مفاضلة آثمة

رضا راشد | الأزهر الشريف
مقارنة ظالمة، وموازنة جائرة، ومفاضلة آثمة تلك التى تجرى بين امرأتين تفضل فيها إحدى المرأتين بأحسن ما فيها على أخرى بأقبح ما فيها، وذلك حين يقال إن المرأة غير المحجبة وتحفظ لسانها أفضل عند الله من المحجبة التي تصوم وتصلي وتؤذي جيرانها بلسانها.

وإنما كانت مفاضلة آثمة؛ لأنه لابد من الاشتراك بين المفاضل بينهما في الصفة التي هي مناط التفضيل، وهذا ما نص عليه علماء اللغة حين ذكروا بأن دلالة أفعل التفضيل هو الدلالة على أن شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر فيها..فكيف؟ وأنى يقال إن المحجبة التى تصوم وتصلي وتؤذي جيرانها أقل فضلا من سافرة تحفظ لسانها ..وكان حقا لو كان قيل: إن المحجبة التى تكرم جيرانها أفضل من المحجبة التي تؤذي جيرانها بلسانها..وإن المتبرجة السافرة التى تحفظ لسانها هي أقل إثما من المتبرجة السافرة التي تؤذي جيرانها؛ فذلك هو منطق العقل، وحكم البديهة ..ولكن لو كان !!

وإن خطأ كبيرا نرتكبه في حق أنفسنا وفي حق من نعول، حين نأتى على حكم يتعلق بالله عز وجل بشيء من أهواء أنفسنا دونما دليل من نص حكيم أو حتى قرينة، وذلك أن يقال إن المرأة غير المحجبة وتحفظ لسانها هي أفضل (عند الله) من المحجبة التي تصلي وتصوم وتؤذي جيرانها ..فبأي دليل؟ ومن أي نص بل بأية قرينة كان هذا الحكم ..(أفضل عند الله) ؟! ألا يعد ذلك تأليا على الله؟! سبحانك هذا بهتان عظيم .

لقد أمر الله النساء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} [الأحزاب : ]فكان الحجاب علامة الحرائر يلبسنه فيعرفن به، فيقيهن من كل أذى..فكيف يتجاهل ذلك كله فيفضل عليها امرأة عصت ربها في لبسها، فكشفت عن زينتها وأظهرت للناس سوءتها ؟!

ثم لماذا يفترض دائما في المحجبة أنها سيئة الخلق؟! ولماذا بفترض دائما في المتبرجة السافرة أنها حسنة الخلق؟! ما الذي اقترفته المحجبة مسوغا لإساءة الظن بها ؟! وما الذي فعلته السافرة سببا لحسن الظن بها ؟!

إن الأدعى والأظهر هو إحسان الظن بالأولى وإساءة الظن بالثانية؛ بناء على الظاهر من حال كل منهما، أما أن يُساء الظنُّ فيمن ظاهره الطاعة ويُحسَن الظن بمن ظاهره المعصية، فذاك قلب للأمور وعكس للحقائق؟

وإن مما اتفق عليه العلماء وأجمع عليه الحكماء أن هناك تلازما ببن الظاهر والباطن، وأن المنافق الذي يحاول جاهدا أن يخفي ما في باطنه ويظهر عكس ما يبطن يفشل، حيث تفضحه فلتات لسانه: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: ]؛ فالقلوب قدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها تجري بما فيها، وحلاوة اللسان من حلاوة القلب، وبذاءة اللسان من نتن القلب، وأن السلوك مرآة الفكر والجوارح ترجمان القلب.

ومن هنا نقول: إن المرأة التى تحجبت فسترت عن الناس حسنها وحجبت عن الناس زينتها..وراء ذلك منها قلب عمَّره الإيمان فتَغَلَّب حب الله فيه على ما فطرت عليه المرأة من حب الزينة، فآثرت الحجاب على التبرج (معاداة لما تحبه، ومعاكسة لما فطرت عليه)؛إرضاء لربها=وإن المرأة التى تبرجت وراء تبرجها قلب ضعف إيمانه بربه، فعجزت عن امتثال أمر ربها وانقادت لشهوتها .

هلا قيل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما معناه: إن الشخصية الواحدة تتعدد جوانبها، وإنها في جوانبها المتعددة تلك قد تحسن وقد تسيء، فتُحَب من الوجه الذي تحسنه وتُبغَض من الوجه الآخر الذي تسيء فيه، وتحمد من جهة وتذم من أخرى وليس ثم تناقضا. وعلى هذا: فالمحجبة السليطة اللسان ُتحمد من جهة حجابها وتُذم من جهة سلاطة لسانها، والمتبرجة العذبة اللسان تُبغض من جانب تبرجها وتُحب من جانب حفظها لسانها..فذلك هو القسطاس المستقيم .

ثم:

بأي معيار توسم المحجبة بسوء الخلق ؟! وبأي ميزان أيضا توصف السافرة بحسن الخلق؟!

إن علماء الأخلاق قد ردوا أصول الأخلاق إلى أصلين أو جذرين اثنين، منهما تنبع الأخلاق وتنبت شجرتها وهما: كف الأذى، وبذل الندى.

وفي الأصل الأول ما يظهر جليا حسن خلق المحجبة وسوء خلق المتبرجة، فإن المحجبة امرأة عاكست فطرتها وغالبت شهوتها وما جبلت عليه من حب الزبنة وإبدائها؛ امتثالا لأمر ربها وحماية للناس من فتنتها ..فكيف يقال إنها سيئة الخلق؟..ثم لم تكتف بكف أذاها عن الناس حتى تحملت الأذى منهم، وذلك حين يسخرون من حجابها ويهزأون بلباسها: من خلال {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون* وإذا مروا بهم يتغامزون *وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون } [المطففين: ]

وإن المرأة السافرة هي امرأة سيئة الخلق بما أنها آذت نفسها قبل أن تؤذي غيرها. فأما إيذاؤها لنفسها فإنها بتبرجها وضعت نفسها تحت طائلة الوعيد النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما ..ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )=وأما إيذاؤها لغيرها فبأن عرضت على الناس فتنتها واستوجبت لهم بنظرهم المحرم إليهم العذاب الأليم من الله، مالم يتغمدهم الله بمغفرة أو بتوبة ..فكيف يقال عن امرأة هذا شأنها إنها حسنة الخلق؟! منطق عجيب.

ثم إن الحكم إنما يكون على الأغلب من أحوال الناس فهل كان الأغلب على المحجبات أنهن سليطات اللسان وهل كان الأغلب على المتبرجات أنهن حافظات لألسنتهن ؟! يبدو أننا أحيانا نسافر ونىكض في أودية الأوهام بعيدا بعيدا عن الواقع.

وهب أن ذلك متحقق بالواقع، فرأينا محجبة سليطة اللسان ومتبرجة تحفظ لسانها، فهل تزن في السوء سلاطةُ اللسان فتنةَ التبرج وإبداء الزينة حتى إنها لتذهب في هذا الزعم بفضل الحجاب والصلاة والصوم فلا يبقى لها فضل ؟! سنرى ..

إن المحجبة السليطة اللسان (على فرض وجودها) قد آذت نفرا قليلا من الناس، هم من محيطها، ثم من بعض من تعاملوا معها وليسوا كلهم.أما السافرة فقد عرضت زينتها وأبرزت فتنتها لكل من يراها من أهلها ومن غير أهلها، من يعرفها ومن لا يعرفها، فهو أذى بصري، ومحيط البصر دوما أوسع نطاقا من محيط السمع.ثم إن أذى اللسان وإن يكن مؤلما فهو أقل خطرا وأهون شأنا من أذى البصر ؛ فذاك إيذاء للناس في دنياهم وهذا أذى لهم في دينهم، ومصيبة الدين أعظم خطرا من مصيبة الدنيا.

فلو سلمنا جدا بأن ما كانت فيه المفاضلة كائن في دنيا الناس فإن المحجبة تبقى مع سلاطة لسانها أقل أذى للناس من السافرة التى تحفظ لسانها عنهم. وإذا كانت أقل أذى وكان من أصل الأخلاق كف الأذى عن الناس، فإنها تبقى أحسن خلقا أو لنقل أقل سوء خلق ممن تبرجت وحفظت لسانها ..هذا هو لسان المنطق وحكم العقل وغير ذلك حكم هوى لا ينبع من عقل ولا يصدر عن دين والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى