رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها: وفاء كمال (24)

قاع الدم الأول ( 24 )

بدأت القوات الإسرائيلية تلملم أشلاءها , وتسحب آخر قواتها من أطراف القرى . بعد تدخل القوات السورية من أجل إخراج مجموعة أسرى .بينما كان الجنود الإسرائيليون يعرضون الصور التذكارية التي التقطوها أثناء اجتياحهم للضيعة ،تتصدرها صورة المرعية وزينب بو نمر وهما تجثيات فوق جندي إسرائيلي وتشبعانه ضربا ثم تمرغ المرعية وامرأة اخرى رأسه بصندوق القمامة .


كانت معالم الفرحة على وجوه الإسرائيليين واضحة لأنهم نجوا من موت مؤكد .وحرب لم تكن عادلة أو مبررة .وكانت الأجواء في فلسطين متوترة . في كل يوم تعقد المناحات تتمنى أن يرقد شارون في المقابر بدل أبنائهم .وعُقِدت في إسرائيل نفسهاعدة اجتماعات نددت بالجرائم التي ارتكبتها الطغمة العسكرية بحق الشعب اللبناني والفلسطيني . وقامت مظاهرات كثيرة بداخل إسرائيل لأنها دفعت في اعتدائها على لبنان أكثر مما دفعته في حرب تشرين . وطالب عدد من جنود الاحتياط الذين اشتركوا بوقف العمليات الحربية على الفور واستقالة وزير الدفاع ( آرييل شارون ) واحتج مئة ألف متظاهر لوقف الحرب واستقالة وزير الدفاع ورئيس الوزراء ( بيغن ) . وصرح جنود إسرائيليون أنهم لايرغبون بالعودة مرة أخرى إلى لبنان في رسالة لصحيفة ( جيروزاليم بوست ) بأنهم سئموا أن يُقتَلوا ويَقْتِلوا .بدون معرفة السبب. وفي لبنان عقدت حلقات الدبكة لعودة بعض الأسرى .حيث أُفرج عن زياد ومريم لبايا وفواز أصغر الأسرى وأفرج عن ثائر لعدم ثبوت انتمائه لمنظمة العمل الشيوعي وعن كرار الذي استطاع بشدة عزيمته واصراره وصبره وتحمله لأقسى أنواع العذاب دون أن يشي برفاقه وكانت زوبا وسراب التي تكور بطنها قليلاً والأمين في مقدمة المستقبلين وقد غزت الفرحة عيونهم . وملأت السعادة قلب كرار وافتر فمه عن ابتسامة عريضة ناسياً ألم فكه الذي انكسر في المعتقل، وقد عادت الروح الى قلبه. حين قالت أخته منذ افترقنا وأنا لم أعد أرى للكون أيّ لون ، ولا أسمع سوى نبضات قلبي المتسارعة التي تهمس باسمك في كل دقة، واستقبل أهل القرية الأسرى بالهلاهيل التي أعطت الفرحة ألقاً كبيراً حيث كانت عودة الأسرى بمثابة عودة الروح إلى الجسد بعد فقدانها .
لكن فهد الليل بدأ السهرة كعادته ..فقال: إن هذه الليلة الباردة لاتسخنها سوى امرأة متفجرة مثل ناجيّة . أراهنكم انني سأشاركها الفراش اليوم .وكأنه يعني مايقول : خصوصاً أن العميل جوني بات الأمل بشفائه مفقوداً بعد إصابته بالانفجار الأخير .فالطريق إليها بات خاليا” فسيحاً كالحلم . قال الأمين :
ـ عليك أن تجلدها مئة جلدة .لا أن تدنس نفسك بها
كان ذلك الحوار ممزوجاً بصوت تحطم الموج على الصخور الناتئة. وثائر يجلس قرب النافذة وقد وصلت اليه قطرات باردة ومثلجة جعلت القشعريرة تدّب في جسده .. ذكَّرَتْه بالنهر الذي كان يمتد عند قدميه أسوداً كالكحل ..والقوارب المطَّاطية السوداء التي كانت تهتز مع ارتجافات الماء , فيميزها لامعة قاتمة , ثم يضيئها البرق .
لم يكن الإحساس الذي يخامره في تلك اللحظات عادياً . فإذا كان الرعد والبرق ينزلان الخوف والإحساس الصميمي بتفجر الليل فإن ثائر كان ينظر إليه كحالة تتضامن فيها سماء سحمر مع أبنائها تماماً كما كانت تتضامن الكلاب معهم .ففي البداية كانت الكلاب تخرج ليلاً وتهاجم المقاتلين بالنباح العالي . لكنَّ الأمين قال يومها :إنَّ الكلاب لم تكن تنبح بل تهتف لنا وتقول : إنها الرادار الذي يكشف لنا حقيقة الإنفجارات ومصدرها. وقد تعلَّم أهل القرية من طريقة نباحها طبيعة العمليات التي يستيقظون عليها ليلاً .
فإذا انطلقت الكلاب نحو النهر والأودية العميقة يعرف أهل القرية ان رجال المقاومة قريبون ..وإذا انطلق النباح باتجاه الطريق العام فمعنى ذلك أن العدو قادم .
.كان فهد الليل لايزال يختلق مغامرات وهمية ويتحدث عن ناجية وجوني لحد ونورهان .ويضحك لكن يعود وينتابه الوجوم كلما تذكر المجزرة ووجوه الأحبة الذين فقدتهم القرية في المجزرة وأثناء القصف الاسرائيلي للقرية , ويعود ليضحك وهو يحكي لأصدقائه كيف طارت أواني مربى البندورة من سطح أبو نزيه مع القذيفة ونزلت فوق السيد شريف . فركض إليه عناصر الإسعاف وحملوه فأخذ يصرخ باستغراب : ( مافيي شي ياعمي ..والله مافيي شي ؟) . فقال أحدهم :مازال جرحك ساخناً ياعم ولن تحس به الآن . فمد إصبعه وغمسه في رأسه ثم دسه في فم المسعف ..فانفجر الأخير بالضحك . .كان الجميع يضحكون لكن سرعان مايعتلي الوجوم وجوههم حين يتحدث عن نورهان. حيث ينقسم المجتمعون إلى فئتين فئة تدافع عنها وتعتبر أن خالتها ناجية هي المسؤولة عن استقبال العملاء، ويجب تصفيتها لوحدها، وفئة تطالب بتصفيتها مع خالتها .
قال البعض: إنها كانت تبكي على أهل القرية يوم المجزرة ، ولم يفسح أحد لها المجال للتعامل معه لمعرفة معدنها الطيب .فمن كان يعتقد أن جوني ابن القرية المجاورة سيصبح عميلاً ؟ وهل كانت نورهان تضرب بالمندل ؟إنه العدو عرف كيف يبث التفرقة بين النفوس ويشحنها ،ونورهان ليست ” ونستون تشرشل ” لتعلم انه ليس في السياسة عدو دائم أو صديق دائم ، بل هنالك مصالح دائمة .
يتبع ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى