادمُ أكثر كان تأكيده علي اسمه أشد، وإطالة اسمه أظهر.

كانت تحيةُ الضيوف عبارة عن كوبٍ من (شربات الورد) وسيجارة يأخذها المدعو من علبة سجائر يمر بها أحدُ أصحاب الفرح.

في يوم خرجتُ لحضور فرح أحد الجيران، وبدلا من توجهي لحِلق السيدات، حيث الطبل والغناء للرمان والمالح وبيت أم فاروق، قلتُ في نفسي أنا رجل، وسأجلس اليوم مع الرجال، توجهت لبيت العريس، وجلست علي الحصير أنتظر احتفاء صاحب الفرح بي، لكنه لصغر سني لم يُقدم لي التحية كاملة، إذ أعطاني كوب الشربات، وحرمني من السيجارة، التي ظل الحصول عليها شغلي الشاغل، وبدلا من استمتاعي بالمزمار البلدي، جلست أتساءل: كيف أستلُ سيجارة من علبة سجائر صاحب الفرح ؟

لكن هيهات لي ذلك، إذ أحكم الرجلُ عليها قبضته، وجعلها في شِغاف قلبه !

وبعقيدة الإصرار علي الهدف – التي كنتُ أتحلي بها صغيرا، وأظن أنها فارقتني كبيرا لكثرة المُنغصات والمعوقات – قلتُ لابد أن أُغير خطتي وأفتش لي عن حل آخر، إذ إن فوزي بسيجارة من علبة سجائر صاحب الفرح لن يكون إلا إذا بلغ الجملُ سم الخياط.

وبعد تفكير، اختمرتْ في رأسي فكرةُ أن أغافل أحد الرجال الذين فازوا بهذا العطاء الثمين، الذي حُرمت منه لصغر سني.

كان الحلُ عند عمي رمضان الذي ترك سيجارته بجواره علي الحصير، إذ كان منهمكا في شرب الشيشة، أو (الجوزة)، وهي عبارة عن برطمان من الزجاح، عليه غطاء به فتحتان: واحدة في المنتصف تخرج منها ماسورة من الخشب، يُثبت عليها حَجر من(المِعسل) تعلوه قطعٌ صغيرة من الفحم المتوهج، وأخري جانبية تتصل بها ماسورة من الغاب، يشفط منها المدخن الهواء فييتجه الدخانُ من الحجر إلي البرطمان مرورا بقطعة الغاب ويخرج من فم المدخن وأنفه، فتحدث له حالة من النشوة و(السطل)، يقول بعدها : مسا الخير، إيذانا بانتقال ماسورة الغاب إلي فم مدخن آخر .

وصل عمي رمضان لحالة من الهذيان، نسي بسببها عطاء صاحب الفرح الثمين علي الحصير، فتسللت إليها يدي، وألقيتها في (عبي)، لأهرب بها إلي البيت وساعتها يكون لي معها شأن آخر !

انتهزتُ فرصة خلو الدار، إذ كان أبي وأمي في الحقل، وكانت أختي نائمة، وفتشت عن كبريت، وأشعلت السيجارة، التي ما إن أخذتُ منها نفسا واحدا، حتي تملكني سعالٌ كاد ينفلق له قلبي، فاستيقظتْ أختي علي صوت سعالي فزعة، فأذهلها ما رأت، لكنها علي عجل جاءتني بكوب من الماء أطفأ نارَ ذلك النفس اللعين، وبمجرد أن هدأ سُعالي، فوجئت بأصابع كفها وقد علمت علي خدي وهي تصيح : لابد أن يكون لأبيك معك موقف.. أنت ولد (تلفان) .

ولم يُكذب أبي خبرا إذ عاد وكان لعصاه معي حديثٌ آخر !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى