من دفتر فتاة مغتربة “ص، ص، ص”
دالية الحديدي | كاتبة مصرية
في الظهيرة جاءني المخاض، فحقنت بمخدر فوق الجافية “ابيدورال”،المستخدم في القيصرية لإحداث فقدان الإحساس.
فما رأيكم أني كنت أول من أحس بها حين كانت من جسدي تَمور، وأول من صفق لصعودها على مسرح الحياة، فقد وضعت في التو بين يَدَي عقب قطع الرباط السرّي، فجاء لقائي الأول بها ليُلقح الأمومة في وريدي، وبين شهقات، وزفرات، انهمر العشق مع ودق المخاض حين انفجر من الرحم إعصارًا عسلي العينين لمصرية تنافس الغيد ملاحًة وسحرًا.
اقتلعت من قبضتي لمكان على مرمى البصر، فهمست للطبية العراقية.
: ردّوها إليّ كي يَقر قلبي، أخشى التبديل.
:أي تبديل- الله هداك- البنيّة شبهك هوايا، اطمئني.
– حولين ثم فطمت، وما زال نهداي مثقلين، يئنان كقطرات مطر أنهكها الشوق للعودة للغيوم.
– شبّت الدانة، وبعد أن كنت لها رحمًا، صارت لي وطنًا، وقلدتني لقب “مامي”، بعد أن ربضت في أحشائي وحبت على عتبات أحلامي وطارت بي فلامست الشُهُبَ.
– تُراها تأويل رؤياي المتكررة حين كنت أراني أطير وأحلق؟
إن كُنتُ حُبًا، فأنت شغف البدايات، ولو عِبرة كنت، فأنت حِكمة النهايات
لا أماري..لا أماري
– كانت أشد أبنائي غيرة عليّ، كما إلتفت لضعف تحصيلها الدراسي للغة الضاد، فزارني هاجس أنها قد تعجز عن استكمال دراستها، إذ لمست مشقتها في تذكر الحروف، وفي التفرقة بين الصاد والضاد، كعروس مُترفة تعجزعن التمييز بين البقدونس والكسبرة، فكان والدها يكلفها يوميًا بكتابة حرف “الصاد” مائة مرة أو يربو.
تخط مراراً حتى تسمع صرير باب غرفته، فتدرك أنه أوشك على النزول للدور الأرضي، فتلوذ بمكتبي تستعطفني بالعسليتين.
:دخيلك أمي، إسعفيني بإسم هذا الحرف قبيل قدومه؟
:اسمه “ص”
تكرره في سرّها -كتعويذة بصارة- حتى تعود لمكتبها “ص ص ص ص ص ص ص”، لكن ما أن تصل حتى تتسلل ثانيةً لمكتبي
:رجاء، اسعفيني
أخبرها: “ص”
تشكرني عيناها وتطير لمكتبها وهي تردد “ص ص ص ص” حتى ينزل والدها ليمتحنها.
– هنالك، سيطرت عليّ أحاسيس المغتربة التي استلمت رسالة مزعجة من طبيب والدها تفيدها بحتمية ترك مسؤولياتها بالغربة، لأن جللاً له الأولوية في الوطن.
تركت عملي بالجريدة للاهتمام ب”دانتي” حتى أتمت الصغيرة الأبجديتين الثامنة والعشرين، والسادسة والعشرين.
-إن كنت الماضي، فأنتم طيف الذكريات
إن بت غيبًأ، فأنتم الباقيات الصالحات
لا أماري..لا أماري
وكثيرة هي حكاياتنا الطَّارفة، لا سيما حين اخضرت بنت الخامسة عشر فأخذت عني عشق قيادة الدراجات، وكانت صحبتها لي بالدراجة هي النعيم اللذيذ.
كنا نتسابق، فتدور حولي ككأس صهباء مُعَتّقة، فأسبقها مرة وأهذي لتسبقني بين الحين والحين.
بالأمس صاحبتني للتريض، واقترحت عليّ السباق، فرحبت، لكني وجدتها منطلقة كرصاصة، فأطلقت مدافعي، واستنفرت العزم، تقاربنا وسمعت ضجيج أنفاسي كمحرك سيارات سباق”رالي”، ثم أوشكت أن أتخطاها لكنها سبقت.
لم أستسلم،عدوت لإسعاف كبريائي، عاكست عقارب الزمن، واطلقت صرخة استغاثة للسماء، فلم تُخيب لي الرجاء، كانت الغلبة لي.
ابتهجت بفوزي كطفلة عادت من الروضة تحسب أنها حصدت نيشان البوكر، فإذ بدانة تخبرني أنها كانت تخفف من سرعتها لتتيح لي الفوز منعًا لإحراجي.
فكان ردي: ص ص ص ص ص ص ص ص
بعد التمرين، أصرت ناعمة الظُّفْر على معاودة السباق.
جاء نصري تشرينيًأ أول الأمر، لكنها بنهاية المطاف ظفرت ظَفَراً باهتًا.
قلت: ولو، ص ص ص ص ص ص ص،
“علمناهم ركوب الدراجات، سبقونا بالطرقات”.إن كنت بيداء، فأنتم الرياض والنجد أو كنت كدًا، فأنتم العِوَض والمجدات أماري..لا أماري
أمس كتبت لأبنائي، لحنطتي، لثماري:
– يا من تم تعميدهم بندى عرق الغربة في قدس الأرحام.
– إن كنت عمرًا، فأنتم شبابه
وإن كنت يمًا، فأنتم عبابه
لا أماري..لا أماري
-لكم أود أن يُصَفّر العداد عمري لتوقي لإشراقات فرص عُذرية مع طفولتكم حين كنتم ترموني بقبلة الصباح، فتسقوني كأساً من سلافة البهجة.
– معكم خضعت للتداوي بتقنية العناق.
– حيث غمرة أحدكم بأثر شريط مهدئ.
– حيث العناق بمنزلة معاهدة جسدية ملزمة لأطرافها بتحريم الخِذْلان.
– حيث منطوق ثلاثتكم المبعثر، مُسْكِر ويدفعني لامتطاء صهوة الكتابة.
– حيث ابتسامة أكبركم كانت تصب على مُدَام ليلي، ثلج النهار.
– حيث ثَرثرة عيونكم قلقًا علي إصابتي بصداع، كانت كفيلة برأب الصَدع.
– حيث ميول أوسطكم أهلتني لإعادة هندسة عواطفي.
– حيث زاوية بطرف فراشكم كانت تمنحني مكانة وتختصر الكون.
– حيث دقيقة تزلّف من جانبكم كانت تَختزل الزمن.
– حيث أفول سائرالنجوم حتمي، حياًء أمام بريق دمعكم.
– حيث صور مراحي معكم وإلقائي بكم في الهواء، كصانع “بيتزا” يتلاعب بعجينته ما زالت تشعل أمسي، فلا احرق الله لكم غدا.
– حيث صخبكم، استحال نَغْمَة لوتريات شرقية، قيثارة، بزق وماندولين.
– حيث براح العالم لحد، إذ لم تسعني سوى قرى قلوبكم التي ما عاثت فيها التطلعات.
– حيث الزهرة اخفت سِرّها بين صدور ثلاث خمائل، فنقضت عن كاهلها هَم عُتُلّ بعد ذلك ثقيل.
– حيث أضفتم لرفقكم معي مداهنة محببة، كمن مسح إلية الشاة بالسمن.
– حيث أتيه بتعلقكم بي تعلق الكُتّاب بالمقاهي، وغرام أبي نواس ببنت الخابية بعد هروبها من عروق الدّالية إلى الزق.
إن كنت دالية، فأنتم الكَرْم السخيّ
وإن داليا، فأنتم الزهر الجنّي
لا أماري ..لا أماري
-شكرا لكل “شمس..قمر” لعبناها سويًا وشكرًأ للوعود الزهرية.
-ممنونة للريالات التي كنتم تضعوها في جيب معطفي، يوم لاحظتم غبطتي كلما عثرت على النقد صدفة.
-شكرًا لقنينة العطر التي كنتم تتركوها بمخدعي لو التفتم لنفاذ عطري.
إن كنت سماء، فأنتم تردد المطر، خفق اللقالق وتحليق النسور
وإن بت مساء، فأنتم حفلة السمر، لهو الأقاحي وحبس شحرور
لا أماري..لا أماري
شكرا يا غوالي، لكن بالله عليكم لا يغرنكم تفوقكم الإكتروني، فلكم احرج مما تقومون به.
تحسبون أني متهاونة مع التعليقات الجارحة من البعض، لكني أرفض تدخلكم.
– فقد غارت عليّ ابنتي حين قرأت تعليق ورد لي بإحدى مقالاتي، لكن المشكلة أن دراستها الإنجليزية قضت على عربيتها بشكل مخزي، فقد التبس عليها الأمر حين اطلعت على تعليق جاءني من كاتب كبير فقرأته:
“اختفي من وجهي يا داليا”.
علما بأن التعليق لطيف جدًا من إنسان هو عنوانًا للرقي وفيه يسألني
:”لما أنت مختفية يا داليا؟”
اندفعت الصغيرة للرد ووجهت لمن لا تعرف مقامه وقدره تعليقًا، أقل ما يقال فيه أنه غير لائق وغير مقبول بقصد الدفاع عن كرامة أمها!
ص ص ص ص ص ص ص ص
-مسحت التعليق على الفور، وعاتبت صغيرتي وشرحت لها أن المقصود هو
Long time no see
شعرت ابنتي بالأسف الشديد، لكني جلست افكر، فلم أجد سوى الصراحة المنجية، فتواصلت مباشرة مع الكاتب القدير وأخطرته بضعف قدرات ابنتي في القراءة بالعربية وشرحت الموقف واعتذرت وكلي حرج، فتقبلني بقبول حسن دون ملامة أو عتاب، بل مازحني بلطف الكبار، وأبلغني تفهمه لغيرة الإبنة على كرامة الأم.
– كثيرة هي المواقف المحرجة التي تعود لغيرة أبنائي، أو لغضبهم لو تمالحنا، فتفوقهم الإلكتروني يجعلهم يجنحون مع الريح، فيدخلون حساباتي ويحظرون الأصدقاء خبط عشواء لمشاكستي، ثم لا اعرف بالأمر إلا بعد رَدح من الزمان لو صادفت أحدهم فقابلني وفي عينيه علائم زوبعة قادمة، فاستعلم، فيخبرني بأمر الحظر، فأوضح ….
– أنتم صغاري، لكن حين يشتد العود، قد أتغاضى لو فاحت منكم رائحة التبغ، لكن لن أتسامح لو فاحت من أحدكم رائحة البارود.
إن كنت إثمًأ، فأنتم توبتي
أما لو عثرة، فأنتم نهضتي
لا أماري..لا أماري
-لكم تأملت تعرجات البصمات العالقة بأناملكم وتقصيت تطور قياسات أقدامكم بما إعتبرته نذيرًا لساعة الترجل للرحيل.
-أعلم أن موسم هجرة الطيور قد أطلق صافرة الإنذار
فسائل العمر:ألم أحمي بستاني وشجري؟
ألم أمنع الأطيار أن تنوش زهري وثمري؟
لا أماري..لا أماري
..
أرابكم مني أمرًا لتهجرون الدّالية لحقول السنديان؟!
غلب اليأس عليّ، يا مارج البحرين أيلتقيان؟!
لا أماري ..لا أماري
– أسأل الله لكم المعالي، لكن أن يدندن أحدكم لمعشوقته تحت شرفة القلب بطقاطيق تافهة أو يلعب أحدكم بالأحاجي أوهب أنهكتم أوقاتكم بالكسل واثقلتكم هيامات اليقظة وأنكاد الواقع، فذاك عندي أهين من مشاركتكم في شن حرب ضد أي بلد، لسبي فروج النساء وسفح الدماء والسطو على الغنائم تحت شعارات مقدسة.
– أفضل أن تكونوا عُبّاد شَكٍ فيقين، عن أن تكونوا عُبّاد تركة موروثة، على أمّةٍ.
-أحذركم من ألسنة الشيوخ المرصعة بفصوص التدليس، فهؤلاء صاعهم من التقوى، خاوٍ.
– يعتلون المنابر لإقناعكم أن السراب كوثَر مبارك، وأنه وجب عليكم غض البصر عن الغيمة الحبلى كونها إمرأة محصنة وإسمها “ديما”.
-هب أقسموا أن حرب اليوم فتح عظيم، وهب ارهبوكم بفزاعة الجحيم، فاعلموا أن رغوة الأيمان من كل حلّاف مهين مآلها مصارف الحنث العظيم، فحروب المعتدي مبغي وغزواته عار، إلا لو دفاعًا أو ردًا لإعتبار.
-فكلما حُقنتم بخطاب تأجيج الحروب، فتداووا بمصل أغصان الزيتونِ.
إن كنت صوتًا، فأنتم الضوء في حنايا النفق
وإن صمتًا، فترنيمة الغسق أنتم، ترثي غياب الشفق
لا أماري ..لا أماري
-قوموا في الأسحار للصلاة فإنها تنير سُرْج الضمائر، واقعدوا لحديث مع الله في الغسق، فالملائكة كورال يؤمن على دعائكم.
-اوصيكم بإستشعار نِعَم الحاضر، فبئس من يخون يومه مع أمسه، ليعاود مضاجعته متى غدا ماضيًا!
-لا تشتروا إزاركم من متجر الأمس لإرتدائه اليوم، فيتشاجر كاسيها وعاريها.
إن كنت صلاحًأ، فأنتم صدق النوايا
أو عيدًا كنت، فأنتم من السماء الهدايا
لا أماري..لا أماري
– يركض النهر في المنحدرات فيما يتثاقل عند حافة السهول، فتدانوا قيد خطوات، وتبانوا قيد اقصى وحدات الطول، حتى لا تؤتسروا بإسم الإبتذال أو ينصرف عنكم بإسم الفتور.
إن كنت ارضاً، فأنتم لي الدليل والسبيل
أو غدوت الصادي، فأنتم العذب السلسبيل
لا أماري ..لا أماري
– حتمًا، لو قابلكم “درويش” لوضع ثالوثكم على رأس “ما يستحق الحياة”.
– قد أكو أسن منكم بثلاثين إخفاق، وعقدين من ترهل في الأهداف، وسبع حقن من “البوتوكس”، ونصف قرن من الإصرار، بيد أنني أشعر أننا أتراب أو قد أصغركم بدمعة تمحوها قفزة “تسونامية” في المسبح.
– في يومٍ خريفي آتٍ، سأكون مدججة بالتجاعيد
وستكونون مخضبين بالرفاه،
فإن نسيت الأسماء والحروف،
فتذكروا “ص ص ص ص”
ولا تنسوا أني كنت لكوانين أحزانكم، مظلة.
-إن كنت شتاء، فأنتم الغيث، الغيث
أو غدوت خريفًا، فأنتم الغوث، الغوث
لا أماري..لا أماري
– لكم أسرفت في الربت على موائكم بين ضلوعي، فرفقًا بتغيرات فصولي، لا تغضوا الطرف عن “أيلولي”، فقريبًا ستراودني برودة المنية عن حرارة الحياة.
إن كنت فصلأ، فأنتم حضن الربيع
أو صرت عينًا، فأنتم “فالس” الينابيع
لا أماري ..لا أماري
تذكروني حين أتوسد الثرى في أحضان العراء.
فإن لم يعد لتوقيعي مكان في دفاتر حضور الأحياء، فسأستطيب زيارتكم لكوخي بمجمع الرحيل.
-ضعوا عليه زهرة الداليا البيضاء.
-وزعوا عناقيد الدّالية على أطفال المقابر.
-هادوني بالدمع النبيل.
-امضوا معي وقتًا زهريًا دون الإلتفات لمعصمكم.
-تداولوا ذكرياتنا معأً واجهشوا بالضحك.
-وحدي صدّقت أوهام طفولتكم، فكلما صببتم في أذني كذبة، كنت أكذب عين الصدق.
-سأحب الإستماع لمحاكاتكم لمنطوقي، وسأطرب لعاداتكم في التهكم على لثغتي.
-اقرأوا عليّ بصوت حنون أبياتًا من قصائد “مرام المصري”، “جبران، إيليا والمتنبي”، زاهي وهبي”، “صلاح الوديع”
وبصوت الكبرياء، اسمعوني مقبوسات من كتابات “لينا الهويان”، “سُكينة حبيب الله”، “ادوارد سعيد”، “كافكا”، “محفوظ”، “ديستويفسكي”،”بلزاك”.
وبالزهد تغنوا لل “الحلاج”و”رسول حمزاتوف” وبعض من كتاباتي.
واحفظوا عني: “السعادة ليست من المؤجلات”
– حبذا لو قرأتم لي ما تيسر من الكتب التي لم يسعفني العمر لمطالعتها.
– أود سماع تلك الآية من سورة “ص” بصوت دانة
“أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ”.
-استوا للفراق، والقوا نظرة على ما كُتِب على الشاهد.
“طوبي لمن توضأ بكأس مديح الأحياء،
وتعسأ لمن اغتسل بدمع رثاء الموتى”.
– ما ضركم لو عدتم لمزاري، لأرد لكم زيارة -غير خاطفة- في المنام؟
إن كنت غديرًأ، لا تغادروني كالسيل
وهب صرت حَرَضًا، لا تميلوا كل الميل
لعلي في سبيلي إليكم أماري
سأماري..سأماري