حوار بين تشكيل وسرد.. ندوة و معرض “ذلك الغريب”
د. هبة الغنيمي | مصر
سؤال ربما يسأله كل مبدع في عالم الفن الواسع … هل يمكن التخاطر بين الفنون؟، لأن الكتابة و الفن التشكيلي لغتان لفلك انساني واحد، وأن للفن أدوات كثر هي جواهر ترصع تاج الابداع و الجمال، لكل جوهرة سرها الخاص .
فالتشكيل هو رؤية بصرية من خيال يعيد انتاج الخبرات المعرفية و الشعورية مختزلا في رمز و لون، أما السرد فهو يأخذك في رحلة لتشهد تفاصيلها مجسدة في كلمات . و كلاهما لابد أن يعبرا بالخيال كما عبرا بالواقع المعاش .
في رأيي الخاص كفنانة تشكيلية و قارئة للادب بداية من الادب الروسي المترجم الى الادب العربي، قبل أن أصبح معنية بمجال التاريخ و الحضارة على المستوى الاكاديمي ، ليس كل ما يتم سرده يتخاطر مع التجربة التشكيلية وهذا ما فاجئني كثيرا في أدب الاديبة المبدعة مريم هرموش، حيث وجدت لوحاتي تمر على ذاكرتي كشريط فيلم… ، فكيف حدث هذا التقابل بل والدمج بين تجربتين أو حياتين، يمكن أن تتشابه الخبرات ولكن لا يتشابه الاحساس بكل هذه الاريحية بين التشكيل و السرد الروائي او الشعري … مما استوقفني و من هنا جاءت تلك الفكرة الفريدة و المنطقية في ذات الوقت لمعرض و ندوة مناقشة رواية ” ذلك الغريب ” .
و الحقيقة أن هذا التناص حدث تحديدا مع رواية ” ذلك الغريب ” رغم قرائتي لأعمال الاديبة المتميزة مريم هرموش مثل ” أكبر من العشق ” و ” شيء مني ” ، الا أن ذلك الغريب رواية من نوع متفرد … ترصد ثقل الواقع على أكتاف الحلم الإنساني بعالم يتسع للمحبة … عالم أصبح الإنسان فيه غريبا عن حقيقته و عن كل ما يستحق اليقين …، الشر و الخير صراع أزلي … و لكن في ظل التحدي السافر للإنسانية التي تمارسه حكومات العالم على إنسانية الإنسان بالحرب البيولوجية طمعا في المزيد … يقع الحب فريسة …
تناول شخصية مادية كارهة للحب و متعلقة بالمال و السطوة المرضية ك مدحت في مقابل إنسانة و فنانة تشكيلية و ام محبة ك أريج … هو ذاته المواجهة بين خير و شر … عولمة هذه المواجهة برصد تأثير كورونا على العالم جعل العمل مواكب تماما للأحداث … مما يجعله هاما و منفردا …
تقول مريم هرموش ” الحب وحده قادر على ان يضيء خيبات الروح مهما ساد ظلام العالم من حولنا ، الحب موجود في الرواية و هو بطل الرواية الحقيقي الذي اصبح غريبا في عالم مادي مسيس يستدعي كل اسباب الموت للذات الانسانية الفطرية ، ان انتصار المحبة حتى في ظل الموت انتصار للخير بكل شفافية و براعة ، أكبر تجليات الحب في الرواية في رايي هي الامومة التي تبقينا على قيد الحياة رغم القسوة ….. لان فيها سر الحياة المقدس ، ” انها الامومة المجردة ، الامومة و حسب ” كما قالت مريم هرموش .
اللغة الشعرية عندما تتحدث مريم هرموش عن معاناة المحب و عن التطلع لعالم أفضل تشمله المحبة الواسعة ، ملمح متفرد في طريقتها في الكتابة . تكتب كل شخصية بضمير الانا لا ضمير الغائب – كل له تجربته يتم تناولها و كأن – او هكذا شعرت – كل شخصية في مكانها المغلق عليها بداخل صندوق كبير هو الحياة في ظل الكرونا رغم علاقة الاطراف ببعضها البعض . الا ان كل شخصية أغلقت عالمها على نفسها و تعاملت مع الاخر على مستوى التصور أكثر من الواقع و هذا بالضبط ما يسعى اليه اصحاب الحروب البيولوجية في وقتنا الراهن و يكون بذلك انتصارهم الحقيقي ….. هو تجريد الانسان من كونه كائنا اجتماعيا …. يموت الحب و ينتصرون .
لدى مريم هرموش بنية حوار لا تخل بالسرد مما يجعل الرواية سينمائية الطابع ، نتمنى أن تتحول فيلما عن قريب . كل شخصية هي قصة وحدها – كل له قصته ” السرد العنقودي ” ، فجميل ان تقع عينيك على وصف احدى الشخصيات ، لان مريم ترصد الشخصية و تصفها دون تدخل يذكر و كأنها تصف لك فقط مع من تتعامل في قصتها و تعطي لك كقارىء فرصة مشاركتها تحليل تلك الشخصيات ، فلا تلقى بظل اناها على ابطال الرواية ، ليجد القارىء نفسه في حالة سرد داخلي و كأنه يرى لوحة ، فالانسان في الرواية كاللوحة يجب قراءة خطوطه لفهم معانيه المستترة حتى لا يتحول الى غريب .
تقول مريم هرموش ” ليس أثمن من يقينك بأن هناك من يحبك صدقا ويهتم لك ” ، عبارة تبدو بسيطة للغاية و لكنها تقول الحق فليس هنا أثمن من الحب ، اليقين بالحب يتأتى عندما نحب بيقين .
تقول ايضا : ” لا عمر للحكمة أمام الحاح الفضول ” – بليغة هذه العبارة و تلخص جدلية انسانية منذ الازل ، فالفضول و الشغف صفة انسانية هي جوهر رغبته في المعرفة و نجتاز بها طرقات الحياة لنصادف الاقدار و تلعب معنا ، فكم من فضول قاد الى الجنون ، و كم من فضول ذهب بنا الى بحار السلام المعرفي المقيم ، يؤكد هذا العمل الروائي : أن اليقين بالحب هو ما يؤدي بنا الى طريق السلام و غاية الحياة على الارض . و هي كالفارق بين ان تحترم قبرا او ان تنبشه لتعرف ، و للمعرفة وسائل اخرى حين نلتقي بأرواحنا . ثم تقول: ” كل يقرأ خطوطها و سحر ألوانها بطريقته التى تعكس خفايا و أسرار ذاته ” وهكذا تماما هي الحياة ، كل له بصمته و كل له قراءته … نقرأ تفاصيل الحياة عبر ذواتنا فتنبت بين كفى كل منا حكمة خاصة به ، و بذا تقدم لنا الحياة ألاف الاوجه لشيء واحد . و تلك فلسفة الوجود .
مع الاوبئة و الكوارث يختبر الانسان انسانيته ، فاما أن يقف على باب الغربة وحيدا أو أن يفتح باب قلبه ليتسع للمحبة و يغدو انسانا ، رصدها لتلك التجربة الانسانية في غاية التميز و الرقة و الشفافية . اخيرا ….. ذلك الغريب في رواية مريم هرموش يمثل الحب ، العودة الى الذات رغم الغربة ، النبض الحي ، الشغف البكر ، عالم الحلم النقي ، الخلاص ، حياة متجددة خارج حدود المادة و هو النور الذي بداخلنا . و هذا ما وضعته على الورق تشكيلا و رمزا و لونا .