لغط مثار.. حول تتابع صيام التسعة من ذي الحجة
رضا راشد | الأزهر الشريف
مع قدوم العشر الأوائل من ذي الحجة في كل عام يثور لغط حول استحباب صيام التسعة الأيام الأول من ذي الحجة؛ أو الاقتصار على بعضها.
حيث يحتج أصحاب هذا الرأي (الثاني) بأنه لم يثبت في حديث صحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صام التسعة أيام؛ بل قد ورد العكس فيما رواه أبو داوود وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صائما العشر قط”. ويتكئون على ذلك في تعضيد مذهبهم وينشرونه بين العوام فيقعدون بهم عن الاجتهاد في العبادة بتتابع الصيام، بل ربما يبلغ الأمر ببعصهم إلى تبديع من يقول باستحباب تتابع الصيام في هذه الأيام .
والذي أدين به لله – عز وجل – استحباب تتابع الصيام في هذه الأيام ولا حرج؛ أخذا بالعموم المفهوم من لفظ 《العمل》 في الحديث الذي هو أصل هذا الباب “ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر” أو: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منها في هذه العشر …” ؛ حيث إن لفظة (ال) في العمل للجنس مرادا به الاستغراق؛أي كل عمل صالح، ومنه الصيام، كما قال ابن حجر في فتح الباري: [واستدل به -أي بالحديث – على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل]؛ فلسنا _ إذن _ في حاجة لدليل آخر في خصوصية الصيام؛ وإلا لكنا في حاجة لدليل آخر خاص بكل عمل صالح آخر يندب دعوة الناس إلى فعله في هذه الأيام؛ كأن يقال: ايتونا بدليل على أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقرأ القرآن أو يستغفر أو يتصدق..إلخ في كل يوم من الأيام العشر. ولا قائل بهذا؛ لأنه سيقال في الجواب: وما حاجتنا لدليل خاص وقد أغنانا الدليل العام الشامل لكل ما يدخل في نطاق العمل الصالح .
إذن :
فيستحب صيام الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة كلها ؛ عملا بالعموم المفهوم من لفظ (العمل) في الحديث ولا التفات لمن يطالب بدليل خاص ،وإلا لاطردت المسالة فيلزمه إحضار دليل خاص في كل عمل .فإن صام بعضها وترك بعضهافلاحرج ؛فإن لم يصم إلا يوم عرفه فقط فلا حرج ولا عقوبة؛ فإن لم يصم عرفة أيضا فلا حرج ولا عقوبة؛ لكنه سيحرم نفسه من أجر عظيم ، وكفى بحرمان الأجر عقوبة وبالأجر مثوبة .
ومع ذلك :
فقد ورد الدليل الخاص فيما رواه أبو داوود في سننه وكذا النسائي والبيهقي وصححه الألباني عن هنيدة بن خالد عن امراته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت :”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة وعاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر “
فإن قيل :
أفلا يعكر صفو ما ذهبت إليه حديث عائشة السابق من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير صائما العشر قط ؟
فالجواب:
أولا :ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 524/2 من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله ؛خشية أن يفرض على أمته ” ؛فلا تنافي إذن بين هذا الوارد والقول بالاستحباب؛ لاتضاح علة الترك النبوي في الخوف من أن يشق على أمته بتوهمها الفرضية .
وثانيا : بتأويل أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر لعارض: كمرض أو سفر أو غيرهما،وهذا طبيعي؛ لأن الصيام مستحب ، فيجوز فعله وبجوز تركه.
وثالثا:أن الحديث لم يتضمن صراحة نفي صيام النبي صلى الله عليه وسلم للأيام التسعة؛ لأن عائشة رضي الله عنها لم تنف الصوم بل نفت الرؤية فقالت :”ما رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – صائما العشر قط ” ولا يلزم من نفي الرؤية نفي الصوم؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يكون عندها في ليلة واحدة من التسع والباقي عند أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن جميعا (ذكر ذلك النووي في شرحه على مسلم 71/8) .
فثبت بما سبق استحباب صيام الأيام التسعة مع التأكيد على من يصومها بأن الحكم مستحب لا واجب وأن تتابع الصيام ، طمعا في الثواب لا خوفا من العقاب ؛إذ لا عقوبة في ترك المستحب .
هذا …والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم .