المواطنة والبحث عن الهوية الوطنية في وطننا العربي
عماد خالد رحمة | برلين
كانت ولا تزال قضية المواطنة قضية محورية وهاجس إنساني للعديد من التيارات والحركات الاجتماعية، خاصة في ظروف الحاجة الماسة والضرورية إلى الحريات الشحيحة ،وتفاقم أزمة البطالة والفقر وزيادة الشعور بضرورة تحقيق العدل المساواة والديمقراطية والكرامة الإنسانية.ولأنَّ المواطنة تقوم على العديد من المبادئ السامية وقيم الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة الفاعلة، فإن هذه المفاهيم المنتشرة في صفحات الكتب وبعض الصحف ووسائل الإعلام العربية كانت غائبة أو مغيّبة أو محدودة التأثير في وطننا العربي ، حيث اتسعت الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة في العالم. وإذا كان هناك أسباباً موضوعية بحكم السيطرة الاستعمارية الكولونيالية الطويلة الأمد، فإن هناك أسباباً داخلية وذاتية أيضاً لا يمكن إغفالها، لاسيّما وأن قسماً كبيراً منها ما يزال يعيش في مرحلة ما قبل الدولة وسيادة القانون ويعاني من صراعاتٍ ( إثنية) ودينية وطائفية ومذهبية ولغوية وعشائرية وقبلية وغيرها.
وإذا كان ثمة اختلافات نسبية أو نوعية في تجارب وتوجّهات بعض بلداننا العربية، إلاّ أنها تجتمع في عدد من المشتركات والسمات العامة التي تعاني منها. كفقدان حرية التعبير والرأي، وعدم الاعتراف بالآخر وانعدام انعدام تكافؤ الفرص سواءً على المستوى الداخلي العربي أو على المستوى الدولي، فليس هناك تكافؤ فرص حقيقي بين الأفراد، مثلما ليس هناك تكافؤ فرص بين الدول والممالك والإمارات، في ظل علاقات دولية تمتاز وبالتسيّد والهيمنة المطلقة وشبه المطلقة، فالقوى العظمى لها الحق في تقرير مصير الدول والشعوب سواء في العلاقات الدولية، أو على مستوى القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي بحكم وجود خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتمتلك حق النقض (الفيتو) فيه وهي التي تقرر اتجاهاته السياسية الدولية ومصير العديد من دول العالم وشعوبها وهذا من شأنه أن يُحدث زعزعةً واختلالاً حاداً بين القوي والضعيف من جهة ،وبين الكبير والصغيرمن جهةٍ أخرى، كما يحدث صراعاً ونزاعاً بين من يملك وبين من لا يملك وهكذا، مما أدى ويؤدي إلى انعدام تكافؤ الفرص وتفاوت في الدخل القومي للفرد والوظيفة والمستوى الاجتماعي على مستوى الواقع المعاش في الحاضر والمستقبل، إضافةً إلى أنَّ النظام التعليمي والصحي، وبكل ما له علاقة بالتخلف والأمية والجوع والفقر والحرمان، التي يمكن أن تشكّل بؤراً للنزاع والإرهاب والعنف في المجتمع.
ولهذا فإن تأمين سبل الحياة الإنسانية الكريمة وتأمين الاحتياجات الإنسانية الضرورية المادية والروحية، للأفراد أو للشعوب، يمكِّنهم من توفير العيش الكريم الآمن بحيث تتاح الفرص بعدالة للجميع دون تمييز لتحقيق تطلعاته، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الأمن والأمان والسلام والازدهار، بخاصة إذا توافرت فرص المساواة والعدل وتأمين الحقوق العامة.
إنَّ تجمع الشعوب العربيةعلى الأرض الجغرافية العربية يزيد من ضعف المواطنة وصراع الهوّيات الصغرى والهويات الكبرى والهويات القاتلة وغياب الحكم الرشيد، وهذا يعني أيضاً ضعف فرص تحقيق الحرية باعتبارها قيمة عليا في المجتمع وضعف فرص المساواة والعدالو ونشر الحق ، حيث لا تستقيم المواطنة دونها، وكما أن ضعف العدالة الإنسانية بما فيها العدالة الاجتماعية سيلحق ضرراً بليغاً بمسألة المواطنة، بخاصة في ما يتعلق بسدّ الاحتياجات الأساسية لأبناء الوطن، فلا يمكن الحديث عن المواطنة مع استمرار ظاهرة الفقر والجوع وانتشار الأمية وسوء توزيع الثروة بشكلٍ عادل وتمتّع فئة قليلة من الأفراد بامتيازات كاملة وحرمان مجموع الشعب منها، أما المشاركة الفاعلة فهي تستند إلى الحق في تولّي المسؤوليات والمناصب العليا في الدولة دون تمييز لأسباب تتعلق باللون أو الجنس أو المنشأ الاجتماعي أو الدين أو اللغة أو لأي سبب آخر.وهذا يتطلب أن يسود القانون وتطبق التشريعات الناظمة وتحقيق المساواة بشكلٍ عملي دون تزوير أو مواربة وإحقاق الحق والعدل، باعتباره الفيصل والحكم يخضع له الحكام مهما علا شأنهم والمحكومين، ولن يتم ذلك دون وجود مؤسسات وإدارات وهيئات وآليات للشفافية والمساءلة والمراقبة ومكافحة الفساد والمحاسبة ، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالقوانين والتشريعات الناطمة القائمة والقوانين النافذة، استناداً إلى المعايير المتبعة دولياً على هذا الصعيد.
ليس هذا فحسب بل غياب الاستراتيجيات والخطط التنموية الشاملة والمستدامة بمعناها الإنساني، الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والقانوني والحقوقي، وبالطبع بالمعنى السياسي أيضاً الذي يعتبر تكثيفاً للاقتصاد. وهذا يتطلب أيضاً وجود قوانين وتشريعات تنظم عمليات استثمار الموارد باعتماد اقتصاد يعزّز الإنتاجية ويدعمها ويقوم على تنوّع السوق ،ويوفّر فرص عمل للجميع دون تمييز عرقي أو طائفي، مع مراعاة لخصوصية البلدان التي دمّرت اقتصادياتها الحروب والنزاعات الأهلية كما حصل في العديد من بلداننا العربية مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن إلخ .
وما يمكن أيضاً ضرورة تأمينه لتحقيق سبل الحياة الإنسانية الكريمة وتأمين الاحتياجات الإنسانية رفع مستوى التعليم الذي يعاني من الضعف وشحّ المعارف، ولا يمكن الحديث عن التنمية ذات الطابع الإنساني بوجود نسبة عالية من الأمية المتفاقمة في العالم العربي حيث تزيد على تسعين مليون أمي، ناهيكم عن انخفاض مستوى التعليم وردائته، وإذا كان هذا الرقم المرعب يتعلق بالأمية الأبجدية، فإن نسبة الأمية سترتفع بنسب غير متوقعة إذا ما احتسبنا عدم إمكانية التواصل مع العلوم والمعارف وآخر منتجات التكنولوجيا الحديثة.هذه النسبة لا تشمل كبار السن فقط، بل نسبة الأمية الأبجدية لعدد كبير من أبناء وطننا العربي لمن هم في سنيّ التعليم تبلغ أكثر من 16%، ويضاف إلى ذلك الفجوة الكبيرة جداً في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لاسيّما في الاستخدامات المحدودة للأجهزة الذكية، وفجوة المهارات في الكير من التطبيقات العملية للعلوم الإنسانية، فالشباب هم الفئة الأكثر تأثّراً بتحدّيات سوق العمل الجديدة المرتبطة بقوة في الاتجاهات الاقتصادية المتغيّرة بشكلٍ دائم ،حيث تصل نسبة بطالة الشباب العربي في نحو 33%. .
في هذا السياق لا يمكننا إغفال ما يعانيه وطننا العربي جراء هجرة العقول والأدمغة، وهي سمة عامة للبلدان العربية فالموهوبون والعباقرة والعلماء والخبراء والنخبة لا يمكنهم تحقيق ما يصبون إليه في بلدانهم، لأسباب تتعلق بقلة فرص الحريات، ولاسيّما حرّية الرأي والتعبير والحريات الإنسانية بشكلٍ عام، وحرّية البحث العلمي، وعدم توافر الأجهزة اللازمة لتحقيق البح فإن تأمين سبل الحياة الإنسانية الكريمة وتأمين الاحتياجات الإنسانية العلمي وتطبيقاته وعدم توفر المقرات المناسبة ،والمعدّات المتطورة الكافية، ناهيكم عن انتشار ظاهرة الفساد والرشا واستشراء ظاهرة البيروقراطية المقيتة، وكذلك انعدام معايير التقييم وتقدير الكفاءة، وخصوصاً في تزايد الحاجة إلى الولاء المطلق للحاكم، وتدنّي مستوى الأجور ومستوى المعيشة وغيرها من الأسباب التي تشكّل بيئة طاردة للكفاءات العلمية بمعظم اختصاصاتها ، في حين أن بيئة الدول المتقدمة هي بيئة جاذبة للكفاءات والقدرات العلمية، بما توفّره من حريات وظروف عمل مناسبة وتوفر أجهزة البحث العلمي المتطورة وأدوات ومردود مالي مناسب، وأجواء نفسية واجتماعية مساعدة على العيش الكريم وتقييم إيجابي.
إضافةً لعدم الإقرار بالتنوّع الفكري والثقافي أو ضعفه، سواءً على الصعيد الديني أو اللغوي أو القومي أو غيره، بل يمكن القول أن الضعف يشمل قبول الآخر والتعايش معه ، ولعلّ الشائع الغالب في وقتنا الراهن والذي برز على نحو حاد هو صراع الهوّيات في معظم مستوياتها الهويات الصغرى والهويات الكبرى في العديد من بلدان العالم النامي ، لاسيّما بين الهوّية العامة الكبيرة والهوّيات الفرعية الصغرى، الأمر الذي يحتاج إلى إدارة سليمة للاعتراف بالمكوّنات والأطياف الاجتماعية المتنوّعة والتعامل معها على أساس قواعد العدالة والمساواة الكاملة في المواطنة دون تمييز، والاحتفاء بالتنوّع الثقافي والفكري والمعرفي واحترام الخصوصيات، وضمان حق التعبير والرأي والرأي الآخر بما يقي هذه المجتمعات من الانزلاق إلى التناحر والنزاع المؤدي إلى الصراع حيث عانت بلداننا العربية طويلاً من الاستعمار الكولونيالي والتدخل الخارجي الفج والصراعات والنزاعات الأهلية الدموية وهضم الحقوق والحريات الإنسانية والاجتماعية، ويوفر عليها فرصة اللحاق بالأمم المتحضرة، ولاسيّما بوضع خطط تنموية بشرية مستدامة يمكن تطبيقها على أرض الواقع ،وتأمين كل ما يتعلق بحقوق الإنسان، بعيداً عن محاولات التهميش والإلغاء والإحلال .
أن معظم مجتمعاتنا العربية تعاني من نمو واستمرار ظاهرة الإرهاب والعنف بكل أشكاله، واللجوء إلى السلاح لحلّ الخلافات السياسية وحتى الاقتصادية، الأمر الذي يضع جدلية القوة والضعف في إطار إقصائي، تناحري، في حين أن البحث عن الأمن والأمان والسلام وتعزيز المناعة الاجتماعية بالموارد والطاقات ،والمشترك الإنساني هي التي ينبغي أن تكون العامل الرئيسي . ولعل متابعة لما جرى ويجري في العراق أو ليبيا أو سوريا أو اليمن، من أعمال عنف وإرهاب دموي منظم، ولاسيّما بوجود قوى الإسلام السياسي المتطرفة، خير دليل على ذلك، الأمر الذي استوجب إقامة تحالف دولي لمجابهته والتصدي له في كل الساحات، وخصوصاً بعد صدور القرار 2170 في 15 آب عام2014 ضمن الفصل السابع الصادر عن مجلس الأمن الدولي.وإذا ما دخل عنصر الدين أو الطائفة أو المذهب وتم استغلالهما سلبياً، فالأمر ولا شك يضعنا أمام طغم متسلطة فاشية دينية أيضاً. لعلّه دون تعاون حقيقي متكامل وشامل ووضع حلول عملية محلية داخلية ودولية تتجاوز الحدود (الإثنية) والاجتماعية والسياسية والثقافية، لا يمكن مواجهة هذه المعضلات الشائكة. وهو ما كان ميثاق جديد قد تبنّاه منتدى غرب أسيا وشمال أفريقيا بوصفة وثيقة للتعاون البنّاء ترتكز على الكرامة الإنسانية التي يجب أن تصان وأن لا تمس وصولاً لتأمين العيش الكريم المشترك للأجيال الحالية والأجيال القادمة.
في الختام يمكننا القول إن فكرة المواطنة لم تتجذّر ولم تترسّخ بعد في الدولة العربية الحديثة، إن كان على الصعيدين النظري والعملي، ومن أجل أن تترسَّخ تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم بما فيها السلطة القائمة من جهة والمعارضة الوطنية من جهةٍ أخرى، إضافةً إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب أو تغييب ثقافة المواطنة وضعف المؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي وضعف الهياكل الإدارية ، بما فيه فكرة الدولة المدنية وسياقاتها واستحقاقاتها .