زَمَنٌ آخـَـــرُ (قصة قصيرة )

الدكتور موسى رحُوم عبَّاس | أديب سوري يقيم في الرياض

يغمض عينيه الشَّاعر، ويشرب من زجاجة لا تظهر علينا نحن الجمهور الذي احتشد في صالة المركز الثَّقافي في العاصمة منذ ساعتين تقريبا. وعازف العود يحاول إصلاح المايكروفون الذي سيبثُّ الموسيقى المرافقة، وفي كل مرة يفشل، ويصدر صوتا صارخا يكاد يصمُّ الآذان، ويتلقى السباب بتمتمات من بعض الحضور، ولا أظنه يسمعها. يعيد الشَّاعر ضبط نظَّارته على أرنبة أنفه بحركات سريعة غاضبة، تعلو الجلبة، أصوات وقع الخطى تقترب، يميل عليه شابٌ بملابسَ رسميةٍ، يهمس في أذنه، يقفز من كرسيه مثل من لدغته عقربٌ صفراءُ، ليقفَ في البوَّابة مصافحا راعي الأمسية، مشيعا له إلى مكانه في صدر الصَّالة والذي يحمل ورقة كُتب عليها “محجوز.”

في بداية دراستي في كلية الآداب كنتُ مُعْجبا بالشُّعراء الذين لا نراهم إلا في صورهم التي تزين الصُّحفَ الرَّسميةَ، صورهم التي لا تتغير، وهم يظهرون في مقتبل العمر دائما، ولا يكبرون. أقرأ “قصائدهم،” وأعترف أنني لم أكن أفهم معظمها. تظاهرت بالفهم، حاولت توظيف ذلك في علاقاتي العاطفية، توقفت عند الكثير من العبارات المتكررة: الثورة، العشب الأزرق، خلفاء الرمل، الصَّعاليك، وكان سريره فوق الماء، مساحة حزننا، تداخل أعضائنا. اكتشفت متأخرا أنني كنت معجبا بشعورهم الطويلة، والغليون الجميل، ولحاهم المشذبة، وقبعاتهم الأوروبية.

ولولا التَّصفيق الحادُّ الذي علا فجأة في الصَّالة، لبقيت مسترسلا في أحلامي، لم أستطع تحديد سبب ذلك التَّصفيق، رُبَّما يكون للشَّاعر، أو للاسم الذي حشره في تقديمه لشعره. كنتُ سعيدا بتلك المرأة البدينة التي تحجبُ المِنصَّة عني – الأصح، تحجبني عنها – لكنَّها لا تستطيع منعَ وصولِ الزعيق إليَّ، وجُمَل الشاعر المتداخلة مع حركة يديه التي ترافقها كأنها تشرحُ غموضَها. كنتُ أعدُّ الأوراقَ النقدية في محفظتي، لأتأكدَ من ملاءتي المالية الكافية لتغطية مصاريف العشاء لأبنائي، بينما يتسلَّم الشَّاعرُ درعَ الإبداعِ، ومعه ورقة صغيرة. أراهُ قد ابتعدَ عن النَّاس قليلا، ليفتحها، هز رأسه وعلى شفتيه ابتسامة الرِّضى، يقول راعي الأمسية في ورقته: “لا تنسَ القصيدةَ التي ستلقيها في عيد ميلاد أميرتنا الصَّغيرة بوران، وحلاوتك جاهزة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى