قراءة تأويلية لـنص ” من أنا؟ ” للشاعرة السورية نبيهة جرجيس
باسم عبد الكريم الفضلي | العراق
أولا- النص
شمسي الآن
لم تخرج من قلب
.الظلمة
تنام كاهل الكهف
فتيانها السبعة
.انني اتنفس ذاتي
احيا مع حروف قصيدتي
انا خمرة العنب المر
اشرب ثورة اللهب
المندلع من ذاتي
يا زرادشت
معلمي
انا تحت شمسي الخجولة
تسبق القصيدة
كل قوافي شعري
لحنا مركبا من التعقيد
…..حداثة الحرف
وطهر الكلمة
لا زورد ابجديتي
انتظار
سحر الضوء
ابحث عن ذاتي
ابنة الكهوف
وما زلت اجهل
تطور الزمن
نصف الجواب انا
ونصف آخر اجهله
ولن اخجل
ساعود الى رحم امي
استجدي من حبلي السري
العودة
الى عالم
. …لم يعد فيه قيمة للسؤال
اركب العاب
المراكب التي تسبح
فيها
بقايا روح
تمثال من مملكة الضباب
ومدن الملح
تجتاح السؤال
صدقوني ايها السادة
الحياة بدون سؤال صعب
احجية اللا جواب
هي الاجمل
سقط اللغز
فعرفت ذاتي
والحقيقة…
ثانيا القراءة :
تثير العتبة العنوانية / من انا ؟ سؤالاً وجودياً قديم قدم الانسان في هذه الحياة ، ويظل جديداً جدة الحياة في سيرورتها صوب لانهاية معلومة للزمن ،وهو يضعنا امام اشكالية فلسفية ميتافيزيقية ، عن ماهية الوجود ومنه الوجود البشري
والكينونة والواقع …الخ ، وما يقابل كل هذا كالعدم ، الفناء ، الخ
والسؤال يسكت عن دلالة ( الشك ) ، فكل سؤال له ركنان : سائل / مسؤول عنه
وحينما يكون المسؤول عنه هو ذاته السائل، فهذا يعني انه يشك بذاته وفق هذه المقاربة :
انا اسألني من انا = انا اشك بذاتي
ولما كان السؤال / الاستفهام هو طلب العلم بشئ غير معلوم ، فهذا يعني ان الشاعرة تطلب ان تعلم من هي ؟ ، فما الموجب لشكها بما هو قائم ، وتداعيات هذا الشك المصدع لمعناها الانساني ، مما يفضي الى شعورها بالغربة الوجودية. واذاماكانت قد انتهت الى العثور على الاجابة الناجعة عن سؤالها ، فمن هو المخلص المنقذ الذي هداها لتلك الاجابة اليقين / نفي الشك ؟
ولأقرب جدلية الشك / اليقين هذه ، بالمقابلة الدلالية الاتية :
لايقين + لامعنى + عدم = شك / مخلِّص + معرفة الذات + وجود = يقين .
ثيمة النص تدور حول هذه المقابلة الجدلية ظاهرياً … لكن أهي ( الثيمة ) كذلك
فعلا ً أم ان النص يخفي عكس مايظهره ؟
يستهل النص رحلته بذكر موجبات الشك :
.(….شمسي الآن
لم تخرج من قلب
.الظلمة )
الاشارتان ( شمسي / الظلمة ) لهما دلالتان :
الاولى تتولد بإحالتهما داخلياً على الاشارة ( زرادشت ) المقامية السياق ( خارجية)
وهو سياق : تاريخ الاديان / الزرادشتية ، فهو نبي هذه الديانة قسم الوجود إلى نور/ الخير وظلمة/ الشر
ولكلٍّ الهٌ ، وهما مشتبكان في صراع محتدم للسيطرة على العالم ينتهي بانتصار الاول / اله النور
ولهذا النور عدة اشارات دلالية كالنار التي عُبدت ، الشمس ..ألخ ) . والنور واشاراته تعني الرشاد ، الهداية وتيسير سبل الخلاص من ضديده الظلمة واشاراتها الضلال و مرادفاته .
بذا فإن الدلالة الاولى للتقابل (شمسي / الظلمة ) المتولدة عن هذه الاحالة = الرشاد / الضلال
أما الدلالة الثانية لهما فتكافئ دلالياً التقابل العلم / الجهل ، وفق السياق اللغوي الاصطلاحي بالإتكاء على معجم المعاني الادبية للاشارات الدلالية
ومن مرادفات العلم اللغوية : العقل / الفكر / الوعي فتكون المقاربة التأويلية لهذه الدلالة : عقلي الآن مازال اسير الجهل غير ان (اسرَهُ ) متحقق في الوقت الحالي حسب ، فالظرف الزماني / الآن مخصوص بالوقت الراهن لا يتعداه للمستقبل ، ففكاك العقل من أسار جهله قد يحصل في اي أوان بعد انقضاء زمنها الحاضر، كلمة ( الان ) اذاً هي مفتاح النص ، بعد ان خلا العنوان منها.
بتجميع مقاربات الدلالتين السابقتين تكون تأويلية معناهما :
رشاد عقلي اياي في الوقت الراهن يغيبه سحيق الجهل
وتسترسل الشاعرة في ذكر مغيّبات تفكيرها في الاشارات التي سأمر عليها في ادناه مع مقاراباتها الدلالية بشكل موجز :
( تنام كاهل الكهف ) :
المقاربة / سبات العقل القسري ، هنا الشاعر ترسل تلميحاً ان عقلها كان مستتراً في اعماق الانزواء بسبب تعارضه مع (آخر سلطوي ) ، هذا ماتكشفه الاحالة الخارجية للاشارة المركبة / اهل الكهف : قصص القرآن ، فان ما كان يحمله ( فتيانها السبعة) من فكر ايماني متقاطع من اخر وثني سلطوي ، حملهم على الانزواء بعيدا عما يتهدد وجودهم ، كما تعزز تلميحها ذاك بتأكيدها على ايمانها بكينونة ذاتها ( موضع الشك ) فهي تتنفسها :
(انني اتنفس ذاتي ) / استمرارية الحياة ، لاتكون الا مع ماهو موجود ، وهي ذات وعي منتج :
(احيا مع حروف قصيدتي) / القصيدة نتاج وعي خلاق ، وان كانت الذات معذبة :
(انا خمرة العنب المر) / فهي تعنصر ذاتها بقسوة كي تهب النشوة لغيرها ، بينما تثمل هي بإحتراقها :
(اشرب ثورة اللهب / المندلع من ذاتي) / اللهب بإستحضار النار الزرادشتية ، له دلالة الفكر النيّر الطارد للجهل / الظلام فهو (ثورة) لكنها مؤجلة دفينة في اعماق الذات .
بعد عرض موجبات الشك ، التي ابانت الاحالات الخارجية والمقاربات الدلالية لاشاراتها ، انها موجبات ظاهرية حسب ، نفاها نقيضها الذي سكتت عنه كما اتضح في اعلاه ، استدعت الشاعرة مخلصها الذي علمها ان الذات يتوزعها صراع (المعنى) ومقارباته الدلالية تلك التي سبق ذكرها ( الخير ، النور ، العلم ) واللامعنى (الشر ، الظلام ،الجهل ) ، والغلبة ستكون للاول ، فراحت تناديه :
(يا زرادشت معلمي ) لتبوحه مكنون ذاتها ، وهذا تلميح الى شعورها بالعزلة وافتقادها من تبثه هموم صراعها الداخلي التي يتضمنها هذا المقطع الطويل وساشير على عجالة لمقاربات معنوية لعباراته :
( انا تحت شمسي الخجولة) / هي متردده عن الافصاح عن هموم ذاتها العاقلة اولها :
( تسبق القصيدة ) / مشاعرها تسبق
( كل قوافي شعري ) / تكلفها
( لحنا مركبا من التعقيد ) / نبضها مضطرب
(…..حداثة الحرف )/ غير مألوف الصدح
( وطهر الكلمة ) / صادق البوح
( لا زورد ابجديتي… انتظار) / لكن جمالية لغة مشاعرها مؤجلة
( سحر الضوء ) / حتى يلونها سحر الحقيقة ( من مرادفات الخير والعلم )
الهم الاخر : حيرتها وهي تحاول اكتشاف ذاتها الموزعة بين محطات الزمن العتيقة :
( ابحث عن ذاتي
ابنة الكهوف
وما زلت اجهل
تطور الزمن )
فهي لاتعرف سوى نصف الجواب :
( نصف الجواب انا
ونصف آخر اجهله )
فيدفعها شعورها بدورانها في دائرة مفرغة ، مع عجز مخلّصها المعلم عن هدايتها للحقيقة سوى تنبؤه بانتصار النور على الظلام ، والنبؤة انما محض افتراض يحوم في افق الخيال بلا اجنح يقين ولا موعد محدد لنزوله الى ارض الواقع حقيقةً ناصعة ، فتقرر ان لا للحيرة بعد الان : ( ولن اخجل )
فجاءت بما ينفي مستقبل الحيرة ( لن ) والشاعرة هنا احالت ضمنياً على الظرف الزماني ( الآن ) السالف ذكره ، لتعلن انقضاء اوانه ، وتقرر عودتها الى عالم البداية حيث لا اسئلة ضبابية :
( ساعود الى رحم امي
استجدي من حبلي السري
العودة
الى عالم
. …لم يعد فيه قيمة للسؤال
اركب العاب
المراكب التي تسبح
فيها
بقايا روح
تمثال من مملكة الضباب
ومدن الملح
تجتاح السؤال )
فقد اكتشفت ان الحياة ستكون الاجمل ان عشناها بدون دوامة سؤاال يحيلها الى احجية مالها جواب :
( صدقوني ايها السادة
الحياة بدون سؤال صعب
احجية اللا جواب
هي الاجمل )
وهنا تعلن الشاعرة تهافت السر ، فعرفت حقيقة ذاتها :
( سقط اللغز
فعرفت ذاتي
والحقيقة…)
النص يسخر من ميتافيزيقا الاسئلة العقيمة التي تغرق الوعي في متاهة البحث في معنى المعنى ، في عالم اللامعنى ، فلايزيده الا غموضاً وحيرة .