« أصابع فاطمة » والدرس الذي تعلّمته من الشاعر سليمان العيسى

عبد الرزّاق الربيعي | شاعر ومسرحي وكاتب صحفي – مسقط

في الأيّام الأخيرة من عام 1995، وبعد أن انتهيت من قراءة قصيدتي الطويلة ” أصابع فاطمة” في مجلس د.عبدالعزيز المقالح بصنعاء، كعادتنا الأسبوعيّة بقراءة كلّ ماهو جديد، في هذا المجلس الذي صار يمثّل لي في تلك السنوات، مختبرا وورشة عمل شعريّة، قوبلت بعاصفة من الثناء، باستثناء  شاعر كبير كان يصغي لي باهتمام شديد، ويهمّني رأيه، لكنّه ظلّ صامتا، كان ذلك الشاعر هو الكبير الراحل سليمان العيسى، واكتفى بالتصفيق، وعلامات الارتياح،  ثم اخرج قصاصة من جيبه وقلما، ودوّن شيئا ما، وحين لاحظ انشغال الحضور، بامرٍ عارض، نهض من مكانه، ودسّ بين يديّ تلك القصاصة، وعاد إلى مكانه، وبقلق تلميذ يتسلّم نتيجة امتحان، فتحت القصاصة، وقرأت الكلمات التي سطّرها الشاعر الكبير، قرأتها، ثم اشرت إليه برأسي ناحيته بالامتنان، فبادلني الإشارة، بانحناءة كبيرة، وكان يجلس الدكتور حاتم الصكر على يساري، فيما يجلس صديقي الشاعر فضل خلف جبر على يميني، كعادتنا، الأسبوعيّة في المجلس الذي يقام عصر كلّ احد في مركز البحوث والدراسات اليمني بشارع بغداد، بصنعاء، فكلّ منّا يعرف مكان جلوسه، بحكم العادة، أما صاحب المجلس المقالح، أطال الله في عمره، وأمدّه بالصحّة، والعافية، فقد كان يجلس على يمينه الشاعر محمد عبدالسلام منصور وعلى يساره الكاتب خالد الرويشان، ثم العيسى، ود.شاكر خصباك، ود.عبدالرضا علي، ود.عبد علي الجسماني، ود.علي جعفر العلاق، ود. سعيد الزبيدي، ود.إبراهيم الجرادي، ومن الأدباء اليمنيين كان يحضر الشاعر أحمد ضيف الله العواضي والناقد محمد اللوزي ومحمد الشيباني، ود.عبدالواسع الحميري، ومامون الربيعي، وآخرون، كان غالبا مايدير الجلسات الكاتب عدنان ابوشادي، رحم الله الراحلين، وأمدّ في أعمار الأحياء، أقول: سألني الصكر عن المكتوب في القصاصة، فأعطيتها له، وكان المكتوب فيها:

« الحبيب عبد الرزاق قصيدتك الجديدة أحلى وأمتع ما سمعت لك حتى الآن.

 لي ملاحظة صغيرة، هل تسمح؟

 لا تكثر الماء فوق النبيذ

 اللذيذ اللذيذ

أنا تعلّمت هذا أخيرا

عمّك سليمان »

يشير دفتري القديم الذي عثرت به على تلك الملاحظة إلى تاريخها وهو٢٦ /١٢ من عام١٩٩٥

لاحظوا الشاعر الكبير يقول لشاعر شاب يومها” هل تسمح؟”

وبكلّ تواضع، وحميميّة يكتب” عمّك سليمان”!! وكلّ ذلك لضمان عدم إزعاجي، وجرح شعوري!

فما أرقّ إحساس  هذا الشاعر الكبير!

فلم يشأ أن يوجّه الملاحظة أمام الجميع، رغم أنّها ملاحظة عاديّة، لئلا يحرجني، وبالوقت نفسه لم يتجاوزها، بل أعطاني درسا في الكتابة الشعريّة !

لقد كان يتعامل الراحل سليمان العيسى رحمه الله، شاعرا كبيرا، وإنسانا كبيرا!

ومعلّما كبيرا

وللأصدقاء الذين سألوني عن ” أصابع فاطمة” أعيد نشرها في هذه المساحة

          ” أصابع فاطمة “

 

” ذهب الذين ……….”

                   وفاطمهْ

تركتْ أصابعها

         تسيل على رماد أصابعي

في وحشة الأسماءِ

حيث الريحُ تصهلُ

          في الجباهِ المعتمه

 

” ذهب الذين ………”

                 تسرّبوا

من صورتينِ ( بمحمل ) العرسِ العتيق :

               ظفيرتي ( بنت المعيدي )

                 والأمير بسيفه المشطور

نابا الليث هادئتانِ

كفـّا جدّتي

          في الليلِ

عند الموقد الشتويّ

                  هادئتانِ

عينا أمّنا في السرّ

                  دامعتانِ

سبحان الذي أسرى بنا

حين استدار الوقتُ

من قصب ( بحيّ الرافدين )

إلى أقاصي فندقٍ

         في ( حضرموت )

وفاطمهْ

جلستْ على راح الرياح

تمشّطُ الأزهارَ

في شعر الفصول النائمهْ

” ذهب الذين …………”

                إلى المعسكر

التفتْ يا ربّ

واعطِ رفاتيَ

 الشقّ المناسبَ

للصلاةِ بيوم كريهةٍ

وسدادِ …

                  قلبي

إلتفتْ يا رب ّ

أسرار المدينة قوّضتها العاصفه

وعتتْ

 لتعتصرَ البيوتَ

        وفاطمهْ

جمعتْ زجاج هديرها المطحون

في ( جزمات )

عمّال النظافةِ

لفلفتْ ( لوز ) النخيلِ

وعطسةَ البرد المفاجئ

إذ رأتْ أعناقَنا

          ممتدةً حتى الفراغ

                         بلا سعف

فركت ثقوب الناي

غنـّت: للرفاتِ الهائمه

” ذهب الذين ………….”

وحين ( دب ّدبيبها )

مرّت بنا أطياف ( دجلة )

والنهار على الضفاف

مشاكسات معاطف النسماتِ

والفتياتِ

 ما بعد المدارس

قيل : غضّ القلبَ

 ما بين الظلالِ

غضضتُ سمعي

وانتضيتُ الطرفَ

 والأوراقَ

             في ( شَعْر البنات )

رأيتُ ( دجلة )

إذ رأتْ ( أبناءَ آدمها )

يعبّون السحابَ

فأمطرتْ

من ناهدي شطآنها

             حَسَكًا

وجمرًا

قلت- من باب اللطافة- :

(دجلة الخيرات) تزعل

هكذا دومًا كأمي

عندما في الجبّ أرمي

أحرفي العطشى

ومن بابِ الدلالِ السومريّ

لـ(دجلة الخيرات)

أذكرُ أنها :

زعلتْ كثيرًا

حينما عبرتْ عليها

طائرات الحرب

ذات وقيعةٍ

 وقعتْ

فشرّدت السماءَ

 إلى القيامةِ

وقتها امّحت الرياحُ

                تراكضَ الأولادُ

والفتيات ما بعد المدارسِ

صافراتُ مشاعلِ التنوير

ماذا تطبخُ الأيام ؟

لي نهرٌ

    وجحر مظلمٍ

    ورغيفِ حزنٍ

آه

بسم الله

رنّتْ ساعةُ الفزعِ المبكّرِ

فاستفاقتْ-

قبلما الشاي المكيّس…. فاطمه

حملتْ سؤالي المستحيلَ

إلى الجداول والندى :

من أين أبتدئ الطريق

إلى طريق الخاتمه؟

“ذهب الذين……………”

تسّمرت أرقامهم في المحو

حين تفتـّت أجراسُهم

لمّا أقمت عشائي الملكي

من التمرِ المحمّص بالشتاءِ

وكان جرحي مترعًا

بدموع أقلام الصبا

ودمِ الأناشيد الصغيرةِ

                       والشعيرِ

بصحّة الأخبارِ

هذا خبزُ صبرِ الأرضِ

عبّوا….

من دمِ الأحبارِ

        والشهداءِ

فاجتمع العويلُ

وفاطمه

رفعت إلى ( الجودي )

بدمعات الثكالى قائمه

“ذهب الذين يُعاش في…….”

( أوروك ) عند الطابق السفلي

رأيتُ مليكَها المجبولَ

من فوضى الخليقةِ

واقفا ً يبكي

على طبل ٍتدحرج

في أخاديد الظلامْ

ينوحُ :

مَنْ سيرقـّقُ المنفى

إذا سقط الكلامْ

رأيت ( إنكيدو ) يسبّ البابَ

                          والأصحابَ

لكن الفؤوس تحدّبت

وتقعّر الغابُ العليل

وفاطمه

رسمتْ على ختمِ البريدِ ملامحي

فتراجعت مدن الجبال

وعدتُ ألعبُ في دروبِ العاصمه

“ذهب الذين أحبّ ….”

هم حملوا بأضراس الفوانيسِ

                  –  السهولَ النافره

كرّاسةَ الرسمِ المندّى

بالدعاء المستحبّ ببيتنا

ألف الصلاة على نبيّ الماء

                              والأعشاب

والشمع الذي يغفو على الفلّين

مبتهل الطواف

وفاطمة

بلغت قباب النون

            والزيتون

            والجار القديم بـ(ذي سَلَمْ)

وبلغت ُ عند غروبها سنّ الندم

فاستودعتني        

          طالعا ً

          من ضيعة الأفلاكِ

          في الزمن المفخّخِ

إذ تشابهت الدروب عليّ

لكنّ ( الرصافةَ ) طائرٌ

متوهّجُ الأقمارِ

يشرب من قميص النهر

طيفي في الظلال الحالمه

“ذهب الذين ………”

               وتابعوا

               خلف الذين …

                     طريقهم

وبقيتُ حين طعنتُ في النسيانِ

أرقبُ

– كلّما وصلَ البريدُ إلى مدامعِنا –

                          أصابع فاطمه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى